نص الشبهة:
ممّا أُخِذ على الإسلام وعلى القرآن بالذات إطلاق سَراح الرجُل بشأن المرأة، في الطلاق والإمساك، وإعضالِها عن أنْ تَملُك نفسها إلاّ حيث شاء الزوج، حقّاً قانونياً له دونَها، الأمر الذي يَجعلُها مُهانةً لا وزن لها في الحياة الزوجيّة ما دامت لا تَعدو مُتعةً للرجل يَعبث بها حسبَما شاء!
الجواب:
وهذا مِن الأثر المتبقي مِن أعرافٍ جاهليّةٍ أُولى، قام الإسلام بتعديلها وربّما آخِذاً بجانبها ولكن في شيءٍ يسيرٍ لم يرفعْها إلى حيثُ كرامتها الإنسانيّة العليا!
قال الشيخ مُحمّد عَبده: كان للعرب في الجاهليّة طَلاق ومُراجعة في العِدّة، ولم يكن للطلاق حدّ ولا عدد، فإن كان لمُغاضَبَةٍ عارِضَةٍ عاد الزوج واستقامت عشرته، وإنْ كان لمُضارّة المرأة رَاجَعَ قبل انقضاء العِدّة واستأنف طلاقاً، ثُمّ يعود إلى ذلك المرّة بعد المرّة أو يفيء ويَسكُن غضبُه، فكأنّ المرأة اُلعوبة بيد الرجل يُضارُّها بالطَلاق ما شاء أنْ يضارَّها، فكان ذلك ممّا أصلحه الإسلام مْن أمور الاجتماع 1.
وذَكَر في سبب نزول الآيات 228 ـ 232 من سورة البقرة بهذا الشأن: أنّ الرجل كان يُطلِّق امرأته ما شاء أنْ يُطلّقها وهي امرأته إذا ارتَجَعَها وهي في العِدّة وإنْ طلّقها مِئة مرّة وأكثر، حتّى قال رجل لامرأته: والله لا أُطلِّقك فَتَبيني، ولا آويك أبداً! قالت: وكيف ذلك؟ قال: أُطلِّقك، فكلّما همّتْ عِدّتُك أنْ تنقضي راجعتُكِ، فذهبت المرأة حتّى دخلت على عائشة فأخبرتها، فصبرت عائشة حتّى جاء النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) فأخبرته بذلك، فسكت النبيّ هُنيئة حتّى نزل القرآن: ﴿ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّىٰ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ … ﴾ 2 إلى آخر الآيات 3.
حاوَلَ بعضُ الكُتّاب العصريّين أنْ يجعل من التشريعات الإسلاميّة متأثِّرةً بعض التأثّر بتقاليدٍ كانت سائدة ذلك العهد، فهو وإنْ كان قام بتعديلات خطيرة في تقاليد العرب لكنّه مع ذلك اضطرّ إلى الرضوخ لبعض تقاليدهم جرياً مع مُقتضيات الزمان، ومنها أَمر الطلاق حيث جَعَله بيد الرجل وِفْقاً مع عُرف القوم السائد! قال: ولا سيّما إذا ما لا حظنا أنّ التشريعات الإسلاميّة في مثل هذه الشؤون إمضائيّة وليست تأسيسيّة كما هو معروف 4.
* * *
ولنا أنْ نتساءل: هل تَنازل الإسلام في تشريعاته الأُولى ـ ولو في جوانبٍ منها ـ إلى حيث مستوى ثقافة ذلك العهد وتلاؤماً مع مُقتضيات عصره حتّى تُصبح صالحةً للتغيير مع تطوّر الزمان؟
الجواب: كلاّ، ولا سيّما التشريعات التي جاءت نصّاً في القرآن الكريم.
الإسلام جاء بثقافة جديدة شاملة ليَرفض كلّ تقاليد جاهليّة كانت سائدة ذلك اليوم، وأَلبَسها ثوب الخلود (حلال مُحمّدٍ حلال أبداً إلى يوم القيامة وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة) 5، إلاّ ما كان من قبيل التدبير في الشؤون السياسيّة لإدارة البلاد وِفق شرائط الزمان على ما أسلفنا ؛ ومِن ثَمّ كانت التشريعات الإسلاميّة مُنذ البدء تنقسم إلى قسمين أساسيّين: ثابتة ومتغيّرة، أمّا الثابتة فهي التي شُرِّعت وِفق مصالح عامّة عُمُوماً يَشمل الأجيال والأزمان مدى الدهر، وهي الأصل في التشريع حسب ظاهره الأَوّلي، إلاّ إذا دلّت القرائن على أنّها مِن المُتغيِّرات، وهي التي شُرّعت لمصالح وقتيّة تُناط ببقاء تلك المصالح وتَذهب بزوالها، وهذا في جانب الأحكام السياسيّة الصادرة مِن أُولي الأمر نَجده بكثير، وقد فصّلنا الكلام في ذلك وَذَكرنا المعايير التي يُمكن التمييز بين القسمين، والأصل المرجع عند الشكّ 6.
