نص الشبهة:
وإذ قد اتضح لدينا: أنه قد كان ثمة خطة خبيثة، تستهدف النيل من شخصية النبي العظيم والكريم «صلى الله عليه وآله»، ومن المقدسات الإسلامية، ومن كل رموز الإسلام وشعائره، ومبانيه ومآثره؛ فمن الضروري جداً ـ إذا أردنا تقييم النصوص الروائية والتاريخية النبوية، وكل قضايا الإسلام ـ أن نعتمد معايير وضوابط قادرة على إعطائنا الصورة الحقيقية، والأكثر نقاء وصفاء، ثم هي قادرة على إبعاد ذلك الجانب الموبوء والمريض، والمزيف عن دائرة اهتماماتنا، ثم عن محيطنا الفكري، والعملي بصورة كاملة وشاملة، فما هي تلك المعايير؟ وما هي حقيقة هاتيك الضوابط؟!
الجواب:
إننا من أجل الإجابة على هذا السؤال نقول بإيجاز واختصار:
أدوات البحث الموضوعي والعلمي
إن من الواضح: أن ما لدينا من علوم إسلامية، مثل علم الفقه وأصوله، وعلوم القرآن، والكلام، والرجال، والتاريخ، والنحو واللغة، وغير ذلك قد استفدنا في بعضه ـ جزئياً على الأقل ـ من إرشادات العقل وأحكامه، ومن تتبع ودراسة اللغة العربية، من جهات وحيثيات مختلفة، إلا أن معظم ذلك قد جاء من خلال الاستفادة من النص القرآني الكريم، ومعرفة حقائقه ودقائقه، وسائر ما يرتبط به، ثم ما جاء على شكل روايات، نقلها لنا أناس عن غيرهم، ونقلها هؤلاء عن آخرين أيضاً..
وهكذا إلى أن ينتهي الأمر إلى النبي «صلى الله عليه وآله»، أو الإمام «عليه السلام»، أو أي شخص آخر روى الحدث أو عاينه، أو صدر منه القول أو الموقف.
فإذا أردنا البحث في صحة أو فساد هذا المنقول، فلا بد لنا من امتلاك أدوات البحث، واستخدام وسائله.
ونريد أن نوضح هنا: أن وسائل وأدوات البحث العلمي لدى الواعين من أهل الإسلام، لا تختلف عنها لدى غيرهم من عقلاء البشر جميعاً، فهم يعتمدون نفس المعايير والضوابط التي يعتمدها سائر العقلاء والحكماء من الناس، إذا أرادوا الوصول إلى ما هو حق وواقع وصحيح، واستبعاد ما هو مزيف، أو محرف، أو مصطنع.
ونحن لا بد لنا من أجل استيفاء البحث من الإشارة إلى بعض تلك الأدوات والوسائل 1، فنقول:
مما سبق:
قد قدمنا في الفصل السابق نماذج قليلة من معايير وضوابط مزيفة تهدف إلى حفظ الإنحراف، والإحتفاظ به، وترسيخه، وتبريره وتقريره.
ونستطيع أن نستخلص منها مجموعة من القواعد والمنطلقات، أو فقل: المعايير والأطر، التي لا بد من مراعاتها، والإلتزام والتقيد بها في مجالات ومراحل البحث العلمي الموضوعي والنزيه، في النصوص المختلفة التي تحدثنا عن الدين، والعقيدة والشريعة، والسيرة، والمواقف الجهادية وغيرها، خصوصاً ما كان منها مرتبطاً بأقوال ومواقف وأفعال النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله»، والأئمة الطاهرين من أهل بيته صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
والنقاط التي ذكرناها في ذلك الفصل، وإن كنا لم نذكرها جميعها، وكانت كثيرة ومتنوعة، إلا أننا نعيد التذكير ببعضها كنموذج يوضح ما نرمي إليه، فنقول:
- ليس لأحد حق التشريع، ولا يؤخذ من أحد سوى الله ورسوله، ثم مَنْ أمر رسول الله «صلى الله عليه وآله» بأخذ الشريعة منهم، وهم أهل البيت الأطهار «عليهم السلام»، الذين هم سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى، وهم أحد الثقلين اللذين لن يضل من تمسك بهما إلى يوم القيامة.
- إنه لا سنة إلا سنة رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وسنة الخلفاء الراشدين، وهم خصوص الخلفاء الاثني عشر من أهل بيته الأطهار، الذين أخبر «صلى الله عليه وآله» عنهم ـ كما رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود وأحمد وغيرهم 2.
- لا معصوم إلا الأنبياء، ثم الأئمة الاثنا عشر «عليهم السلام»، وكل من عداهم يجوز عليه الخطأ، والسهو، والنسيان وغيره، ولا يصح قولهم: إن الأمة معصومة، فضلاً عن عصمة أي كان من الناس.
- لا نبوة لأحد بعد رسول الله «صلى الله عليه وآله»، كائناً من كان، فلا يقبل قولهم: الإجماع نبوة بعد نبوة.
- إنه لا اجتهاد لأحد مع وجود الرسول الأكرم «صلى الله عليه وآله».
- لا اجتهاد في مقابل النص عن رسول الله «صلى الله عليه وآله»، والأئمة الطاهرين «عليهم السلام».
- إن حديث رسول الله «صلى الله عليه وآله» لا يُعارَض بفتوى أو عمل صحابي أو غيره، بل قول الرسول هو المعيار والميزان.
- دعوى اجتهاد جميع الصحابة مردودة، بل فيهم العالم والجاهل، والذكي والغبي ووالخ.. فلا تقبل دعوى اجتهاد واحد منهم إلا بشاهد ودليل.
- إنه لا قيمة للرأي ولا للاستحسان، ولا للقياس في التشريع، فضلا عن تقديم أي من هذه الأمور على الآثار والسنن، فضلاً عن صحة نسبة ما دل عليه القياس مثلاً إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله».
- يجوز مخالفة كل أحد ـ حتى أئمة المذاهب ـ إذا وجد النص عن النبي «صلى الله عليه وآله» على خلافه.
- أئمة المذاهب كغيرهم من المجتهدين الآخرين، ويجوز لكل أحد أن يجتهد ويخالفهم، ولا يجب الوقوف عند آرائهم.
