العلاقةُ بين الآباء والأبناء علاقةٌ أزلية فهي في الوالدين فطرية أودعها الله تعالى فيهم من أجل أن يُربّيا ذلك المولود الصغير الذي لا يملك حولاً ولا قوة فما فيض المشاعر والمحبة والحنو إلا نعمة إلهية محضة، أما علاقة الأبناء بالآباء فهي علاقة وفاء ورد جميل وإرجاع أمانة وأيّ أمانة أعظم من سنين شباب فُنيت مع الكثير من الوقت، وسهر وصبر بُذلت كلّها في تربية الأبناء لذا شدد الحق تعالى على ضرورة الإحسان إلى الأبوين ورعايتهما رعاية كريمة قال تعالى:(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا. حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا)(الاحقاف 15)، والطبيعي في الأمر أن يكون جزاء الإحسان إحسانا مثله أو يزيد عليه، كما حذّر القرآنُ الكريم من عقوق الوالدين وربط طاعته وعبادته بالإحسان لهما قال تعالى (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا. وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)(الإسراء 23-24) .
وأمام هذا التأكيد الإلهيّ يصبح من المسلّمات الإحسان إلى الوالدين والدعاء لهم بالمغفرة والرحمة، غير أننا نرى في واقعنا الخارجي هذه العلاقة عرضة لرياح المشاكل والخصام وعدم الطاعة ونكران الجميل فنجد الأبناء ينكرون كل ذلك الجهد والعناء فلا يسمعون كلمات الوالدين ولا يطيعونهم في شيء فالولد يخرج متى ما شاء ويعود متى ما طاب له أن يعود، لا يجمعه مع والديه سوى سقف واحد وعالمه بعيد عن عالمهم بكثير متناسياً الأحاديث والروايات الكثيرة التي دعت إلى طاعة الوالدين وحذّرتْ من التعدي عليهما وعقوقهما ولا بأس أن نورد عددًا منها لنعي عظم الخطر، عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) :(خَمْسَةٌ لَا تُطْفَىءُ نِيرَانُهُمْ وَلَا تَمُوتُ أَبْدَانُهُمْ رَجُلٌ أَشْرَكَ بِاللَّهِ ورَجُلٌ عَقَّ وَالِدَيْهِ وَرَجُلٌ سَعَى بِأَخِيهِ إِلَى سُلْطَانٍ فَقَتَلَهُ وَرَجُلٌ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ وَرَجُلٌ أَذْنَبَ ذَنْباً فَحَمَلَ ذَنْبَهُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)(بحار الأنوار، ج5 – ص60) فالرواية الكريمة تُبيّن عِظَمَ هذه الذنوب ومع من جمع صاحبه وأسكنه، وعن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال:(إذا كان يوم القيامة كشف غطاء من أغطية الجنّة فوجد ريحها من كانت له روح من مسيرة خمسمائة عام إلّا صنف واحد قلت: من هم؟ قال: العاقّ لوالديه)(بحار الأنوار، ج7 – ص224). وقد عرض لنا القرآن الكريم صورا في البر والطاعة منها قصة إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) قال تعالى:(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)(الصافات: 102) ليضرب نبي الله إسماعيل(عليه السلام) مثلاً عظيما في الطاعة والإنقياد لله{ ولوالده نبي الله إبراهيم(عليه السلام)، وصورة أخرى من صور البر ما قاله نبي الله عيسى(عليه السلام) فقد ربط بين طاعة الله والبر بوالدته العذراء مريم(عليها السلام) عاداً ذلك من أسباب التوفيق وعدم الشقاء قال تعالى: (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا)(مريم: 30-32) إذن فبر الوالدين والإنقياد لهما من موجبات السعادة والهناء .
فيا ترى ما دور الوالدين في مثل هذا الأمر وهل لهم نصيب في هذه المشكلة، فالبعض يجمعها بكلمتين هما (الولد سيء) من دون أن يناقش الظروف والأسباب التي جعلته يصل إلى تلك النتيجة ولعل الآباء أنفسهم يتحملون جزءًا من المشكلة أو هم سبب من بين تلك الأسباب فالأب يهتم بتوفير لقمة العيش لأولاده والأم تبذل كل الجهد في توفير الطعام وكل ما يحتاجون له من وسائل الراحة إلا الجلوس والكلام معهم، والسؤال المهم كم نعطي لأطفالنا من الوقت؟ كم نتحدث معهم؟ وهل استمعنا لكلماتهم وقصصهم التي نراها غير مهمة في السنوات الأولى من أعمارهم؟ علماً أن لها الأثر الأكبر في بناء شخصية الفرد وتكوين نظام العادات والقيم التي يؤمن بها والغفلة عن كل هذه الأشياء هي سبب رئيسي يدفع الأبناء إلى صيرورة عالم خاص بهم مليء بالمشاكل والأخطاء نتيجة نقص الخبرات والتجارب وغياب المرشد الواعي والمستشار المخلص الذي يهب خبرة السنين دون أيّ طمع سوى أنه أب أو أمّ، والواجب في الحفاظ على هذه العلاقة هو أن نُشعر أبناءنا بالحب وأن نشاركهم حياتهم صغاراً حتى يسمعونا كباراً