في الوقت الذي تشيع فيه مناظر الدماء والقتل هنا وهناك لاسيما في عراقنا الحبيب وسوريتنا الغالية، ويعتنق فيه البعض فكراً تكفيرياً متطرّفاً يستحلّ الدماء والأعراض والأموال باسم الإسلام والتيمّن بتناول وجبة الإفطار أو الغداء مع النبي الأكرم محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ، ويستمد فيه هؤلاء فكرهم الدموي من مفتين لا يملكون ذرة من الدين والورع والعلم، تطلّ… علينا شمائل الرفعة في أخلاق أبي الفضل العباس بن علي بن أبي طالب ـ عليهم السلام ـ كنمير زلال نستمدّ منه أفكارنا وأخلاقياتنا ومواقفنا، ويربطنا بالجذر الراسخ الممتد الذي ننتمي إليه، ونستظلّ بدوحته الوارفة. لقد تحلى أبو الفضل العباس بالشمائل الإيمانية والخلقية والعلمية السامية: كصلابة الإيمان، والإنسانية الحانية، والبصيرة النافذة، والمواساة الصادقة، والتواضع الفريد، والشجاعة المذهلة، والفداء العظيم، والعلم الواسع. وفي هذه العجالة الخاطفة سنغترف غيضاً من فيض معين صفتين من صفاته النبيلة:
1ـ المواساة الصادقة
فأبو الفضل العباس هو ذلك القلب الشفاف كالبلور، المرهف كالحرير، الندي كالورد، الحساس لأحزان الإنسانية والبراءة، المصغي لصيحاتها الكليمة وآهاتها الفجيعة، الذي يتفطّر لبكاء طفل صغير أكظه الظمأ، فيهبّ كالسهم الثاقب ليجلب الماء، وهمّه الوحيد الذي يسكن وجدانه أن يُنعم مهجة ذلك الطفل الوديع الظامئ، ويبرّد غليله، ويسكت لوعته، ويطفئ لهب دمعته الوارية.وحين يصل المشرعة وقلبه يتلظى من حرارة الشمس وشراسة الحرب وشدة العطش، ويغترف من معينها البارد جرعة يدنيها من فمه لا تغيب عنه مناظر الأطفال تهفو قلوبهم إلى قطرة ماء تسكّن سعير أكبادهم المتفتتة، وتسقي صحراء مهجتهم الملتاعة، فتتقاطر عليه صور الأطفال يلهبها الظمأ، حتى تصيح من شدة وقدته: (العطش.. العطش)، وتخيّم عليه صورة الطفل الرضيع يبكي وقد دلع لسانه وشحبت ألوانه من شدة العطش بعد أن جفّ ثدي أمه التي سبقته لسكنى نار الظمأ، وتتمثل أمامه رقية الغضة ذابلة كالزهرة الذاوية، وسكينة تترقب الجود، وتنتصب صورة أخيه الحسين السبط ـ عليه السلام ـ وقد أصبح قلبه كصالية الحديد من الظمأ، يرى ذلك كلّه في حفنة الماء التي اغترفها ليشرب؛ فيلقي الماء على الماء، ويدمدم:
يا نفس، من بعد الحسين هوني *** وبعده لا كنتِ أن تكوني
هـذا الحسـين وارد المـنون *** وتشربين بارد المعين
تالله ما هذا فـعال دينـي *** وﻻ فعال صادق اليقين
وحتى حين يريد أخوه الحسين أن ينقله إلى المخيم بعد أن فلق رأسه العمود المشؤوم، يجيب الحسينَ بكلّ شفقة وعطف وحنوّ، ويطلب منه أن يتركه في ساحة الوغى، فيسأله الحسين: لِمَ يا أخي؟!، فيقول: لأنّي وعدتُ سكينة بالماء، وأستحي أن تراني دونه!!
2ـ البصيرة النافذة
في زمن أعمى الغبش بصيرة كثير من الناس كان العباس نافذ البصيرة، معتنقاً لفكر الرسالة والإمامة، فكانت خيارات الطريق واضحة جلية لديه، لم يشوشها بريق النضار، ولا زهو المنصب، ولا رداء الوجاهة، ولا الأفكار المتصارعة، فلم يعبأ بإغراءات شمر وغيره بأمان مكفول، أو قيادة جيش عرمرم.لقد كان قلبه عامراً بالله ـ سبحانه وتعالى ـ، ويرى كلّ شيء ويقيّمه من خلال نظرته لله، فما كان يستطيع شيء من الأشياء ـ أنّى كان شكله فاتناً ـ أن يزيح خطاه الراسخة عن درب الحقّ والصدق.
وتتجلى هاتان الصفتان في حياة أبي الفضل العباس ـ عليه السلام ـ حين يصفه الإمام الصادق (عليه السلام) ـ بلسانه، وحين يقف زائراً له، فيشهد له بهما، وما أعظمها من شهادة، إنّها شهادة إمام معصوم يتوّجه بهذا الوسام البهي الخالد، فيخاطبه:
- “كان عمنا العباس نافذ البصيرة، صلب الإيمان، جاهد مع أبي عبد الله الحسين – عليه السلام -، وأبلى بلاء حسنا، ومضى شهيدا”.
- “نعم الأخ المواسي ﻷخيه”.
- “أشهد أنك لم تهن، ولم تنكل، وأنك مضيت على بصيرة من أمرك مقتديا بالصالحين”1.
- 1. نقلا عن شبكة مزن الثقافية – 10/11/2013م – 7:08 ص.