- لا تقليد في الأمور الاعتقادية، ولاسيما الأمور الأساسية منها، ولا بد فيها من الدليل القاطع، والبرهان الساطع، ولا يكفي الظن والحدس، بل لا بد من تحصيل اليقين.
- ليس الصحابة كلهم عدولاً ولا بررة أتقياء، بل فيهم الورع التقي، وغيره، وما احتج به البعض لإثبات ذلك لا يكفي، ولا يصح 3.
- ما يفسق به غير الصحابي يفسق به الصحابي، فلا يصغى لدعوى: أن الصحابي لا يفسق بما يفسق به غيره.
- مرسلات الصحابة كمرسلات غيرهم، فدعوى حجيتها دون سواها لا تستند إلى دليل معقول، ولا مقبول.
- إن القرآن وحده هو الكتاب الصحيح مئة بالمئة، وكل كتاب سواه قد يوجد فيه الصحيح والضعيف، والمحرف، والمجعول.
- لا تكفي صحة سند الرواية بأنها حقيقة واقعة، بل لا بد من ملاحظة سائر المعايير، ليمكن بعد ذلك كله إصدار الحكم عليها، نفياً أو إثباتاً.
- إننا لا نرى أية قدسية لأي كتاب، إلا بملاحظة ما تضمنه من حديث الرسول «صلى الله عليه وآله» مع الالتفات إلى أنه ليس جميع ما في الكتاب كذلك، فقد يكون بعضه مزيفاً ومختلقاً، وبعضه محرفاً أو مصحفاً.
- إذا كان ثمة حديث موافقاً لما عند أهل الكتاب، فإنه يصبح مشكوكاً فيه، ولا يصح قولهم: إن رسول الله «صلى الله عليه وآله» كان يحب موافقة أهل الكتاب في كل ما لم ينزل فيه شيء، بل عكس ذلك هو الصحيح.
- دعواهم أن الخوارج صادقون فيما ينقلونه لا تصح، بل الصحيح هو عكس ذلك.
- دعوى أن الشيعة و الروافض يكذبون غير صحيح، والصحيح هو العكس.
- دعوى أن من روى له الشيخان فقد جاز القنطرة ليس لها ما يبررها، بل هم كغيرهم من الرواة، فيهم الثقة، وغير الثقة.
- الاعتزال والتشيع، والمخالفة لأهل الحديث لا يوجب رد رواية الراوي.
- الحسن والقبح عقليان، وليسا شرعيين.
- النبي «صلى الله عليه وآله» لا يجتهد من عند نفسه.
وبعد ما تقدم نقول: إننا نضيف إلى ما تقدم طائفة من الضوابط التي لا يمكن تجاهلها لأي باحث في التراث الإسلامي؛ وهي التالية:
1 ـ دراسة حال الناقلين
إن أول ما يطالعنا في الحديث المأثور، أو في النص المزبور هو سنده، الذي يتمثل بمجموعة أسماء تدل على الذين نقلوا الحديث أو الحدث، لاحق عن سابق. وطبيعي أن يكون اهتمام الباحث بادئ ذي بدء منصباً على دراسة حال الناقلين للنص، لتحصيل درجة من الوثوق والاعتماد، ليكون ذلك عذراً أمام الله لو كان خطأ، وليكون حجة لله تعالى عليه لو أصاب، وليرضى بذلك الوجدان، ويطمئن القلب والضمير له، لو أريد الإقدام والإحجام على أساسه، حيث تكون ثمة حاجة إلى ذلك.
وواضح: أن من عرف عنه: أنه يكذب في خبره، أو لا يدقق ولا يحقق فيه، فلا يمكن الاعتماد على ما يخبر به إلا بعد تأكيد صحته من مصادر وجهات أخرى.
وكذا الحال بالنسبة لخبر من عرف عنه: أنه ينساق وراء هواه السياسي أو المذهبي، أو يستسلم لمشاعره العرقية، أو يتعصب لبلد، أو لطائفة أو غير ذلك، الأمر الذي يحتم علينا دراسة حالة الرواة لمعرفة ميولهم، وارتباطاتهم السياسية والمصلحية وغيرها، على أن من الضروري الالتفات إلى أن ضعف سند الحديث، لا يعني بالضرورة أنه مكذوب ومجعول، بل ما يعنيه هو أن الخلل في السند قد أخل بدرجة الوثوق والاعتماد على النص، فلا بد لتحصيل الوثوق به من طرق ووسائل أخرى.
2 ـ التزام النهج البياني الصحيح
ومن جهة أخرى، إذا فرض: أن النص صادر عن رئيس الفصحاء والبلغاء؛ فلا بد من التأكد من سلامته في مبانيه اللغوية، وفي أدائه على النهج العربي الصحيح، من حيث التركيب، والتزام قواعد الإعراب، ومراعاة ضوابط الفصاحة والبلاغة فيه، على نحو يليق بمن صدر عنه، وينسجم مع لغته، ونهجه البياني.
3 ـ الانسجام مع الأطروحة والنهج
وإذا كان النص يتعرض لبيان فكري، أو سلوكي، أو عقيدي، فلا بد أن لا يتعارض مع النهج الفكري، والعقيدي، والسلوكي الذي يلتزمه ذلك الذي أطلق النص، أو صدر عنه الموقف، ما دام أنه عاقل حكيم؛ فمن ينزه الله عن الجسمية مثلاً، لا يمكن أن يصف الله بأن له أضراساً، ولهوات، وأصابع، وساقاً، وقدماً، وغير ذلك على نحو الحقيقة، كما هو للإنسان وغيره من المخلوقات.
4 ـ الشخصية في خصائصها ومميزاتها
وإذا كان النص يحكي سلوكاً لشخصية ما، فلا بد أن يكون بحيث يمكن أن يصدر ذلك الفعل أو الموقف من تلك الشخصية، من خلال ما عرف عنها من مميزات وخصائص، ثبتت بالدليل الصحيح والقطعي؛ فلا ينسب الجبن والعيّ مثلاً لعلي بن أبي طالب، والشح والبخل لحاتم الطائي، والرذيلة والفجور لأنبياء الله سبحانه وأصفيائه، ولأئمة الدين، وأولياء الله.