أمّا القول بالتنازل والمُداهنة أو المُجاملة مع القومِ فهي عقيدة باطلة يَرفضُها أصالة التشريع الإسلامي المُستَنِد إلى وحي السماء، ويأبى الله ورسوله ذلك، ﴿ … وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾ 7. وفي آية أخرى: ﴿ … وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ﴾8 ، وفي ثالثة: ﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ … ﴾ 9.
* * *
وسؤال آخر: هل كان الطلاق والرجوع في العِدّة ـ بذلك الشكل الفظيع ـ عادةً جاهليّة ليَكون موضع الإسلام منها تعديلها إلى وجهٍ صحيح؟
قال الشيخ مُحمّد عَبده: كان للعرب في الجاهليّة طلاق ومُراجعة في العدّة، ولم يكن للطلاق حدّ ولا عدد… فكان ذلك ممّا أصلحه الإسلام.
في حين أنّ جواز الرجوع في العدّة ـ في الطلاق الرَّجعي ـ وكذا تشريع العدّة للطلاق أمرٌ لم يكن للعرب ولا لسائر الأُمَم عهدٌ بذلك مِن ذي قَبل ؛ وإنّما هو مِن مُبدَعات الإسلام وتشريعاته التأسيسيّة الحكيمة، حتّى أنّ الإمام عَبده استشهد بقضيةٍ وقعت في عهدٍ متأخّر في المدينة، حيث جاءت المرأة وشكت عند عائشة لتَرفع أمرَها إلى النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) وَنَزلت آيات مِن أُخريات سورة البقرة، ولعلّها في العام السادس أو السابع للهجرة! وقد صرّح الطبري بأنّه كان على عهد النبيّ، وكان رجلٌ مِن الأنصار 10.
هذا، وقد أخرج أبو داود وابن أبي حاتم والبيهقي في سُنَنه عن أسماء بنت يزيد الأنصاريّة، قال: طُلِّقتُ على عهد رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله) ولم يكن للمُطَلَّقة عدّة، فأنزل الله ـ حين طُلِّقت ـ العدّة للطلاق ﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ … ﴾ 11، فكانت أَوّل مَن أُنزلت فيها العدّة للطلاق.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة قال: كان أهل الجاهليّة يُطلِّق أحدهم ليس لذلك عدّة 12، وأمّا الرواية الأُخرى عن قتادة بأنّ الطَّلاق لم يكن له في الجاهليّة عدد وكانوا يراجعون في العدّة 10، فلعلّ الذيل زيادةٌ مِن الراوي أو بيان للمُراجعة بعد تشريع العدّة في الإسلام، إذ لا تُقاوِم هذه الرواية ما تقدّمها من روايات مستفيضة.
* * *
وسؤال ثالث: هل الطلاق بيد الرجل ورَهن إرادته على الإطلاق؟
ذهب المشهور إلى ذلك استناداً إلى قوله (صلّى اللّه عليه وآله): (إنّما الطَّلاق لِمَن أَخَذ بالساقِ) 13.
والحديث كما رواه ابن ماجة في السُنَن عن ابن عبّاس أنّ رجلاً أتى النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) فقال: يا رسول الله، إنّ سيّدي زوّجني أَمَته وهو يُريد أنْ يُفرّق بيني وبينها، فصعد النبيّ (صلّى الله عليه وآله) المِنبر فقال: “أيّها الناس، ما بالُ أحدِكم يُزوّج عَبدَه أَمَته ثُمّ يُريد أنْ يُفرّق بينهما؟! إنّما الطلاق لمَن أَخذ بالساق”.
