إلى وقت قريب كانت صورة العالم العربي ناظراً ومنظوراً إليه، بخلاف الصورة التي هي عليه اليوم، وعلى الضد منها تماماً، كانت صورة مظلمة، وطالما وجد فيها الشعراء والأدباء قبل غيرهم من المفكرين والمؤرخين، صورة تبعث على النعي والرثاء تارة، وعلى البؤس والإحباط تارة أخرى، كما وجدوا فيها صورة يعلقون عليها حلمهم الضائع، وأملهم المفقود، ومستقبلهم المجهول، ولم يألوا هؤلاء جهدا وهم يعبرون عن مواقفهم ومشاعرهم بنوع من الإفراط والمبالغة.
هذه الصورة تغيرت اليوم، بعد التحولات المتسارعة والمتعاظمة في المنطقة العربية، وبالذات في تونس ومصر، إلى درجة يمكن القول إن العالم العربي لم يعد كما رثاه الشاعر السوري نزار قباني قبل رحيله بقوله (متى يعلنون وفاة العرب؟)، وفي وقتها قلنا وقال الجميع (متى يعلنون وفاة العرب؟)، ولم نعد اليوم نردد تلك المقولة، ولا يقبل أحد بترديدها، فقد عاد الروح إلى الشعوب العربية، عاد من دون ميعاد، وعاد منتفضا كخروج المارد من قمقمه، ومعلناً وفاة تلك المقولة، وذلك الرثاء، ولو كان نزار قباني حيا اليوم لكان أول من نعى تلك المقولة، وطالب بنسيانها، وجعلها من الماضي.
ولم يعد العالم العربي خارج التاريخ، كما نعاه الكاتب المصري الدكتور فوزي منصور في كتابه (خروج العرب من التاريخ) الصادر سنة 1990م، النعي الذي تردد بسهولة على ألسنة الكثيرين، لكنه النعي الذي توقفنا عن ترديده، فقد عادت الشعوب العربية إلى التاريخ، وعاد التاريخ إليها، وبدأت هذه الشعوب تكتب تاريخاً جديداً، وأصبحت تسجل لحظة تاريخية فاصلة في تاريخ المنطقة والعالم، وبات العالم يتحرك على إيقاع حركتها، ويتأثر بنبضاتها، وكأن التاريخ أصبح له ميعاد معنا.
ولم يعد العالم العربي في زمن الردة، كما صور ذلك الكاتب السوري جورج طرابيشي في كتابه (من النهضة إلى الردة)، ولا في زمن الهزيمة كما صور ذلك من قبل الكاتب السوري ياسين الحافظ في كتابه (الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة)، ومن بعده الكاتب البحريني الدكتور محمد جابر الأنصاري في كتابه (مساءلة الهزيمة) الصادر سنة 2001م، ولا حتى في زمن الانكسار والانحطاط، فهذه العناوين التي تصيب بالرعشة ولت وأصبحت من الماضي، فقد نفضت الشعوب العربية عن نفسها ركام وغبار ومخلفات زمن الهزيمة والانكسار والانحطاط، واستعادت روح الشجاعة والمبادرة والثقة بذاتها وبإرادتها.
ولم يعد العالم العربي يتراوح كما كان بالأمس ما بين لافتات النكبة والنكسة والكارثة، وهي اللافتات التي ظلت تتردد في الأدبيات العربية شعرا ونثرا وقصة ورواية، ويعاد الحديث عنها باستمرار حزنا وألما، في إشارة إلى نكبة ضياع فلسطين سنة 1948م، ونكسة هزيمة حرب 1967م، وكارثة احتلال الكويت سنة 1990م، ومن ثم كارثة احتلال العراق سنة 2003م، وهي اللافتات التي حاصرت الفكر العربي وجعلته تحت الحصار، وضيقت عليه وسلبت منه بصيص الأمل، الأمل الذي استعادته الشعوب العربية فأطاحت بتلك اللافتات، ولم نعد تحت حصارها.
ولم يعد العالم العربي عصياً على التغيير، كما كان يقال عنه في معظم الكتابات العربية في المشرق والمغرب، وحتى في الكتابات غير العربية، كان عصياً على التغيير حين هبت رياح التغيير العاصفة بشدة على أوروبا الشرقية بعد سقوط جدار برلين سنة 1989م، فتفكك الإتحاد السوفييتي، وتصدع المعسكر الاشتراكي، وبقي العالم العربي على حاله متحصناً غالقاً جميع نوافذه أمام رياح التغيير، إلى أن أخذ التاريخ دورته وهو أعرف بقوانينه، حتى وصلت عندئذ رياح التغيير إلى العالم العربي.
لقد تغير العالم العربي، وتغيرت معه صورته في الداخل والخارج، وبدأ يسطر صفحات جديدة، صفحات كانت إلى وقت قريب تمثل حلماً بعيداً، أو حلما ضائعاً، أو حلما مفقوداً، لكنه باتت اليوم حلما واقعاً ملموساً، نعيشه ونحسه وكأننا نستعيد الروح من جديد1.
- 1. الخط. القطيف، السنة الأولى، العدد الثاني، جمادى الأولى 1432هـ / أبريل 2011م، ص 21.