مقالات

العادات الشرقية…

تكاد لا تُعقد ندوةٌ أو يُكتب مقال أو تُلقى محاضرة إلاَّ ويتطرَّف الحديث إلى التقاليد والعادات الشرقية التي يحرص البعض على الوقوف عند حدودها، بينما يتجرَّأ البعضُ الآخر على اقتحامها، بل ربَّما يعتبر أنَّ تجاوزها ومخالفتها نوع من الحضارة والتقدُّم.

والمقصود بالتقاليد الشرقية على الأعم الأغلب، السلوكيات التي ورثناها عن تاريخنا وأجدادنا، والتي يعود معظمها إلى أحكام شرعية لدين الإسلام خصوصاً، وبالتالي تدور مدار المقبول أو المرفوض أو ما يحلُّ أو يحرم.‏

فهل تلك التقاليد المسمَّاة “شرقية” لا يجوز مسُّها بأي حال من الأحوال، أم أنَّها قابلة للتغيير والتبديل مع تغيُّر وتبدُّل الظروف والأحوال والأزمان؟‏

وهنا لا بُدَّ من الإشارة على أنَّ الكثير مِمَّن ينتقد المجتمع “الشرقي” والعادات الشرقية، إنَّما يقصد انتقاد الأحكام الشرعية الإسلامية على وجه الخصوص، كأن يشكو من المجتمع الذي يرفض الاشتراك في مسابقات ملكات الجمال، أو إعطاء الحرية للعلاقات بين الشباب والشابات بلا ضوابط، أو إعطاء الحرية التامة للمرأة في تصرفاتها ولباسها… بحجَّة أنَّ المجتمع الشرقي و”الرجل الشرقي” لم يستوعب مسيرة الحضارة والحرية!‏

فترى الكثير ممَّن يدعو تحت شعار “تحرير المرأة” إلى إطلاق سراح تصرفاتها وتحركاتها ومظهرها بلا قيد… وعدم حبسها بالتقاليد الشرقية البالية والقديمة التي لا تليق بعصر التنوُّر.‏

ومن أبرز مظاهر ذلك دعوتها لترك حجابها مثلاً، ووصف عدم اتشراكها في حفلاتٍ صاخبةٍ وعروض الأزياء والذهاب إلى البحر… بأنَّ المرأة “الشرقية” مكبوتة، والرجل “الشرقي” يتسلَّط عليها، رافضاً لها هذه المظاهر.‏

وهناك من ينادي بالمساواة في الإرث بين المرأة والرجل ونحن على أبواب الألفية الثالثة… مع أن هذا مخالفٌ لصريح آية للذكر مثل حظِّ الانثيين (ولا مجال للمناقشة التفصيلية في التشريع وحيثيَّاته).‏

ومنهم من يطالب بمنح حرية العلاقة بين الشاب والفتاة قبل الزواج، أو المساكنة أو المصادقة… خروجاً من التزمُّت والنظرة المعقَّدة لهذه الأمور!‏

(ومن الغريب اعتقاد البعض أن إجبار الفتاة على الزواج من شخص معيَّن أمرٌ يفرضه الدين وهو من عادات المجتمع الشرقي الذكوري!).‏

والبعض، وهم كُثُر، يتحدث عن عقدة الرجل “الشرقي” المتخلف الذي يحرص على عذرية الفتاة التي يريدها للزواج، بالرغم من أن هذا الأمر لم يعد شرطاً في المجتمعات المتحضِّرة!‏

ويتمادى البعض في الدعوة إلى العلاقات الاجتماعية “الحضارية” المفتوحة للشباب والشابات، والأزواج والزوجات… بعيداً عن سلطة الرقيب أكان أباً أو زوجاً (بما فيها علاقات الشذوذ بين المثليِّين!).‏

ويعتقد الكثير أنَّ عادات الثأر والانتقام وما يُسمَّى جرائم الشرف… من مظاهر الدين المتعصب… مع أنَّ لا أساس لهذه الممارسات في الدين، ولا يحتاج الأمر إلى بيان.‏

ومن اللطيف والمؤسف في آن، أن يعرض أحد التلفزيونات المحلية، المهتم بمثل هذه المواضيع برنامجاً شبابياً، تقول فيه إحدى الشابات (يبدو عمرها دون العشرين):‏