والحديث وإنْ كان بِمُختلف طُرقه ضعيف الإسناد إلاّ أنّ الفقهاء تَسالموا على الاستناد إليه، حتّى أنّ صاحب الجواهر عبّر عنه بالنبويّ المَقبول وَذَكر أنّ الحكم إجماعي، وقد أَرسل المحقّق حُكَمَه باختصاص الطلاق بِمالِك البُضع إرسال المسلّمات 14.
وعليه، فلا شأن للمرأة في أمر الطلاق والفِراق، وإنّما هو رَهنُ إرادة الرجل حسبَ مشيئته الخاصّة.
* * *
غير أنّ المسألة بحاجة إلى دقةٍ ونظرةٍ فاحصةٍ
الطلاق ـ وهو الفِراق بين المُتآلِفَين ـ لابدّ أن يكون عن كراهية مُعقَّدة لا يُمكن حلُّها إلاّ بالمُفارقة، والكراهية إمّا من الزوج فالطلاق رجعي، إذا كان عن دخولٍ بها ولم تكنْ التطليقةُ الثالثة، ولم تكنْ المرأة يائسةً، وشرائط أُخَر مذكورة في محلّها.
وإمّا مِن الزوجة، فالطلاق خُلعي ؛ لأنّها تَبذل مَهرها لتَنخلع أي تتخلّص بنفسها وتنفلت عن قيد الزوجيّة.
وإمّا مِن الطرفين، ويعبّر عن ذلك في مصطلحهم بالمُباراة، مِن المُبارَأَة وهي التخلّص والفصل بين الشريكَينِ أو المُتزاوِجَين. يقال: بَارَأَ شريكَه: فاصَلَه وفارَقَه. وتَبارَأَ الزوجان: تَفارَقا.
فالطلاق في الصورة الأُولى عن رغبةِ الزوج، وفي الصورة الثانية عن رغبة الزوجةِ، وفي الصورة الثالثة عن رغبتهما معاً.
فهل الطلاق في جميع هذه الصور بيد الرجل مَحضاً ورَهن إرادته، إن شاء فارَقَها وخلّى سبيلَها، وإن شاء أمسكَها إضراراً بها؟ ولا شأن للمرأة في ذلك ولا لوليّ الأمر إطلاقاً؟!.
وإليك بعض الكلام حول هذه المسألة الخطيرة الشأن
جاء في الحديث النبويّ المُستفيض: (أنّ امرأةً ـ ولعلّها جميلة بنت أُبيّ بن سلول ـ تزوّجها رجلٌ دَميمٌ (كريه المنظر) وأَصدَقها حديقة، فلمّا رآها كَرِهتهُ كَرَاهةً شديدةً، فجاءت إلى رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله) وأَبدت كَراهَتَها له وقالت: إنّي لأَكرَهَهُ لدَمامَته وقُبحِ مَنظره حينما رأيتُه، وزادت: إنّي لولا مخافة الله لبَصَقتُ في وجهِهِ، قالت: إنّي رفعتُ الخِباء فرأيته مُقبِلاً في عدّةٍ، فإذا هو أشدُّهم سواداً وأقصرهم قامةً وأقبحهم وجهاً، قالت: والله، لا يجمع رأسي ورأسَه شيء. فقال لها رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله): (أَتَرُدّين عليه حديقتَه)؟ قالت: نعم، وأَزيدُه، قال لها النبيّ: (لا، حديقته فقط)، فردّت عليه حديقتَه، فَفَرّق بينهما رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله).
ويَبدو أنّ ذلك كان بمَغيبٍ عن الرجُل وذلك ؛ لأنّ الرواية ذكرت أنّه لمّا بَلَغه قضاء رسول اللّه وحكمُه بالفِراق بينهما قال: قد قَبِلتُ قضاء رسول اللّه، قال ابن عبّاس: وكان أَوّلُ خُلعٍ وَقَع في الإسلام 15.
وظاهر الحديث: أنّه في صورة كَراهة الزوجة تَرفع أمرَها إلى وليّ الأمر (الحاكم الشرعي) وهو الذي يتولّى شأنَها ويقضي بفِراقها، وليس للزوج الامتناع، ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ … ﴾ 16.
والمُراد بقضاء الله والرسول أنْ يكون قضاء النبيّ وِفق شريعة السماء، ولا يكون إلاّ كذلك، وعليه فقبول الرجُل كان فرضاً عليه ولم يكن له الردّ.
