ثائرعباس النصرواي
أولاً: المعنى اللغوي والاصطلاحي للثورة:
إن أصل كلمة (ثورة) هو (ثار) وثار الشيء ثوراً وثوراناً بمعنى هاج أو اضطرب أما المعنى الاصطلاحي فهو تغيير جوهري في النظام السياسي للدولة من شأنه استبدال طبقة من الحكام بطبقة أخرى، وهناك ثورات تطلب التغيير الشامل لكل نواحي الحياة ومفاصلها. ومن مفاخر الثورات، أنها صحوة للشعب، وأنه بها تزداد ثقته بنفسه ويشعر بها المواطن أنه أكثر كرامة، ويرتفع بسببها مستواه على جميع النواحي سواء المادية أو المعنوية.
والثورة إن لم يكن لها برنامج عملي وأهداف تتجاوز تغيير النظام إلى تغيير المجتمع نفسه فهي ليست بثورة، وهذا ما ينطبق على ثورة الإمام الحسين(عليه السلام) التي حاولت تغيير البعد الفكري للمجتمع بالمستوى الأول فضلاً عن النواحي الأخرى لذلك المجتمع، ودعوته إلى مساره الصحيح الذي اختطه له صاحب الرسالة الإلهية الرسول محمد(صلى الله عليه وآله).
ثانياً: هدف وغاية الثورة الحسينية:
تبتدئ السنة الهجرية بذكرى أبي عبد الله(عليه السلام) التي هي ذكرى مستمرة بالنسبة للمسلمين ومدرسة مفتوحة دائماً لكل طالب في الحياة.
وما أحوجنا إليها في هذه الأيام لما تحفل به من دروس حية على نهج مدرسة القرآن في التاريخ حيث إنه كما بين الله جل وعلا في آيات كثيرة ليس للذكرى وليس للتزكية ولا الافتخار فقط، وإنما هو عبرة ودرس للحاضر، فماضي البشر كحاضرهم وكمستقبلهم في القضايا الكبرى، وأكبر القضايا هي قضية (العدالة في المجتمع) وقضية (الكمال في السلوك).
وهذا هو هدف وغاية الرسائل السماوية منذ آدم(عليه السلام) إلى نبينا الخاتم محمد(صلى الله عليه وآله)، فالبشر دائماً منذ قابيل وهابيل يريدون أن يكونوا عادلين في مجتمعاتهم وكاملين في سلوكهم، أو أن يكون المجتمع في نظامه عادلاً. وثورة الإمام الحسين(عليه السلام) هي التعبير الساطع عن هاتين المسألتين، مسألة الكمال في السلوك ومسألة البحث عن العدالة في المجتمع. فالذين اتبعوا الإمام الحسين(عليه السلام)، سواء في زمانه أو في زماننا ـ يمثلون الكمال في السلوك، أو السعي نحو الكمال في السلوك، والعدالة في المجتمع.
ثالثاً: الثورة وأنواعها عند الأئمة:
إن الثائر الذي يبحث عن العدالة ويعمل من أجلها قد يكون عمله بالسلم، كما أثر الإمام الحسن(عليه السلام) أن يعمل بالسلم، لأن الظروف قضت عليه ذلك، أو ما بعد الإمام الحسين(عليه السلام) منذ الإمام زين العابدين(عليه السلام) إلى الإمام العسكري(عليه السلام)، لذا لنا أن نسأل ترى هل كان الإمام الحسن(عليه السلام) ثائراً؟ أو كان موالياً للنظام الأموي؟ ومن بعده الأئمة من الباقر إلى العسكري(عليهم السلام) هل كانوا ثواراً؟ أم كانوا مسالمين وموالين؟
لا شك أنهم كانوا ثوراً. وكانوا في أعلى الدرجات الثورية وإن كانوا يمارسون الثورة بأسلوبهم وحسب ظروفهم.
فالثورة ليست هي العنف، وليس التعبير عن الثورة دائماً بالسيف. لذلك فإن موقف الإمام الحسن(عليه السلام) وظروفه هي التي تحدد ما إذا توجب عليه الثورة بالسيف أم لا.
