يمتاز الفقه الإسلامي بقابليته للتجديد، وقدرته على مواكبة المتغيرات الزمانية والمكانية، وإذا كان في الفقه جوانب غير قابلة للتغير مهما تغير الزمان والمكان كالمسائل العبادية لأنها أمور توقيفية، إلا أن الجوانب الأكثر في الفقه قابلة للتغير والتجديد، ويلعب الزمان والمكان دوراً مؤثراً في تغيير الأحكام الشرعية بسبب تغير موضوعات تلك الأحكام، أو نتيجة لتغير متعلقاتها، أو لتعدد القراءات للنص.
فالأحكام الشرعية تتبع موضوعاتها سلباً أو إيجابياً، فإذا تغير الموضوع تغير الحكم الشرعي، والأمثلة على ذلك في الفقه كثيرة، فقد كان الفقهاء قديماً يفتون بحرمة بيع وشراء الدم لأنه لا يجوز بيع كل ما لا منفعة فيه، والدم لا منفعة فيه كما كان يرى الفقهاء قديماً، ولما اكتشف العلم الحديث فوائد الدم وأنه يساهم في إنقاذ المرضى الذين يحتاجون إليه أفتى الفقهاء بجواز بيع وشراء الدم، لأن الموضوع قد تغير وبالتالي يتغير الحكم تبعاً لذلك، وهذا لا يعني أن حكم الله قد تغير، بل الذي تغير الموضوع، فالدم أصبح فيه منفعة كبيرة، وما دام الأمر كذلك قال الفقهاء بالجواز، ذلك أن الأحكام الشرعية تابعة للملاكات والمصالح والمفاسد، فالأحكام تدور مدار المناط والملاك، فلو كان المناط باقياً فالأحكام ثابتة، وأما إذا تغير المناط بسبب الزمان والمكان تتغير الأحكام أيضاً.
كما أن للزمان والمكان أثراً في تغيير المفاهيم الفقهية فقد كان الفقهاء قديماً ينظرون إلى البيع بمنظار ضيق جداً، ويعرفونه بنقل الأعيان وانتقالها، ولا يجيزون لذلك بيع المنافع والحقوق العامة؛ لكن تطور الحياة وانتشار بيع وشراء المنافع والامتيازات والحقوق دفع بالفقهاء المعاصرين إلى إعادة النظر في ماهية البيع وحقيقته؛ فأجازوا ذلك بعدما كانوا يحرمونه.
والأمر الثاني الذي تتغير فيه الأحكام الشرعية بسبب تأثير الزمان والمكان هو اختلاف متعلق الأحكام مما يؤدي إلى تحول الحكم من العنوان الأولي إلى العنوان الثانوي.
والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى، فمصافحة المرأة الأجنبية حرام بإجماع المسلمين، ولكن إذا كان عدم المصافحة في بعض الأمكنة والأزمنة يؤدي بالمكلف إلى الضرر الشديد أو الحرج الذي لا يتحمله فيجوز له المصافحة؛ فالحكم تغير لأن متعلقه قد تغير، وتحول الحكم من العنوان الأولي إلى العنوان الثانوي.
والأمر الثالث في أن للزمان والمكان دوراً في تغير الأحكام الشرعية فيما يتعلق بفهم النص وتطبيقاته، فرغم أن النص نفسه يشير إلى معنى واحد، وحقيقة واحدة، وليس إلى معانٍ متعددة تتغير بتغير الزمان والمكان؛ إلا أن فهم الفقهاء للنص قد يتباين و يختلف، وهنا يكون للزمان والمكان أثره في فهم النص، كما أن تطبيقاته قد تختلف أيضاً. أضف لذلك أن لذهنية الفقيه، والبيئة التي يعيشها، والزمن الذي يعايشه أكبر الأثر في فهم النص وقراءته.
وما توصل إليه الفقهاء في الأزمنة الماضية ليس حجة على فقهاء هذا العصر والعصور القادمة، ففهم المجتهد ليس حجة على المجتهد الآخر، وإنما هو حجة على نفسه، ومن ثم، فمن حق أي مجتهد جامع لشرائط الاجتهاد والفتوى أن يفهم النص بصورة أخرى. وأوضح مثال لذلك الجدل المثار حالياً حول النص الوارد عن الرسول الأكرم: (صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته) هل أن الرؤية لا بد وأن تكون بالعين المجردة كما ذهب لذلك أكثر الفقهاء، أم أنه يكفي الرؤية العلمية وإن لم نره بالعين المجردة كما ذهب لذلك بعض الفقهاء المعاصرين ؟ فالنص واحد، لكن الفهم مختلف .
وإذا ما أردنا أن يكون الفقه قادراً على الإجابة على كل تساؤلات العصر فينبغي ملاحظة تأثير الزمان والمكان من الأبعاد الثلاثة التي ذكرناها، وإلا أصبح الفقه بعيداً عن واقع حياتنا المعاصرة، وهذا ما لايريده أحد من المخلصين للإسلام1.
- 1. الموقع الرسمي لسماحة الشيخ عبدالله اليوسف (حفظه الله) – 27 / 4 / 2011م – 12:50 م.