وهكذا جاء في أحاديث أئمّة أهل البيت (عليهم السلام):
روى الشيخ بإسناده إلى زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: “لا يكون الخُلع حتّى تقول: لا أُطيع لك أمراً ولا أَبرّ لك قَسَماً ولا أُقيم لك حدّاً فخذ منّي وطلّقني، فإذا قالت ذلك فقد حلّ له أنْ يَخلعها بما تراضيا عليه من قليلٍ أو كثيرٍ، ولا يكون ذلك إلاّ عند سلطان، فإذا فعلت ذلك فهي أَملك بنفسها من غير أنْ يُسمّى طلاقاً” 17.
وروى بإسناده عن ابن بزيع قال: سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن المرأة تُباري زوجَها أو تَختَلع منه بشهادة شاهِدَينِ على غير طُهرٍ مِن غير جُماع، هل تَبينُ منه بذلك؟ أو هي امرأته ما لم يُتبِعُها بطلاقٍ؟ فقال: (تَبينُ منه)، قال: إنّه رَُوي لنا أنّها لا تَبينُ منه حتّى يُتبِعُها بطلاقٍ! قال (عليه السلام): “ليس ذلك إذن خُلع”، فقال: تَبينُ منه؟ قال (عليه السلام): (نعم) 18.
وقد أفتى بذلك الشيخ وجماعة مِن كِبار الفقهاء وأوجبوا على الزوج الإجابة على طلبِها مِن غير أنْ يكون له الامتناع.
قال الشيخ في النهاية: وإنّما يَجب الخُلع إذا قالت المرأة لزوجها: إنّي لا أُطيع لك أَمراً ولا أُقيم لك حدّاً، فمتى سُمِع منها هذا القول أو عُلِم مِن حالِها عصيانَه في شيء مِن ذلك وإنْ لم تَنطق به وَجَب عليه خُلعُها 19.
قال العلاّمة في المُختَلف: وتَبِعَه أبو الصلاح الحلبي والقاضي ابن البرّاج في الكامل وعليّ بن زُهرة الحلّي 20.
قال أبو الصلاح (ت 448): فإذا قالت ذلك فلا يَحِلّ له إذ ذاك إمساكُها 21.
وقال ابن زُهرة (ت585): وأمّا الخُلع فيكون مع كَراهة الزوجة خاصّةً الرجلَ، وهو مُخيّر في فِراقها إذا دَعَته إليه حتّى تقول له: لئن لم تفعل لأَعصيَنَّ اللّه بِتَرك طاعتِك، أو يَعلم منها العِصيان في شيءٍ مِن ذلك، فيجب عليه والحال هذه طلاقُها 22.
فإذا كان ذلك واجباً عليه ولم يكن له الامتناع عند ذلك لَزِمَهُ طلاقُها، أو يُلزِمُه السلطان (وليّ الأمر ـ الحاكم الشرعي) أو يتولّى الحاكم ذلك بنفسه حسبَما تقدّم في ظاهر الحديث النبوي.
على أنّ ذلك هو لازم اشتراط أنْ يكونَ بمَحضَر السلطان، كما اشترطه أبوعلي ابن جنيد الإسكافي ؛ استناداً إلى حديث زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) الآنِف، ولقوله تعالى: ﴿ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ 23، وهذا الخطاب للحاكم 24.
فإنّ مُقتضى هذا الاشتراط أنْ يقوم الحاكم بتنفيذ الأمر حسبَما يَراه مِن مصلحتِهما، إمّا إلزاماً للزوج أو التولّي بنفسه.
وقد ناقش صاحب الجواهر القولَ بوجوب خُلعِها على الرجل بعدم الدليل على الوجوب ؛ إذ ليس في شيءٍ من الروايات أَمرٌ بذلك وبعدم تماميّة كَونه رَدعاً عن المُنكر، مُضافاً إلى كونه منافياً لأُصول المذهب! 25.
لكن جانب الإضرار بالمرأة ـ إذا لم تُطِق الصبرَ معه ـ يَرفع سُلطة الرجل على الطَّلاق حتّى في هذه الصورة ؛ إذ (لا ضَرر ولا ضِرار في الإسلام) 26، بمعنى: أنّه لم يُشرَّع في الإسلام أيّ تشريع ـ سواء أكان تكليفاً أم وضعاً ـ إذا كان موردُه ضَرريّاً، وهذه القاعدة حاكمة على جميع الأحكام الأَوّليّة في الشريعة المقدّسة﴿ … وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ … ﴾ 27 ، ولا شكّ في أنّ الحكم باختيار الرجل بشأن الطلاق ـ حتّى في صورة كون الزوجيّة أو تَداومِها حَرَجاً على المرأة وضارّاً بها ـ حُكمٌ ضَرريٌّ، فهو مرفوع، فعُموم سُلطة الرجل على أَمر الطلاق مُخَصَّصٌ بغير هذه الصورة.