رابعاً: الفرق بين معنى الثورة والفتنة:
وقد يقول قائل يمكن للخوارج أن يسموا حركتهم باسم (الثورة) فهل يصح ذلك؟ بكل المقاييس لا يمكن أن نسمي حركة الخوارج ثورة لأنهم لم يرفعوا أي شعار يمكن أن نطبقه على المعنى اللغوي أو الاصطلاحي لكلمة الثورة، فقد كانوا أعداء لأمير المؤمنين علي(عليه السلام) على كل الأصعدة، أعداؤه في التوجه السياسي، وأعداؤه في الحياة العامة، وفي النهج الفكري، بل أعداءه في كل شيء.
إذن لا يمكن أن نسمي حركة الخوارج ثورة بل نسميها فتنة أو تمرد.
على عكس حركة الإمام الحسين(عليه السلام) الذي رفع شعار الإصلاح الديني للمجتمع الذي عاش فيه وهذا الشعار مصداق لقوله(عليه السلام): (ما خرجت أشراً ولا بطراً وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله). فهذه هي دعوة وشعار ثورة الإمام الحسين(عليه السلام) والتي تنطبق عليها كل المعايير والمقاييس التي يمكن تسميتها بالثورة. بل هي الثورة الحقه لأنها قامت بوجه نظام فاسد وظالم أهلك الحرث والنسل وعاث في الأرض فساداً، لذلك فهي ثورة حق بوجه الظلم، بل هي تمثل الصراع بين الخير والشر على مدى العصور كأفضل تمثيل بل هي إتمام للرسائل السماوية فلولاها لانتهت عبادة الله وآلت إلى الوثنية الجاهلية.
خامساً: العوامل النفسية وأثرها في الثورة الحسينية:
الإنسان في كل مجتمع يخاف أو يأمن، فالإنسان الذي يأمن يتصرف تصرف الآمن، أما الإنسان الذي يخاف فإنه يتصرف تصرف الخائف. لكن مما يخاف الإنسان؟
تارة يخاف الإنسان من الحق، فيفتعل تمرداً ضد الحق، كما قال أمير المؤمنين(عليه السلام)
في نهج البلاغة عن قوم تركوه ولحقوا بمعاوية ما معناه (أنهم عرفوا الحق وتركوه إلى الظلم والى أثره). أما الإنسان العادل فإنه يخاف من الباطل، الحسين(عليه السلام) من أي شيء خاف؟ ما الذي كان يخيف أنصار الإمام الحسين(عليه السلام)؟ فالحسين لم يقنع أصحابه بأن يتبعوه، بل حاول إقناعهم أن يتركوه فقال لهم (إن هذا الليل قد أقبل فاتخذوه جملاً واتركوني، فالقوم لا يطلبون غيري) فحاول إقناعهم بتركه ولم يقنعهم باتباعه. إذن ما الداعي الذي دعاهم إلى اتباعه؟
الداعي هو أنهم كانوا خائفين مثله، فكان يجمعهم خوف واحد من شيء فما هو؟ هل كان خائفاً على منصبه؟ أم كان خائفاً على ثروته أن يأخذوها؟ أم كانت له مطالب وظيفية ولم يعطوه إياها؟ من أي شيء يخاف إذاً؟.
كل هذه الأمور كانت ميسرة في منصبه الاجتماعي، ومركزه الديني الفائق كان محترماً ومبجلاً لم يمسه أحد بسوء. فالثروة والأموال كانت متاحة بين يديه على أوسع نطاق، وحتى أصحابه جعلهم من أعيان الناس وكانوا محترمين مبجلين، فإذاً من أي شيء خافوا؟.
إن الخوف الحقيقي لم يكن على الحالة الخاصة، لم يكن على الحق الخاص، فالحق الخاص كان محفوظاً، فالخوف كان على الكيان العام للأمة، لأن الحسين(عليه السلام) كان إماماً معصوماً، له مشروعه الدائم والمتحرك وهو المشروع المتمم للرسالة السماوية التي جاء بها النبي الأكرم محمد(صلى الله عليه وآله)، فمشروع الحسين(عليه السلام) دائم النمو والحركة وهو مشروع إسلامي، وهذا المشروع يبقى حياً ما دام الإسلام، والإسلام حي لأنه هو الذي يدفع الناس إلى الحرية والهداية، فما دامت هذه القيم الخالدة باقية فمشروع الإمام
الحسين(عليه السلام) باقي خالد لأنه لا يهتم بمال أو جاه أو منصب أو أغراض دنيوية زائلة، بل يهتم بالقيم الإنسانية الخالدة.
