هي من ذخائر التراث الإسلامي ، ومن مناجم المباحث البلاغيّة والأخلاقيّة والتربويّة والأدبيّة في الإسلام ونظراً لأهميّتها فقد سماها كبار رجال الفكر والعلم ، بأخت القرآن وإنجيل أهل البيت وزبور آل محمّد (۱).
وممّا زاد في أهميّتها أنّها جاءت في عصر طغت فيه الأحداث الرهيبة في السياسة التي أحالت حياة المسلمين إلى جحيم مظلم ليس فيه أيّ بصيص نور من هدي الإسلام وإشراقه ، فالتكتّل الحزبي والسياسي الذي سعى وراءه أصحاب المصالح والأطماع الشخصيّة حيث اختفى أيّ ظلّ لروحانيّة الإسلام وتعاليمه السمحة وآدابه الإنسانيّة وحكمه الخالدة.
لقد فتحت الصحيفة السجاديّة آفاقاً جديدة للوعي الديني ، كان المسلمون قد فقدوه ، ودعت إلى التبتل الروحي والصفاء النفسي والطهارة والتجرّد من الأنانيّة ونبذ الجشع والطمع وغير ذلك من الرذائل والنزعات الشريرة التي نهى عنها الإسلام. كما دعت الصحيفة إلى الاتّصال بالله تعالى خالق الكون وواهب الحياة ومصدر الخير والحق والجمال سبحانه وتعالى أحسن الخالقين.
فرادتها :
تمتاز الصحيفة السجاديّة بأمور بالغة الأهميّة ومميّزات عديدة ، من بينها ما يلي :
١ ـ تمثل الانقطاع الكامل لله تعالى والاعتصام بحبله والتجرّد التامّ من عالم المادة.
٢ ـ لقد كشفت عن معرفة كاملة يتمتّع بها الإمام تفيد عن عمق إيمانه بالواحد القهّار ، ولم يكن ذلك ناشئاً عن عاطفة عابرة أو تقليد قديم ، وإنّما هو قائم على العلم اليقين والعرفان الأكيد. وقد أدلى (ع) في صحيفته هذه بكثير من البحوث الكلاميّة التي انتهل منها علماء الكلام والفلاسفة المسلمون في ما كتبوه عن واجد الوجود.
٣ ـ احتوت على كمال الخضوع أمام الله تعالى ، وبذلك قد امتازت على بقيّة أدعية الأئمّة الطاهرين بما فيها من أفانين التضرّعات وإظهار التذلّل لله تعالى. قال الفاضل الأصفهاني : « إن الله تعالى قد خصّ كلّ واحد منهم بمزيّة وخصوصيّة لا توجد في غيره ، كالشجاعة في أمير المؤمنين وابنه الحسين (ع) والرقّة والتفجع في أدعية زين العابدين (ع) لا سيّما أدعية الصحيفة الكاملة ، المعروفة بين أصحابنا الإماميّة بزبور آل محمّد ، وأخرى بإنجيل أهل البيت » (۲).
٤ ـ لقد فتحت أبواب الأمل والرجاء برحمة الله تعالى التي وسعت كلّ شيء. فالإنسان مهما كثرت ذنوبه وعظمت خطاياه لا ينبغي له أن يقنط من رحمة الله تعالى ، وعفوه وكرمه.
يقول الإمام عليه السلام : « إلهي وعزّتك وجلالك ، لئن طالبتني بذنوبي لأطالبنك بعفوك ، ولئن طالبتني بلؤمي لأطالبنك بكرمك .. ».
٥ ـ أكثر ما ورد من أدعية في الصحيفة يصلح برامج للأخلاق الروحيّة وآداب السلوك والفضائل النفسيّة التي يسمو بها الإنسان عن عالم المادة.
٦ ـ احتوت على حقائق علميّة لم تكن معروفة في عصره ، نذكر منها قوله (ع) : « اللهم وامزج مياههم بالوباء وأطعمتهم بالأدواء .. ».
لقد أشار هنا (ع) إلى حقيقة علميّة اكتشفت في العصور الأخيرة ، وهي أن جراثيم الوباء المعروفة بـ « الكوليرا » إنّما تأتي عن طريق الماء ، فهو الذي يتلوّث بجراثيمها كما أن جراثيم هذا الوباء تنتقل إلى الأطعمة فإذا أكلها الإنسان وهي ملوثة بتلك الجراثيم فإنّه يصاب بهذا الداء. هذه الحقيقة لم تعرف إلّا في هذا العصر.
٧ ـ إنّها تمثل فلسفة الدعاء الذي هو معراج المؤمن إلى الله والبالغ به إلى أرقى مراتب الكمال ، إذ ليس شيء في هذه الحياة ما هو أسمى من الاتّصال بالله تعالى خالق الكون ، وواهب الحياة إلى النفوس الحائرة التي تشعر بالطمأنينة بعد القلق ، وبالأمل بعد القنوط أن الدعاء الخالص ليسمو بالإنسان إلى عالم الملكوت.
٨ ـ تعتبر الصحيفة السجاديّة ثورة على الفساد والانحلال الذي كان سائداً في ذلك العصر بسبب السياسة الأمويّة التي أشاعت المجون والفساد والتحلل بين المسلمين. فجاءت الصحيفة ثورة على الجمود والتخلف والانحطاط في العصر الأموي.
٩ ـ لقد بلغت أرقى مراتب الفصاحة والبلاغة في اللغة العربيّة. فلا نجد كلاماً عربيّاً بعد القرآن الكريم ونهج البلاغة ما هو أبلغ وأفصح من أدعية الإمام زين العابدين عليه السلام.
قال الدكتور حسين محفوظ : « وعلى الرغم من أنّه ـ الدعاء ـ المأثور عن الأئمّة نثر فني رائع ، وأسلوب ناصع من أجناس المنثور ، ونمط بديع من أفانين التعبير ، وطرق بارعة من أنواع البيان ، ومسلك معجب من فنون الكلام ، والحقّ إن ذلك النهج العبقري المعجز من بلاغات النبي (ص) وأهل البيت (ع) التي لم يرق إليها غير طيرهم ، ولم تتسم إليها سوى أقلامهم. فالدعاء أدب جميل ، وحديث مبارك ، ولغة غنيّة ، ودين قيم ، وبلاغة عبقريّة ، إلهيّة المسحة ، نبويّة العبقة .. » (۳).
وقد اهتمّت الأوساط الإسلاميّة وغير الإسلاميّة اهتماماً بالغاً بالصحيفة السجاديّة ، فقد واظب جميع العلماء المسلمين الصالحين على الدعاء بها في غلس الليل وفي وضح النهار متضرّعين بها إلى الله تعالى.
ولم تقتصر على العالم العربي فقط وإنّما تعدت إلى غيره من شعوب العالم فترجمت إلى أكثر اللغات الأجنبيّة ، كالفرنسيّة والإنكليزيّة والفارسيّة والألمانيّة وغيرها.
وممّا يدلّ على مدى أهميّتها أن الخطاطين في مختلف العصور الإسلاميّة انبروا إلى كتابتها بخط أثري في منتهى الروعة وقد حفلت بها الكثير من خزائن المخطوطات الإسلاميّة. كما عكف العلماء على دراسة الصحيفة وإيضاح مقاصدها وشرحها. والعلماء الذين قاموا بهذه المهمة زاد عددهم على السبعين عالم. كلّ ذلك لأنّهم وجدوا في الصحيفة نموذجاً فريداً يستفيد منه كلّ أديب وباحث فقد كان البارز فيها جمال الأسلوب وروعة الديباجة ورقة الألفاظ وارتياح روحي يبلسم النفوس الحائرة والقلوب الضالّة.
ومن مظاهر الروعة البلاغيّة فيها الأطناب والإيجاز حيث تدعو الحاجة. فقد أطنب (ع) في وصف الجنّة وما فيها من نعم وترف ، وقصور جميلة كلّ ذلك بسبب تشويق الناس إليها وترغيبهم بأعمال البرّ والخير ليفوزوا بنعيمها. كما أطنب في التهويل من النار وقساوة العذاب وذلك لزجر الناس عن اقتراف الموبقات وإبعادهم عن ارتكاب المنكرات. وهو بهذا يجاري أسلوب القرآن الكريم. وقد نصّ علماء البلاغة على أن الأطناب في ذلك من أرقى مراتب البلاغة وأروع صورها.
الهوامش
۱. حياة الإمام زين العابدين ، ص ١١٦. عن الذريعة في تصانيف الشيعة ، ج ١٥ ، ص ١٨.
۲. الصحيفة الخامسة السجادية ، ص ١٣ ـ ١٤.
۳. مجلة البلاغ العدد السادس من السنة الأولى ، ص ٥٦.
مقتبس من كتاب : [ الإمام السجّاد جهاد وأمجاد ] / الصفحة : ۱۹۸ ـ ۲۰۲