وهكذا ورد صحيحاً عن الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام) فيمَن كانت عنده امرأة ولا يقوم بنَفقتِها… قال: (كان حقّاً على الإمام أنْ يُفرّق بينهما) 28.
على أنّ دليل عموم سُلطة الرجل على الطلاق ضعيف، بعد كون مُستَنده الحديث النبويّ المعروف “إنّما الطلاق لمن أَخذ بالساق”، وهذا الحديث بِمُختَلف طُرقه ضعيف الإسناد على ما تقدّم عن الهيثمي في مجمع الزوائد 29.
وعُمدة ما استَدَلّ به صاحب الجواهر على ذلك هو الإجماع 30، ولم يكنْ دليلاً لفظياً ليكون له إطلاقٌ أو عموم، إذن، فمُستند العُموم ضعيف الشمول.
وبعد، فإذا لم يكن لعُمومِ سُلطة الرجل على الطَّلاق دليل قاطع وشامل وكان أمر الخُلع مَنوطاً بالتَرافع لدى السلطان، كان مُقتضى ذلك هو إمكانُ إلزامِ الزوج بالطلاق إذا كانت المَصلحة قاضية بذلك، ومُدعَمَاً بحديث (لا ضَرَر ولا ضِرار في الإسلام).
وهناك بعض الشواهد عليه في بعض النصوص، كما في حديث حمران عن الصادق (عليه السلام) وفي آخره: (والطلاق والتخيير مِن قِبل الرجل، والخُلع والمُباراة يكون مِن قِبل المرأة) 31.
وهذا يعني: أنّ أمر الخُلع مَنوطٌ بِمَصلحة المرأة واختيارها، ولا خِيار للزوج فيه، مضافاً إلى ما فعله النبي (صلّى اللّه عليه وآله) بشأن المُختَلَعة..
إذن فطريق الخَلاص للمرأة ـ إذا لم تُطِق الصبر مع زوجها ـ مُنفَتِح، وليست أسيرةً رَهن إرادة الرجُل مَحضاً.
بقي هنا شيءٌ وهو كلام صاحب الجواهر بالمُنافاة مع أصول المذهب! ولم نتحقَّقه، كيف وقاعدة لا ضَرر ولا حَرج هُما اللذان يُشكِّلان قواعد المذهب، والعمل عند اللّه.
والسؤال الأخير: ما هو سبب الفَرق بين الرجل والمرأة، حيث كان الرجل مُطلَق السَّراح بشأن طلاق زوجته، وأمّا المرأة فبعد مُراجعة الحاكم الشرعي ورَهن تَصميمِهِ في الأمر؟!
وهذا يعود إلى ما بين الرجل والمرأة مِن فَرق في طبيعتِهما ؛ حيث هي مُرهَفَة الطبع، رقيقة النفس، ذات عواطف جيّاشة، تُثار لأيّ مؤشِّر وتنبري لأيّ وَخزَة، وكلّ أمر إذا أُنيط بجانب العاطفة السريعة التأثُّر ربّما أوجد مشاكل ومضاعفات لا يُحمد عُقباها، أمّا الرجل فبطبيعته الهادئة المتريّثة، وهو الذي تحمّل تكاليف هذا الازدِواج، ولا يمكن أنْ يتغافل عن عواقب سُوءٍ سوف تترتّب على الفِراق أحياناً، ويكون أعباء ثقلها على عاتقه في الأغلب ؛ فإنّه بذلك ولغيره مِن الجهات لا يتسّرع في الأمر مهما بلغ به الغضب أو ثارت ثائِرتُه في حينه، مادام لم ينظر في عاقبة الأمر وما يترتّب عليه مِن أثر!
ومع ذلك، فإنّ القوانين المدنيّة الحاكمة اليوم في البلاد الإسلاميّة تَفرض على الرجل تريّثَه المُضاعف ومُراجعة المَحاكم الصالحة، مِن غير أنْ يكون مُطلق السَّراح.
ونحن الآن ـ في ظلّ ولاية الفقيه ـ نرى مشروعيّة هذه القوانين المُحدِّدَة مِن تَصرّفات الرجل العابثة، وهذا مِن الآثار الإيجابيّة لسيطرة ولاية الفقيه على القوانين الحاكمة في البلاد.