سادساً: المشروع الرسالي للثورة الحسينية:
إن مشروع الحسين(عليه السلام) كان مهدداً وليس حياة الإمام الشخصية فقط. فلو وافق
الإمام(عليه السلام) على أن يسكت نصف سكوت، وليس سكوتاً كاملاً، لأعطيت له كل الدنيا. ولكن ما يتبع هذا السكوت، يتبعه الذل والهوان والتبعية للظالم.
وهذا المشروع كان مهدداً منذ زمن النبي إلى يومنا هذا فالإمام علي(عليه السلام) كان مهدداً أيضاً فقال عندما كان في طريقه إلى البصرة (إن هؤلاء القوم ـ أي الظالمين ـ قد اتخذوا مال الله دولاً وعباده خولاً، والصالحين حلاباً، والفاسقين حزباً) فكان المشروع الإسلامي برمته في خطر. الخوف إذاً هو الذي يدفع الإنسان إلى التحرك، فمثلاً حينما نفكر نحن في الآخرة فإننا سنموت بعد أيام أو أشهر أو سنين، ويحفر لنا التراب وندفن تحت التراب، ونحاسب قبل القيامة، ونحاسب في القيامة، وبذلك فإننا سوف نخاف وعندما نخاف نقوم بالتحرك والتوبة إلى الله سبحانه وتعالى فإذا كان الإمام الحسين(عليه السلام) خائفاً، فما هو حال عمر بن سعد، هل كان خائفاً حتى تحرك هذه الحركة التي يزعم بها قتال الحسين(عليه السلام)، وكذلك ما حال شمر بن ذي الجوشن، وعبيد الله بن زياد، ويزيد بن معاوية، فهل كانوا كلهم خائفين؟ الحقيقة كلهم كانوا خائفين من مشروع الحسين(عليه السلام) ولذلك تحركوا، لأنهم كانوا خائفين على مصيرهم، فيزيد لم يكن لديه مشروع بل كان لصا متوج بسلطان الإمارة، لص يحاول سرقة المشروع الإلهي المحمدي، كذلك عبيد الله بن زياد فكلاً منهم خاف على مشاريعه الخاصة، التي هي ضد المشروع العام ضد مشروع كرامة وعزة وتكامل البشر.
فهذان الخوفان ـ الخوف العام والخوف الخاص ـ أوجدا حركتين متقابلتين متناقضتين، ونتيجتهم كانت ثورة كربلاء.
ففي كل ثورة، الثائرون يخافون على مشروع عام يشمل أوسع جماعة من الناس، وهذه النظرة لا تشمل الإسلام فقط بل في كل أرجاء العالم فالظالمون يخافون مشاريعهم الخاصة.
إذن المشروع الإلهي كان يقف في طريقه يزيد، وفي كل زمان، فيوجد خوفان تتفرع عنهما جميع المخاوف التفصيلية، فلو رجعنا قليلاً بالزمان وخصوصاً بعد وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله) إذ حصلت مشكلة السلطة والخلافة وحصلت مؤامرة السقيفة فواجه أمير المؤمنين(عليه السلام) خوفان، ثم جاءت خلافة عمر فواجه خوفان أيضاً، ثم خلافة عثمان فلم يواجه إلا خوفاً واحدا. فما هما الخوفان؟.
خاف أولاً على الإسلام ككل، وخاف ثانيا على التنظيم الداخلي للمجتمع الإسلامي فهل يستمر الإسلام أم لا؟ وإذا استمر هل ينظم تنظيماً صحيحاً من الداخل أم لا؟ ويؤيد هذا الخوف طرد الإمام(عليه السلام) لأبي سفيان عندما جاءه وطلب منه البيعة، فطرده لأنه قال(عليه السلام) في كتاب له لأهل مصر: (حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام). فعندما بدأت الردة أعطى
الإمام(عليه السلام) الأولوية للخوف الأكبر على الخوف الأصغر، هذه قاعدة عقلية أو فقهية فالأمور تواجه بأولوياتها، أو تقديم الأهم على المهم.
فالثورة تنشأ عن خوف، ولكن عن خوف عادل، عن خوف مشروع، عن خوف على المشروع الإلهي، أما الخوف الدنيوي أو الطبقي أو العائلي فلا يجوز أن يخالف من أجله حكم الله.
هذا ما نفهمه من مدرسة الحسين(عليه السلام) التي هي امتداد لمدرسة الرسالة المحمدية الإلهية .
المصدر: http://alhikmeh.org