إذن، على الباحث في السيرة النبوية المباركة: أن يبادر إلى تحديد معالم الشخصية النبوية، ومعرفة ما لها من مميزات وخصائص؛ فإذا ثبت لديه بالدليل: أن هذه الشخصية في أعلى درجات الحكمة، والعصمة، والشجاعة، والطهر، والحلم، والكرم، والحزم، والعلم، وغير ذلك، متحلياً بكل صفات النبل والفضل، وجامعاً لمختلف سمات الجلال والجمال، والكمال، ولسائر المزايا الإنسانية المثلى ـ إذا ثبت ذلك، فلا بد من جعل كل ذلك معياراً لأي نص يرد عليه، ويريد أن يسجل قولاً، أو فعلاً، أو موقفاً له «صلى الله عليه وآله».
فإذا جاء النص منسجماً مع الوضع الطبيعي للشخصية النبوية المثلى، بما لها من خصائص فإنه يكون مقبولاً، بعد توفر سائر شرائط القبول، وإلا فما علينا إذا رددناه جناح.
فالنص المقبول إذن هو ذلك الذي يسجل الحقيقة كل الحقيقة، دون أن يتأثر بالأهواء السياسية، والمصلحية، ولا بأي من العوامل العاطفية وغيرها، فكما أننا لا يمكن أن نقبل أن يكون مرجع ديني، معروف بالورع والتقوى، قد ألف أغنية أو لحنها، للمغنية الشهيرة فلانة، فكذلك لا يمكن أن نقبل بنسبة ما هو مثل ذلك أو أقبح وأشنع منه، إلى ساحة قدس الرسول الأكرم «صلى الله عليه وآله».
5 ـ عدم التناقض بين النصوص
ومما يفيد في استجلاء بعض نقاط الضعف في النصوص المنقولة، بل وفي حصول اليقين بوجود تصرف سهوي أو عمدي فيها، هو وجود التناقض والتنافي فيما بينها؛ فإن ذلك يشير إلى وجود نص مجعول، أو تعرضه لتصرف فيه، أزاله عن وجهته الصحيحة، الأمر الذي يستدعي مزيداً من الانتباه، وبذل المزيد من الجهد لمعرفة الصحيح من السقيم، والحقيقي من المزيف منها.
6 ـ أن لا يخالف الواقع المحسوس
ومما يفيد في الاقتراب من واقع النص، مراقبته من حيث موافقته، أو مخالفته لما هو مشاهد محسوس، كما لو ادَّعى النص: أن أقرب طريق من مكة إلى المدينة يمر عبر الأندلس، أو ادعى: أن مدينة مكة تقع في سنغافورة، أو ادعى أن الشمس تطلع كل يوم من المغرب، أو في وسط الليل، وما إلى ذلك، مما يدل على أنه نص مكذوب، أو محرف، لا مجال لقبوله، ولا يصلح للاعتماد عليه.
7 ـ أن لا يخالف البديهيات
ومن الواضح: أن هناك بديهيات وضرورات عقلية ثابتة، لا يمكن الإخلال بها، لأن معنى ذلك هو الإخلال بكل شيء في هذه الحياة، فإذا جاء النص مخالفاً لهذه الضرورات، فلا بد من رده ورفضه، وذلك كما لو ادعى: أن الثلاثة زوج، أو أن الأربعة نصف الخمسة، أو أن الضدين قد اجتمعا، وما إلى ذلك من أمور، فإن ذلك كله يكون دليلاً على كذب ذلك النص وعدم صدوره من إنسان عاقل واع، فضلاً عن أن يكون صادراً من نبي أو إمام معصوم.
وذلك لأن الإسلام قد أكد على لسان نبيه، ونطق القرآن: أن العقل هو الميزان والمعيار، وقد اهتم بمخاطبته، وإثارته، وجعله الحَكَم الفصل في الأمور والقضايا، ونعى على كل من لا يهتدي بهداه، ولا يستضيء بنوره في موارد كثيرة ومختلفة.
ومما يلفت النظر هنا: أن هذه المخالفات للضرورات العقلية تكثر في الأمور العقائدية، وفي بعض قضايا التاريخ وغيرها.
ومن ذلك قولهم: إن الله عادل حكيم، ولكنه يجبر عباده على أفعالهم، ثم يثيبهم أو يعذبهم عليها.
وقولهم: إنه تعالى لا يحده مكان، ولا جهة، ثم يقولون: إن له ساقاً، وقدماً، وأصابع، ولهوات، ونواجذ، إلخ!! وأمثال ذلك كثير وخطير؛ فراجع ولاحظ.
8 ـ أن لا يخالف الحقائق الثابتة
ولا يمكن أيضاً قبول نص يخالف الحقائق العلمية الثابتة بالأدلة القطعية، كالنص الذي يقول: إن الأرض تقوم على قرن ثور.
وكذا لو جاء نص يقول: إن الأرض مسطحة، وليست كروية.
ومن ذلك ما لو خالف النص حقيقة ثبتت في علم الرياضيات، أو نحوه، فإنه يرفض ويرد، مهما كان سنده صحيحاً، وحتى إعلائياً أيضاً.
وأما إذا خالف نظرية قد شاعت وذاعت، ولكنها لم تصل إلى درجة الثبوت القطعي، فإن ذلك لا يكون دليلاً على ضعف النص المنقول، بل يكون وجود هذا النص، من أسباب وهن تلك النظرية، وتقليل احتمالات الوثوق بها، والاعتماد عليها.
9 ـ الإمكانية التاريخية
أما إذا حمل النص الذي هو مورد البحث تناقضاً مع ما هو الثابت تاريخياً، بصورة قطعية، فإن ذلك يدعو إلى رفضه ورده أيضاً، فإذا كان من الثابت أن الإسراء والمعراج قد حصلا قبل الهجرة، بل حصلا في السنوات الأولى من البعثة، وثبت أن عائشة إنما انتقلت إلى بيت رسول الله «صلى الله عليه وآله» بعد الهجرة؛ فلا يمكن ـ بعد هذا ـ تصديق النص الذي ينقل عن عائشة نفسها، أنها قالت: ما فقدت جسد رسول الله في تلك الليلة ؛ يعني ليلة الإسراء والمعراج.
ويدخل في هذا أيضاً ما لو ادَّعى الراوي: أنه سمع أو رأى رجلاً، قد مات قبل أن يولد ذلك الراوي، أو أنه قد ولد بعد وفاته.
والأمثلة التي تدخل في هذا المجال وسابقه كثيرة جداً ومتنوعة، كما يعلم بالمراجعة والمقارنة.
10 ـ موافقة الأحكام العقلية والفطرية
وإذا كان الكل يعلم: أن جميع ما جاء به رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وما صدر عنه «صلى الله عليه وآله» وعن الأئمة «عليهم السلام» لا يخالف العقل، ولا يختلف معه، ولا يخالف قضاء الفطرة، ولا يشذ عنها.
فمعنى ذلك: أننا إذا رأينا نصاً يُنسَب إلى الرسول «صلى الله عليه وآله»، أو إلى أحد الأئمة «عليهم السلام»، مما يرفضه العقل، وتأباه الفطرة السليمة والمستقيمة، فإننا سوف نشك في صحة ذلك النص، حتى إذا لم نجد له تأويلاً مقبولاً، أو معقولاً؛ فإننا لا نتردد في رده ورفضه من الأساس.
ومن ذلك حكم العقل بوجوب أن يكون النبي «صلى الله عليه وآله»، والإمام «عليه السلام» معصومَين من الخطأ، مبرَّأين من الزلل؛ فالنص الذي يريد أن ينسب إلى النبي «صلى الله عليه وآله» والإمام «عليه السلام» خطأ أو زللاً، لا نتردد في رفضه، ولا نشك في أنه من وضع أعداء الدين، وأصحاب الأهواء، فتصبح العصمة، وسائر أحكام العقل والفطرة حول الذات الإلهية، ومواصفات الشخصية النبوية، وغير ذلك، معايير وضوابط يعرف بهـا الصحيح من السقيم، والحقيقي من المزيف، والسليم من المحرف.
11 ـ الانسجام مع الأجواء والمناخات
وإذا استطاع الباحث أن يكتشف المناخات والظروف، وأن يتعرف على الأجواء السياسية، أو الاجتماعية، وغيرها، وفق ما توفر لديه من وسائل، وإمكانات، فإنه يستطيع أن يكتشف من خلال ذلك انسجام أو عدم انسجام كثير من النصوص مع الواقع الذي استطاع أن يتلمسه، وأن يطلع على خصائصه ومزاياه، وعناصره وخفاياه، ويصبح هذا الفهم أيضاً أحد وسائل المعرفة التي يمكنه الاستفادة منها، والاعتماد عليها، والاستناد إليها في نطاق البحث العلمي والموضوعي.
12 ـ المعيار الأعظم والأقوم
وإذا ثبت لأي من الناس: أن كتاباً ما صحيح كله، ولا يتطرق إليه أي ريب أو شك، فإنه سوف يجعله معياراً لكل ما يرد عليه، فيقبل ما وافقه، ويرد ما خالفه، سواء أكان ذلك الكتاب يتحدث عن علم الكيمياء، أم الفيزياء، أم الرياضيات، أم علوم الدين والشريعة، أم أي شيء آخر..
ولا ريب في أن القرآن هو ذلك الكتاب الذي أحكمت آياته، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فهو المعيار الأقوم، وهو الميزان الأعظم لا يرتاب في ذلك ذو مسكة، أو شعور قويم وسليم، وفضلاً عن ذلك، فإن النصوص قد تواترت وتضافرت على الأمر بالعرض على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالفه فاتركوه.
وعن الإمام الصادق «عليه السلام»: ما لم يوافق كتاب الله فهو زخرف 4.
ومن دعاء الإمام السجاد «عليه السلام» عند ختم القرآن:
«وميزان قسط لا يحيف عن الحق لسانه، ونور هدى لا يطفأ عن الشاهدين برهانه، وعلم نجاة لا يضل من أمَّ قصْد سنّته» 5.
وعن الإمام الباقر «عليه السلام»: «إذا حدثتكم بشيء فاسألوني عن كتاب الله» 6 ومثل ذلك كثير عن أهل البيت «عليهم السلام» من طرق شيعتهم.
وأما ما رواه غيرهم في هذا المجال، فهو كثير أيضاً، ونذكر من ذلك النصوص التالية:
1 ـ روي عن النبي «صلى الله عليه وآله» أنه قال:
تكثر لكم الأحاديث بعدي، فإذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله، فما وافق كتاب الله، فاقبلوه، وما خالف فردوه 7.
2 ـ عن ابن عباس: إذا سمعتموني أحدث عن رسول الله، فلم تجدوه في كتاب الله، أو حسناً عند الناس فاعلموا أني كذبت عليه 8.
3 ـ وعن ابن مسعود: فانظروا ما واطأ كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه 9.
4 ـ وعن أبي بكر في خطبة له: فإن كانت للباطل غزوة، ولأهل الحق جولة، يعفو لها الأثر، وتموت السنن، فالزموا المساجد، واستشيروا القرآن 10.
5 ـ عن ابن أبي كريمة، عن جعفر، عن رسول الله «صلى الله عليه وآله»، أنه خطب، فقال: إن الحديث سيفشو عليّ، فما أتاكم عني يوافق القرآن، فهو عني، وما أتاكم عني يخالف القرآن فليس عني 11.
6 ـ وعن علي «عليه السلام»: ستكون عني رواة يروون الحديث، فاعرضوه على القرآن، فإن وافق القرآن فخذوه، وإلا فدعوه 12.
7 ـ وعن أبي هريرة عن النبي «صلى الله عليه وآله» ما يقرب من ذلك أيضاً فراجع 13.
8 ـ وعن أبي بن كعب رحمه الله، فيما أوصى به رجلاً: اتخذ كتاب الله إماماً، وارض به قاضياً وحكماً الخ.. 14.
9 ـ وعن معاذ: فاعرضوا على الكتاب كل الكلام، ولا تعرضوه على شيء من الكلام 15.
هل السنة قاضية على الكتاب؟!
فما تقدم هو حكم النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» وصحبه، حيث أوجبوا جعل القرآن حكماً ومرجعاً، وميزاناً، يميز به الحق من الباطل، وذلك هو ما يحكم به العقل السليم، والفطرة المستقيمة، بعد قيام الدليل القطعي على أن القرآن هو كتاب الله المنزل على نبيه المرسل.
ولكننا وجدنا في مقابل ذلك محاولات جادة ومصرة للمنع عن العمل بالقرآن، وعن الرجوع إليه، وعن اتخاذه حكماً، وميزاناً ومعياراً في كل الأمور، بل لقد منعوا حتى عن السؤال عن معانيه كما هو معلوم، بل لقد جعلوا الحديث المروي مقدماً على كتاب الله، وحاكماً عليه.
وقالوا: «السنة قاضية على الكتاب وليس الكتاب بقاض على السنة» 16.
رغم أن الحديث المروي لم يثبت أنه من السنة.. وحتى مع ثبوت ذلك، فإن هذه القاعدة مرفوضة من الأساس.
الأدلة الواهية
ومما ذكروه في وجه ذلك ما قاله أبو بكر البيهقي: «والحديث الذي روي في عرض الحديث على القرآن باطل، وهو ينعكس على نفسه بالبطلان، فليس في القرآن دلالة على عرض الحديث على القرآن» 17.
وقال الخطابي عن حديث عرض الحديث على القرآن: «هذا حديث وضعته الزنادقة» 18.
وقال عبد الرحمن بن مهدي: «الزنادقة والخوارج وضعوا ذلك الحديث، يعني ما روي عنه «صلى الله عليه وآله» أنه قال: ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله، فإن وافق كتاب الله فأنا قلته، وإن خالف كتاب الله فلم أقله، وإنما أنا موافق كتاب الله، وبه هداني الله.
وهذه الألفاظ لا تصح عنه «صلى الله عليه وآله» عند أهل العلم بصحيح النقل من سقيمه، وقد عارض هذا الحديث قوم من أهل العلم وقالوا:
نحن نعرض هذا الحديث على كتاب الله: قبل كل شيء، ونعتمد على ذلك؛ فلما عرضناه على كتاب الله، وجدناه مخالفاً لكتاب الله؛ لأنَّا لم نجد في كتاب الله: ألا يُقبل من حديث رسول الله إلا ما وافق كتاب الله، بل وجدنا كتاب الله يطلق التأسي به، والأمر بطاعته، وكذا المخالفة عن أمره جملة على كل حال» 19.
وقال أبو عمر: «قد أمر الله عز وجل بطاعته واتباعه أمراً مطلقاً مجملاً، لم يُقيّد بشيء، كما أمرنا باتباع كتاب الله، ولم يقل: وافِقْ كتاب الله، كما قال بعض أهل الزيغ» 20.
وقال يحيى بن معين: عن حديث ثوبان عن النبي «صلى الله عليه وآله»، الأمر بعرض الحديث على القرآن: «إنه موضوع، وضعته الزنادقة».
وقال الأوزاعي: «الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب».
وقال ابن عبد البر: «إنها تقضي عليه، وتبين المراد منه».
وقال يحيى بن أبي كثير: «السنة قاضية على الكتاب» 21.
المناقشة
كان ما تقدم هو كل ما لدى هؤلاء من جهد لرد حديث رسول الله «صلى الله عليه وآله»، الذي وافقه أبو بكر، وابن مسعود، وأبي بن كعب، ومعاذ، وابن عباس.
ورواه عن النبي «صلى الله عليه وآله» علي «عليه السلام»، وأبو هريرة، وثوبان، وجعفر، وابن عمر، هذا عدا عما روي عن أئمة أهل البيت الأطهار صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وقد رأينا: كيف لم يتمكنوا من السيطرة على مشاعرهم وانفعالاتهم، وهم يبادرون إلى الحكم على الحديث بالوضع، ثم اكتشفوا الواضعين ـ بزعمهم ـ فكانوا هم الزنادقة والخوارج.
ولا ندري متى عقد الخوارج والزنادقة اجتماعهم الذي قرروا فيه وضع هذا الحديث واختلاقه!! كما أننا لا ندري أين تم هذا الاجتماع!! وبرئاسة مَنْ مِنَ الناس؟.
ومن الذي أخبر هؤلاء بما دار في ذلك الاجتماع، وبما تمخض عنه!! كما أننا لم نستطع معرفة مبررات اتخاذهم قراراً كهذا.
وهل إن عرض الحديث على القرآن يفيد الزنادقة والخوارج؟! وكيف؟!.
وهل إن عدم عرضه يضرهم؟! وكيف؟!
وأياً كانت الإجابة على الأسئلة الآنفة الذكر؛ فإننا نقول:
إن ما ذكره هؤلاء على أنه مبرر لرد حديث عرض الحديث على القرآن، لا يصلح للتبرير، بل هو محض مغالطة ظاهرة البطلان، وذلك لما يلي:
أولاً: إن عدم وجدانكم الحكم في كتاب الله لا يعني بالضرورة أن يكون الحكم الذي تعرض الحديث له مخالفاً للكتاب! فلعله يوافقه ـ ولو لعموماته ـ وأنتم لا تعلمون.
ولا ندري إن كنتم تعتقدون: أن كل الأحكام كلية وجزئية، في أدق تفاصيلها يجب أن تذكر في القرآن صراحة ونصاً!!
أو أنكم ترون لزوم ذكر نص الحديث في القرآن، ليصبح موافقاً له!! وإذا كنتم تعتقدون ذلك، فلا ندري كم سوف يكون حجم القرآن حينئذ؟! وهل يمكن لأحد حفظه؟! أو حتى الاستفادة منه؟! وكيف؟! 22.
ثانياً: إن هذا الحديث ناظر إلى قبول الموافق ورد المخالف، أما ما لا يوافق ولا يخالف، فهو باق تحت أدلة حجية الأخبار.
ثالثاً: إن وجوب قبول الخبر إنما يثبت فيما تحقق أنه صدر من رسول الله «صلى الله عليه وآله» بالسماع منه، أو بالتواتر.
أما وجوب عرض الحديث على القرآن، فإنما هو في الحديث الذي يوجد ثمة شك وتردد في ثبوته عن رسول الله «صلى الله عليه وآله»، إذ هو المراد من قوله: إذا روي لكم عني حديث 23 إلخ..
ورابعاً: يقول الشافعي، وأكثر أصحابه، وأكثر أهل الظاهر، وهو إحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل: إن السنة لا تنسخ القرآن، وبه قال الصيرفي، والخفاف 24.
وروي عن عبد الله بن سيد المنع من ذلك عقلاً.
وقال أبو حامد وأبو إسحاق، وأبو الطيب الصعلوكي بالمنع سمعاً.
وقيل: ليس يمتنع، لا عقلاً ولا سمعاً، لكنه لم يقع.
وقال السُّبكي: إن قول الشافعي لا يدل على أكثر من هذا 25.
أما نسخ الكتاب بخبر الواحد، فهو لا يقع إجماعاً.
إذن، فما معنى أن تكون السنة قاضية على الكتاب وليس الكتاب بقاض على السنة؟!!
دليل آخر على عدم العرض على القرآن!!
وقال الخطابي: وهو يتحدث حول ما ورد عن رسول الله «صلى الله عليه وآله»، أنه قال:
«لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته، يأتيه الأمر مما أمرت به، أو نهيت عنه، فيقول: ما ندري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه» 26.
قال الخطابي: «في الحديث دليل على أن لا حاجة بالحديث أن يعرض على الكتاب، وأنه مهما ثبت عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» شيء كان حجة بنفسه.
فأما ما رواه بعضهم، أنه قال: إذا جاءكم الحديث فاعرضوه على كتاب الله، فإن وافقه فخذوه، فإنه حديث باطل لا أصل له.
وقد حكى زكريا الساجي، عن يحيى بن معين، أنه قال: «هذا حديث وضعته الزنادقة» 27.
ونقول:
أولاً: إن الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» إنما يستنكر رد ما علم أنه قوله وأمره، ولا يستنكر عرض الحديث المشتبه به على القرآن للتأكد من صدوره منه «صلى الله عليه وآله».
ثانياً: لقد جاء هذا الحديث ليخبر عما سوف يكون حين وفاته «صلى الله عليه وآله» وقد تحقق مصداق ما أخبر عنه، وذلك حينما طلب «صلى الله عليه وآله» أن يأتوه بكتف ودواة ليكتب لهم كتاباً لن يضلوا بعده أبداً، فقال عمر بن الخطاب: «حسبنا كتاب الله» 28.
وهذا يعني: أن عمر بن الخطاب يرى: أن القرآن أصل برأسه، وأنه غني عن السنة، وهذا لا يتلاءم مع ما يدعيه هؤلاء.
وثالثاً: إننا لا ندري كيف نعمل مع هؤلاء؛ فهذا أبو بكر، وعمر، وعثمان، ومعاوية وغيرهم من خلفاء الأمويين، وقريش بصورة عامة لا يرغبون في كتابة الحديث ولا في روايته عن رسول الله «صلى الله عليه وآله»، بل إنهم يمنعون من ذلك أشد المنع، ويعاقبون من خالف ذلك، ثم يجمعون ما كتبه الصحابة عنه «صلى الله عليه وآله» ويحرقونه.
وذلك على أساس: أن كتاب الله كاف وواف، وعلى حد تعبير عمر بن الخطاب: حسبنا كتاب الله، على أن هؤلاء الذين أصروا على الاكتفاء بكتاب الله سبحانه، تراهم قد منعوا من تفسيره، ومن السؤال عن معانيه ومراميه 29.
ثم جاء أتباعهم ليقولوا لنا: القرآن غير كاف ولا واف، بل هو إلى السنة أحوج من السنة إليه، ثم يقولون: السنة قاضية على الكتاب، وليس الكتاب بقاض على السنة. فأي ذلك هو الصحيح؟
ومن هو المصيب؟
ومن المخطئ يا ترى؟!
فإن كان الكتاب أساساً، وكان كافياً ووافياً، فلماذا المنع من السؤال عن معانيه، ومراميه؟!
وكيف تكون السنة قاضية عليه؟!
وإن كانت السنة مقدمة على الكتاب، فلماذا يمنع من الحديث عن النبي «صلى الله عليه وآله»، ويعاقب من حدث عنه؟!.
وإذا كان كذلك، فما معنى اجتهاد الصحابة، واجتهاد غيرهم، وما هي وسائل الإجتهاد التي يمكنهم من خلالها كشف الواقع، والوصول إلى أحكام الله سبحانه ما دام أنه لا مجال للإستفادة من القرآن، ولا من السنة؟
ماذا جرى للقرآن؟!
ولا نبعد إذا قلنا: إنه ربما تكون السياسة التي كانت تقضي بالمنع
من السؤال عن معاني القرآن ومراميه قد تركت آثاراً عميقة في الناس عبر التاريخ، حيث أصبح الإهتمام بالقرآن يقتصر في الأغلب على الأمور الشكلية فيه، كتحسين الصوت إلى حد التغني به، والإهتمام بتعداد حروفه وآياته، ومعرفة الحروف أو الكلمات الموجودة في هذه السورة، والمفقودة في تلك، وإجراء مقارنات وإحصاءات كثيرة ومتنوعة في هذا الإتجاه، ثم جاء الإهتمام بالشكل، والخط، والورق، وكيفيات الكتابة، وبالحركات، والإشكال، والنقوش، وما إلى ذلك.
وكأن القرآن لم ينزل إلا من أجل أن يترنم به المقرئون، ويردده المرددون بالنغمات الحسان، وبأبدع الألحان.. ويصبح تحفة من التحف، ومن الذخائر التي يتنافس أرباب المال، ورجال الأعمال على اقتنائها، ثم أصبح القرآن كتاب موت، لا كتاب حياة، يقرأ في الفواتح وعلى القبور، أو يعلق من أجل البركة على الجدران والصدور.
وبعد هذا، فلا ندري أي فائدة تبقى لما اشتمل عليه القرآن من أوامر وزواجر، وقوانين، وتشريعات، سياسية، واجتماعية، وفقهية، وغيرها؟!
وإذا كان الأمر كذلك، لم يعد كتاب هداية، كما لا يبقى معنى للتدبر فيه، فلا معنى إذن لقوله تعالى: ﴿ … هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ 30، وقوله: ﴿ … يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ … ﴾ 31، وقوله: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ 32؟!.
وهل يبقى بعد هذا معنى لجعل النبي «صلى الله عليه وآله» القرآن أحد الثقلين اللذين لا يضل من تمسك بهما إلى يوم القيامة؟!
ولماذا يكلف الله الناس بحفظ وتلاوة هذا القرآن، بما له من حجم كبير، ما دام أن لا ربط له بحياتهم، ودينهم، ومعاشهم، ومعادهم؟!
وأخيراً..
لماذا يهتم العلماء والمفكرون بتفسير القرآن، وشرح ألفاظه، وبيان معانيه، وكشف مراميه؟! إلى غير ذلك من الأسئلة الكثيرة، التي لن تجد لدى هؤلاء الجواب المقنع والمفيد والسديد.
قبل الختام
قد ذكرنا في هذا الفصل بعض الثوابت التي لا بد من الإلزام والالتزام بها في مجال البحث العلمي والموضوعي، إذا أريد الوصول إلى نتائج معقولة، ومقبولة، ومرضية للوجدان العلمي والإنساني.
وليكن ما ذكرناه، وسواه مما لم نذكره مما يقره العقلاء والمنصفون على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم، واتجاهاتهم، هو المنطلق لنا في تعاملنا مع كل ما يرتبط بقضايا الفكر، والعقيدة، والتراث، على كثرة ما فيه من تنوع واختلاف وشمولية.
وبذلك يكون موقفنا قائماً على أسس واقعية، وقويمة؛ فنرضي بذلك وجداننا، ونتقرب به إلى ربنا، ونؤكد به إنسانيتنا، بالإضافة إلى أننا نقدم به للأمة، وللأجيال، وللبشرية جمعاء، خدمات جُلَّى، وفوائد جساماً، ولا يضيع الله أجر من أحسن عملاً.
ونعود إلى التذكير، والتأكيد، على أن ما ذكرناه ليس هو كل شيء، فإن كل نص يحمل معه مفاتيح البحث فيه، ويشير إلى وسائل التعامل معه، وذلك بملاحظة ما فيه من عناصر، وما تتوفر فيه من خصوصيات، ربما لا تتوفر في نص آخر، بل ذاك يحمل معه عناصر أخرى ويحتاج إلى وسائل وأدوات من نوع آخر.
خاتمة المطاف
وبعد.. فإننا نستطيع بملاحظة تلك الأسس مجتمعة أن نعرف مدى قيمة تلك النصوص الكثيرة، التي تحاول أن تظهر نبينا الأعظم «صلى الله عليه وآله» بذلك المظهر الصبياني، العاجز والجاهل، والمزري والمهين، وتعطى ـ على هذا الأساس ـ حجمها الطبيعي، وتجد مكانها الحقيقي، فيما بين النصوص المزيفة والمختلقة.
ولا تجد لها بعد هذا فرصة للتسلل ـ بطريقة أو بأخرى ـ إلى تاريخ وفقه، وعقائد المسلمين، بحيث تعطي انطباعاً خاطئاً، لا ينسجم مع روح الإسلام ومبادئه، ولا مع واقع المسلمين وتاريخ نبيهم الأكرم «صلى الله عليه وآله»، والأئمة الطاهرين، وسائر الشخصيات الإسلامية عبر التاريخ.
وحينئذ فقط نستطيع أن ندَّعي:
أن بإمكاننا أن نقدم للأمة التراث النقي الذي يكون ـ بحق ـ مصدر فخر واعتزاز وإعجاب المسلمين جميعاً، وللإنسان أينما وجد ولأي فئة انتمى، ولنستفيد ـ من ثم ـ الكثير الطيب الذي يساعد على اكتشاف عناصر الضعف والقوة في واقعنا الراهن، والخطأ والصواب في مواقفنا الحاضرة، من أجل البناء السليم والقوي للمستقبل المشرق الرغيد. إن شاء الله تعالى.
كلمة أخيرة
وفي ختام هذا البحث لا يسعني إلا أن أتقدم بجزيل الشكر للذين يتحملون عناء قراءته، ويصبرون على ما يواجهونه من صعوبات فيه، سواء من الناحية الفنية، أو من حيث الإجمال في نصوصه، والاختصار فيها، الذي يصل أحياناً إلى درجة الإخلال بإعطاء الصورة الواضحة التي يراد تقديمها لهم، وعرضها عليهم.
كما أنني أتقدم لهم بعذري، إذا كانوا يرون أنني قد اقتصدت في إيراد النصوص والشواهد، ولم أتعمد استيعابها، ولا تكثيف مصادرها.
فإن المقصود من طرح هذا البحث هو مجرد تسجيل إثارات لموضوعات هامة وحساسة، قلما حظيت من الباحثين والمؤلفين بما تستحقه من بحث وتمحيص.
كما أنها لم تجد من يتوخى الصراحة والوضوح في عرضها وهي الحقائق الخطيرة التي توفرت الدواعي، ولا تزال، على إخفائها، وإبعادها عن الأضواء، بل وطمسها والتخلص منها بصورة أو بأخرى.
ثم إنني اعتذر للقارئ إذا وجد في هذا البحث بعضاً من الصراحة، التي قلما توجد في بحوث الآخرين التي تناولت هذا الموضوع بالذات، وآمل أن يتسع صدره لذلك، بل وينشرح ويبتهج له، ويكون لي من المشجعين، لا من المثبطين.
وفقنا الله لقول كلمة الحق واعتماد الصراحة والصدق. فإن أئمتنا الأطهار أول من علمنا ذلك.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
والحمد لله، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين 33.
- 1. إن محط نظرنا في هذا الفصل وفي سابقه، هو ـ في الأكثر ـ النصوص المرتبطة بالنبي «صلى الله عليه وآله»، والأئمة المعصومين «عليهم السلام». وما عدا ذلك من قضايا تاريخية فإنه لا يهمنا كثيراً الآن. ونشير هنا إلى أن من المعلوم: أن التاريخ وكل قضايا التراث قد كتبت ـ في الأكثر ـ بأيد غير أمينة، فلا يمكن المبادرة إلى عرضها على أنها تاريخ أو تشريع، أو غير ذلك إلا بعد دراستها بعمق، وتمحيصها بصورة كافية ووافية. ونحن نعترف في الوقت الحاضر أننا غير قادرين على القيام بمهمة كهذه.
- 2. راجع كتابنا: الغدير والمعارضون ص61 ـ 70.
- 3. راجع: صراع الحرية في عصر الشيخ المفيد ص70 ـ 74 ودراسات وبحوث في التاريخ والإسلام ج2 ص253 ـ 271 طبع إيران.
- 4. أصول الكافي ج1 ص55 وفي الباب روايات كثيرة أخرى، فمن أرادها فليراجعها.
- 5. راجع: الصحيفة السجادية، الدعاء رقم 42.
- 6. الميزان في تفسير القرآن ج3 ص176 عن الكافي.
- 7. عن أصول الحنفية للشاشي ص43 وراجع: كنز العمال ج1 ص176 عن ابن عمر عنه «صلى الله عليه وآله». وص 175 و160 عن ثوبان عنه «صلى الله عليه وآله». والنقل في الجميع عن الطبراني، ومجمع الزوائد ج1 ص170 عن ثوبان عنه «صلى الله عليه وآله»، وأصول السرخسي ج1 ص315 وج 2 ص68، مستدلا به على عدم جواز نسخ الكتاب بالسنة ونهاية السؤل، تعليقات محمد بخيت المطيعي ج3 ص173.
- 8. سنن الدارمي ج1 ص146.
- 9. المصنف للصنعاني ج6 ص112 وراجع خطبة ابن مسعود في ج11 ص160 وجامع بيان العلم ج2 ص42 وحياة الصحابة ج3 ص191 عنه.
- 10. عيون الأخبار لابن قتيبة ج2 ص233 والبيان والتبيين ج2 ص44 والعقد الفريد ج4 ص60.
- 11. الأم ج7 ص308 وأضواء على السنة المحمدية ص367.
- 12. كنز العمال ج1 ص176 عن ابن عساكر. وفي تهذيب تاريخ دمشق حديث آخر عن علي «عليه السلام» حول عرض الحديث على القرآن.
- 13. الكفاية في علم الرواية ص430.
- 14. حلية الأولياء ج1 ص253 وحياة الصحابة ج3 ص576.
- 15. حياة الصحابة ج3 ص197 عن كنز العمال ج8 ص87 عن ابن عساكر.
- 16. تأويل مختلف الحديث ص199 وسنن الدارمي ج1 ص145 ومقالات الإسلاميين ج2 ص324 وج 1 ص251 وجامع بيان العلم ج2 ص234 و233 وعون المعبود ج12 ص356. وراجع: الكفاية للخطيب ص14 وميزان الاعتدال ج1 ص107 ولسان الميزان ج1 ص194 ودلائل النبوة للبيهقي ج1 ص26 والجامع لأحكام القرآن ج1 ص38 و39 وراجع: المعتصر من المختصر من مشكل الآثار ج2 ص251 ونهاية السؤل للآسنوي ج2 ص579 ـ 580 وبحوث مع أهل السنة والسلفية ص67 و68 عن بعض ما تقدم.
- 17. دلائل النبوة للبيهقي ج1 ص26.
- 18. الخلاصة في أصول الحديث للطيبي ص85.
- 19. جامع بيان العلم ج2 ص233 وإرشاد الفحول ص33 وراجع هذا النص وغيره، في كتاب: بحوث مع أهل السنة والسلفية ص67 ـ 68 وسلم الوصول (مطبوع مع نهاية السؤل) ج3 ص174.
- 20. جامع بيان العلم ج2 ص233.
- 21. إرشاد الفحول ص33. وراجع: سلم الوصول (مطبوع مع نهاية السؤل) ج3 ص174.
- 22. لا بأس بمراجعة ما قاله السرخسي في هذا المقام. أصول السرخسي ج1 ص365.
- 23. سلم الوصول (مطبوع مع نهاية السؤل) ج3 ص174.
- 24. راجع: المستصفى للغزالي ج1 ص124 وفواتح الرحموت (مطبوع مع المستصفى) ج2 ص78 وإرشاد الفحول ص191 ونهاية السؤل للآسنوي ج2 ص579 ـ 580 متنا وهامشاً. وراجع ج4 ص457 وأصول السرخسي ج2 ص67 ـ 69.
- 25. راجع نهاية السؤل للآسنوي ج2 ص579 ـ 580 متناً وهامشاً.
- 26. راجع: دلائل النبوة للبيهقي ج1 ص24 ومصابيح السنة ج1 ص158 و159 وسنن ابن ماجة ج1 ص6 و7 ومسند أحمد ج6 ص8 وج 4 ص131 و132 ومستدرك الحاكم ج1 ص108 و109 وتلخيص المستدرك للذهبي (مطبوع بهامشه) والجامع الصحيح للترمذي ج5 ص37 و38 وسنن الدارمي ج1 ص144 وسنن أبي داود ج4 ص200 وج 3 ص170 والإملاء والاستملاء ص4 وكشف الأستار عن مسند البزار ج1 ص80 والمصنف للصنعاني ج10 ص453 والأم ج7 ص310، والكفاية في علم الرواية ص8 ـ 11.
- 27. عون المعبود في شرح سنن أبي داود ج4 ص356.
- 28. راجع: مسند أحمد ج6 ص47 و116 وج 1 ص90 و22 و29 و32 و336 و335 وج 3 ص346 وصحيح مسلم ج5 ص76 وصحيح البخاري ج4 ص5 و173 وج 1 ص22 والمصنف للصنعاني ج5 ص438 و439 وتهذيب تاريخ دمشق ج6 ص451. وراجع بقية المصادر في كتابنا: صراع الحرية في عصر المفيد.
- 29. راجع: الغدير ج6 ص290 ـ 293 عن مصادر كثيرة، وكشف الأستار عن زوائد البزار ج3 ص70.
- 30. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 2، الصفحة: 2.
- 31. القران الكريم: سورة الإسراء (17)، الآية: 9، الصفحة: 283.
- 32. القران الكريم: سورة محمد (47)، الآية: 24، الصفحة: 509.
- 33. الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)، سماحة العلامة السيد جعفر مرتضى العاملي، المركز الإسلامي للدراسات، الطبعة الخامسة، سنة 2005 م. ـ 1425 هـ. ق، الجزء الأول، مدخل إلى دراسة السيرة، الفصل الرابع.