* * *
ونجد هناك بعض المحاولات لسدّ هذه الثغرة عن طريق الاشتراط على الزوج ـ في عَقد النِّكاح أو ضِمن عقدٍ آخر لازم ـ بأنْ يُوكِّل الزوج زوجتَه في طَلاق نفسِها متى شاءت أو مَشروطاً بعدم إمكان المُؤالَفَة ونحو ذلك، فتقوم المرأة بتطليق نفسِها وَكالةً عن زوجِها.
وبهذا النحو مِن العِلاج أفتى سيّدنا الأستاذ الإمام الخميني ـ طاب ثراه ـ إجابةً على استفتاءٍ قدّمته إليه جَماعةُ النِسوَة المُناضِلة في إيران عام 1358 هـ. ش 32.
وقد كان هذا الاشتراط على الزوج في صالح الزوجة رائجاً في أوساطنا منذ القديم، لكن على النحو المَشروط، أمّا بصورة الإطلاق ومتى شاءت اختصّ الإمام الراحل (قدس سرّه) بالإفتاء به.
وإليك نصّ العبارة ـ مُترجمةً ـ بعد البَسمَلة.
قد سهّل الشارع المقدّس طريقةً معيَّنةً للنساء، كي يَستطعنَ تولّي الطَّلاق بأنفسِهنّ، وذلك بأن تَشترط المرأة في ضِمن عَقد النِّكاح أنْ تكونَ وكيلةً عن الزوج في الطلاق بصورة مُطلقة، أي متى شاءت أنْ تُطلّق نفسَها فَعَلت حَسَب مشيئتِها، أو بصورة مَشروطةٍ ما إذا تخلّف الزوج عن بعض وظائفه الزوجيّة، أو أراد أن يتزوّج امرأةً أُخرى، ونحو ذلك، فهي مُختارة ـ حسب وكالتِها عن الزوج ـ في تطليقِ نفسِها، قال: وبهذا النحو مِن العِلاج تنحّل مُشكلة أَمر الطَّلاق، (روح اللّه الموسويّ الخمينيّ).
لكن الظاهر أنّ هذا ليس بالعلاج الحاسم، والمُشاهَد أنّ الأزواج لا يُوافقون على هذا النحو من الاشتراط ولا سيّما صورة إطلاقه، وليس الرجل ـ مهما كانت المرأة بالمُفتَن بها ـ بهذا النحو مِن الرضوخ لإرادتها الخاصّة ـ طُول حياتها الزوجيّة ـ لاسيّما وتضخّم عدد النساء الطالبات للزواج بلا شرط ولا قيد!
إنّ للرجل ـ في طبيعته الرجوليّة ـ أَنفَةً وشموخاً لا يستسلم لقيادة المرأة مهما كانت فائقةً، إلاّ إذا بلغ به الذُّلّ والهوان ما يَجعله خاضِعاً لهذا الرضوخ.
على أنّ هنا حديثاً عن الإمام الصادق (عليه السلام) في رَجُلٍ جَعَل أمرَ امرأته بيدها! قال: (وَلّى الأمرَ مَن ليس أهله، وخالف السنّة، ولم يَجز النِّكاح) 33.
وفي رواية أُخرى في رجُلٍ لامرأته: أَمرُكِ بيدِكِ! قال: (أَنّى يكون هذا، واللّه يقول ﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ … ﴾ 34ليس هذا بشيء) 35.
وأيضاً هنا كلام عن هذه الوَكالة ـ وهي عَقد جائز، متى شاء المُوكِّل عَزلَ الوكيل ـ هل تُصبح لازِمةً باشتراطه في ضِمن عقد النِّكاح أو أيّ عقد لازم؟ وهل الشرط ضِمن عَقدٍ لازم يُغيّر مِن ماهيّة المشروط؟
وأخيراً، فإنّ الشيخ ذَكَر في كتابه (المبسوط) قال: وإن أَراد (الرجل) أن يجعلَ الأمر إليها فعندنا لا يجوز على الصحيح مِن المذهب. وفي أصحابنا مَن أجازه 36.
ومِن ثَمّ فإنّ المسألة ليست بهيّنة، لا سيّما وخُطورة أمر البُضع المقتضية للاحتياط فيه، كما وقد رجّح صاحب الجواهر جانب الاحتياط، قال: وعلى كلّ حالٍ فالاحتياط لا ينبغي تركه 37 38.
- 1. راجع: تفسير المنار، ج 2، ص 381.
- 2. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 229 و 230، الصفحة: 36.
- 3. الدرّ المنثور، ج 1، ص 662، ومجمع البيان، ج 2، ص 329.
- 4. الدكتور حسين مهربور أخصّائي في الحقوق، مجلّة (نامه مفيد)، العدد 21، ص 161.
- 5. راجع: صحيحة زرارة في الكافي، ج 1، ص 58، رقم 19.
- 6. تجد جانباً من ذلك في رسالتنا (ولاية الفقيه) الفارسيّة ص 172 ـ 174.
- 7. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 120، الصفحة: 19.
- 8. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 145، الصفحة: 22.
- 9. القران الكريم: سورة الأنعام (6)، الآية: 116، الصفحة: 142.
- 10. a. b. جامع البيان، ج 2، ص 276.
- 11. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 228، الصفحة: 36.
- 12. الدرّ المنثور، ج 1، ص 656، وسنن أبي داود، ج 2، ص 285، رقم 2281، وسنن البيهقي، ج 7، ص 414 كتاب العدد.
- 13. سُنَن ابن ماجة، ج 1، ص 641، باب 667، طلاق العبد، رقم 2107، وفي كنز العمّال، ج 9، ص 640، رقم 27770 نقله عن الجامع الكبير للطبراني، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد، ج 4، ص 334 وعن عصمة… الخ، وقال: فيه الفضل بن المختار وهو ضعيف. (هامش الكنز)، أمّا عن ابن عباس ـ كما في سُنَن ابن ماجة والطبراني ـ ففي طريقه ابن لهيعة، قال في الزوائد: وهو ضعيف. (هامش ابن ماجة).
- 14. جواهر الكلام، ج 32، ص 5.
- 15. راجع: سُنَن البيهقي، ج7، ص314، وسُنَن ابن ماجة، ج1، ص633، باب 658، والدُرّ المنثور، ج1، ص 670 ـ 672 وقد نقلنا النصّ بصورة مُلفقة والأكثر للدرّ.
- 16. القران الكريم: سورة الأحزاب (33)، الآية: 36، الصفحة: 423.
- 17. تهذيب الأحكام، ج8، ص98 ـ 99، رقم 331.
- 18. المصدر: رقم 332.
- 19. النهاية في مجرد الفقه والفتاوي للطوسي، ص529.
- 20. المختلف، ج7، ص383.
- 21. الكافي في الفقه للحلبي، ص307.
- 22. غنية النزوع لابن زُهرة، ج1، ص374 ـ 375.
- 23. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 229، الصفحة: 36.
- 24. المختلف، ج7، ص388.
- 25. جواهر الكلام، ج33، ص3 ـ 4.
- 26. وسائل الشيعة، باب 1 من أبواب موانع الإرث، حديث 10، ج17، ص118.
- 27. القران الكريم: سورة الحج (22)، الآية: 78، الصفحة: 341.
- 28. وسائل الشيعة: باب 1 من أبواب النفقات، ج21، ص509، رقم 2 و6 و12.
- 29. راجع: هامش كنز العمّال، ج9، ص640، وهامش ابن ماجة، ج1، ص641، ومجمع الزوائد، ج4، ص334.
- 30. جواهر الكلام، ج32، ص5.
- 31. وسائل الشيعة، ج22، ص292، رقم 4، باب 6 من كتاب الخُلع.
- 32. راجع: صحيفة النور، ج10، ص78، ومجلّة (نامه مفيد)، العدد 21 ص168.
- 33. تهذيب الأحكام، ج8، ص88، والاستبصار، ج3، ص313، والكافي، ج6، ص137، رقم 4.
- 34. القران الكريم: سورة النساء (4)، الآية: 34، الصفحة: 84.
- 35. وسائل الشيعة، ج22 ص 93 ـ 94، رقم 5 و6، باب 41 من أبواب مقدّمات الطلاق.
- 36. المبسوط للطوسي، ج5، ص29.
- 37. جواهر الكلام، ج32، ص25.
- 38. شُبُهَات و ردود حول القرآن الكريم، تأليف: الأُستاذ محمّد هادي معرفة، تحقيق: مؤسّسة التمهيد ـ قم المقدّسة، الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة ص 140 ـ 149.