آن الأوان للآباء أن يفهموا أن لا يتدخَّلوا في شؤون أولادهم!‏

فتتناغم معها أخرى من عمرها فتقول:‏ “لازم الآباء يعرفوا حدودن”!‏

وكان الموضوع حول العلاقات الجنسيَّة قبل الزواج، ورفض المجتمع الشرقي لذلك.‏

هنا لا بد من التمييز بين العادات والتقاليد القابلة للتغيير وبين غير القابلة، ولا يجوز أن تكون كذلك، بغضِّ النَّظر عن أن تكون “شرقية” أو غربية أو جاهليَّة.‏

ولا بدَّ من التأكيد على أنَّ الإسلام لم يقف يوماً عائقاً لتغيير العادات والتقاليد، بل أكثر من ذلك، فهو الذي غيَّر الكثير من المفاهيم والممارسات والعادات التي كانت في الجاهليّة وفي المجتمعات التي دخلها… وما زال يفعل ذلك.‏

ولا بدَّ من هذا التوضيح لأنَّ العادات “الإسلامية” هي المتَّهمة الأساسية فيما نحن فيه.‏

ومن الواضح أنَّ العادات والتقاليد المسمَّاة “شرقية” والسائدة في مجتمعنا اليوم، نوعان:‏

1 ـ نوع موروث من أيام الجاهلية وما زال حتى الآن، وهو كثير، ولا أساس شرعياً ولا عقائدياً له… فضلاً عن الأساس العقلي والمنطقي.‏

ونتساءل جميعاً هنا: لماذا لم يتغيَّر حتى الآن، والمطلوب ذلك.‏

(من قبيل الإجبار على الزواج، والثأر…).‏

2 ـ ونوعٌ له أساسٌ شرعي مستفاد من صريح القرآن الكريم والسُّنَّة الشريفة، خاصة مع لحاظ أنّ الإسلام دينٌ ودولة، أي يملك شرعاً كاملاً لكافة الميادين، ويكفي لتلمُّس ذلك الاطلاع على أيِّ موسوعة فقهيَّة إسلامية.‏

هذا فضلاً عن ما يُصطلح على تسميته “سُنن النَّبي” والذي يندرج تحت عنوان الآداب والمستحبات التي نُقلت عن النَّبي (ص)… حتى قال أحدهم: “إنَّ محمَّداً هو الوحيد الذي وُلد تحت ضوء الشمس”‏

ولا شك أنَّ تفاصيل ما نقل عن شخص رسول الله (ص) وأعماله وتصرفاته ومظهره… لم تحصل لأي إنسان في التاريخ حتى يومنا هذا.‏

وهذه تشكِّل أساساً للعادات والتقاليد السائدة.‏

بناءً على كل هذا:‏

لم يعد من المناسب أن نلقي بكل ما لا يُعجبنا من قِيَمٍ ومفاهيم على كاهل المجتمع الشرقي والرجل الشرقي.‏

وليس منطقياً تزيين كل ما نرغب فيه أو ما يكون لمصلحتنا أو نريده بأنَّه انفتاحٌ وحضارةٌ وتحرُّرٌ.‏

فهل كل العادات الغربية الغازية “والتحرُّريَّة” مقبولة عند الغرب وعند أهلها؟!‏

ولا شك أن رفض بعضهم واستنكارهم دليل عدم قبولها.‏

فماذا ينفع المرء لو صفَّق الجميع له… ثم خسر نفسه؟!‏

وماذا ينفعنا لو تخلَّينا عن تاريخنا وعاداتنا وتراثنا “بالجملة” وبطريقة عشوائية… ثم لم يقبلنا الآخرون.‏

ولماذا حرصنا على قبولهم ورضاهم؟‏

همسة أخيرة

ما زالت التجربة التركية مع حلف شمال الأطلسي ماثلةٌ أمامنا، وما زالت البوسنة تنزف… ولم ينفعهما تغريبهما شيئاً.‏

وكيف يعيش الإنسان آمناً إذا تخلَّى عن جلدته.‏

فإن لم نحترم أنفسنا فلن يحترمنا الآخرون1.‏

  • 1. الموقع الرسمي لسماحة السيد سامي خضرا(حفظه الله).
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى