نص الشبهة:
لقد قام الحسن « رضي الله عنه » ـ رغم كثرة أنصاره ـ بالتنازل عن الخلافة لمعاوية « رضي الله عنه » ، بينما قام أخوه الحسين « رضي الله عنه » ـ مع قلة أنصاره ـ بمنازعة يزيد بن معاوية والخروج عليه . وكلاهما ـ أي الحسن والحسين ـ إمام معصوم عند الشيعة ! ، فإن كان فعل الحسن حقاً وصواباً بالتنازل مع وجود الأنصار ، ففعل الحسين باطل بالخروج دون أنصار . والعكس صحيح ! بل إنهم صرّحوا بتكفير بعض أعيان أهل البيت ! كالعباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم الذي ادعوا أنه نزل فيه قوله تعالى { وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً } ! (« رجال الكشي » ، (ص 53) .) ، وكابنه ابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن ، فقد جاء في الكافي ما يتضمن تكفيره وأنه جاهل سخيف العقل ! (أصول الكافي 1 / 247 .) . وفي رجال الكشي : « اللهم العن ابني فلان وأعم أبصارهما ، كما عميت قلوبهما . . » ! (رجال الكشي : ص 53 ، « معجم رجال الحديث » للخوئي : 12 / 81 .) . وعلق على هذا شيخهم حسن المصطفوي فقال : « هما عبد الله بن عباس وعبيد الله بن عباس » (المرجع السابق ، للكشي .) . بل بنات النبي صلى الله عليه وسلم ـ غير فاطمة ـ شملهن حقد الشيعة ، بل نفى بعضهم أن يكن بنات للنبي صلى الله عليه وسلم ! (كشف الغطاء ، لجعفر النجفي : ص 5 ، ودائرة المعارف الشيعية لمحسن الأمين : 1 / 27 .) فأين محبة أهل البيت المزعومة ؟! وفي صياغة أخرى : أليس في خلاف الحسن « رضي الله عنه » مع أخيه الحسين « رضي الله عنه » في قضية صلح معاوية « رضي الله عنه » إبطالاً لمعتقد العصمة التي تنادون بها ! ! حيث إن الحسن والحسين « رضي الله عنهما إمامان معصومان عندهم ، فمن كان المخطىء ، ومن كان على صواب ؟! وكذا ألم يخالف الحسن أباه في خروجه لمحاربة المطالبين بدم عثمان « رضي الله عنه » ، فلا شك في أن أحدهما مصيب ، والآخر مخطئ . . وكلاهما معصومان عند الشيعة . . أليس ذلك أمراً غريباً يهدم معتقد العصمة من أساسه ؟!
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى محمد وآله الطيبين الطاهرين . . وبعد . .
أولاً : لم يختلف موقف الإمام الحسين « عليه السلام » من الصلح مع معاوية مع موقف أخيه الإمام الحسن « عليه السلام » ، بل كان الإمام الحسين مؤيداً لأخيه ، حتى إنه بعد استشهاد الإمام الحسن بسمِّ زوجته جعدة بنت الأشعث له ، بطلب من معاوية دعا البعض الإمام الحسين « عليه السلام » للقيام ضد معاوية ، فلم يستجب لهم ، وأكد على صحة موقف أخيه « عليه السلام » وقال : صدق أبو محمد ، فليكن كل رجل منكم من أحلاس بيته ما دام هذا الإنسان حياً » 1 .
وقد دافع عن موقف أخيه في موضوع الصلح أيضاً ، في رسالة منه « عليه السلام » لأهل الكوفة ، وقد أمرهم فيها بالسكون إلى أن يموت معاوية 2 .
ثانياً : إن الاختلاف بين أهل العصمة قد يكون في محله ، ولا يوجب اختلالاً في العصمة لدى أي منهما ، وذلك إذا كان قد فصل بين موقفيهما المختلفين زمان ، واستجدت ظروف ، وحدثت أمور توجب هذا الاختلاف ، فإن هذا الاختلاف لا يأبى أن يكون كلاهما مصيب في موقفه . . بل إن المعصوم نفسه كالنبي « صلى الله عليه وآله » ربما تتبدل مواقفه بحسب تبدل الأحوال التي يواجهها ، فقد يحارب قريشاً في بدر ، وأحد . . ثم يصالحها في الحديبية . .
وكلا الموقفين يكون صواباً . . ولا يخل ذلك بعصمة النبي « صلى الله عليه وآله » ، ولا بعصمة الحسن والحسين « عليهما السلام » . .
ثالثاً : بالنسبة لمخالفة الإمام الحسن « عليه السلام » لأبيه في حرب الناكثين ، نقول :
إنه لم يخالفه في ذلك ، بل كان طليعة المحاربين للناكثين في حرب الجمل ، وهو الذي أرسله أبوه « عليه السلام » لعزل أبي موسى عن الكوفة واستحضر اثني عشر ألف رجل من أهل الكوفة ، بمساعدة مالك الأشتر ، وعمار بن ياسر إلى أبيه ، ليحارب الناكثين بهم ؟!
رابعاً : إن من مبررات معاوية في حربه لعلي « عليه السلام » ، أنه يطالب بدم عثمان . . وقد بلغ من تفاني الإمام الحسن « عليه السلام » في حرب معاوية أن قال علي « عليه السلام » : « املكوا عني هذا الغلام لا يهدني ، فإنني أنفس بهذين (يعني الحسن والحسين « عليهما السلام ») على الموت ، لئلا ينقطع بهما نسل رسول الله « صلى الله عليه وآله » . . » 3 .
4 ـ كفى بالأجل حارساً :
فإن قال قائل :
أليست الآجال بيد الله ؟!
ألم يقل الإمام علي « عليه السلام » : « كفى بالأجل حارساً » ؟!
وإذا كانا إمامين قاما أوقعدا هل سيقصر الله في حفظهما ليخلفا أباهما في الإمامة ؟!
ألم تقولوا : إن الرسول « صلى الله عليه وآله » قد عهد إلى كل إمام بما يفعله في زمانه ، وإن الحسن « عليه السلام » سيقتل مسموماً ؟! . . وإن الحسين « عليه السلام » سيقتل بالسيف ؟!
فإننا نجيب بما يلي :
ألف : إنه « عليه السلام » إنما يتعامل مع الأمور بحسب ظواهرها ، وبحسب ما يراه الناس ويتوقعونه . . بالاستناد إلى الغيب الإلهي .
ب : إن حديث الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا ، لم يعين فيه مقدار حياتهما ، وزمان موتهما . . فلعل إمامتهما وخلافتهما على حد وزارة وخلافة هارون لأخيه نبي الله موسى « على نبينا وآله عليهما الصلاة والسلام » .
5 ـ الحسن عثماني الهوى :
بالنسبة لما زعموه من اعتراضه على أبيه علي « عليه السلام » في أمر الناكثين نقول :
إن ذلك من المكذوب عليه ، وإليك بعض الكلام في ذلك :
نقل المفيد ، عن الكاتب ، عن الزعفراني ، عن الثقفي ، عن الفضل بن دكين ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب قال :
لما نزل علي بالربذة [وقيل : في ذي قار] سألت عن قدومه إلينا ؟!
فقيل : خالف عليه طلحة والزبير وعائشة ، وصاروا إلى البصرة ، فخرج يريدهم .
فصرت إليه ، فجلست حتى صلى الظهر والعصر ، فلما فرغ من صلاته قام إليه ابنه الحسن بن علي « عليهما السلام » ، فجلس بين يديه ثم بكى وقال :
يا أمير المؤمنين ، إني لا أستطيع أن أكلمك . وبكى .
فقال له أمير المؤمنين : لا تبك يا بني ، وتكلم ، ولا تحن حنين الجارية .
فقال : يا أمير المؤمنين ، إن القوم حصروا عثمان بما يطلبونه ، إما ظالمون أو مظلومون ، فسألتك [فأمرتك] أن تعتزل الناس ، وتلحق بمكة حتى تؤوب العرب ، وتعود إليها أحلامها ، وتأتيك وفودها ، فوالله لو كنت في جحر ضب لضربت إليك العرب آباط الإبل ، حتى تستخرجك منه .
ثم خالفك طلحة والزبير ، فسألتك [فأمرتك] أن لا تتبعهما وتدعهما ، فإن اجتمعت الأمة فذاك ، وإن اختلفت الأمة رضيت بما قسم الله .
وأنا اليوم أسألك أن لا تقدم العراق ، وأذكرك بالله أن لا تقتل بمضيعة ! !
فقال أمير المؤمنين « عليه السلام » : أما قولك : إن عثمان حصر . فما ذاك وما علي منه ، وقد كنت بمعزل عن حصره .
وأما قولك : ائت مكة ، فوالله ما كنت لأكون الرجل الذي يستحل به مكة .
وأما قولك : اعتزل العراق ودع طلحة والزبير ، فوالله ما كنت لأكون كالضبع تنتظر حتى يدخل عليها طالبها ، فيضع الحبل في رجلها حتى يقطع عرقوبها ، ثم يخرجها فيمزقها إرباً إرباً .
ولكن أباك يا بني يضرب بالمقبل إلى الحق المدبر عنه ، وبالسامع المطيع العاصي المخالف أبداً حتى يأتي علي يومي .
فوالله ما زال أبوك مدفوعاً عن حقه ، مستأثراً عليه منذ قبض الله نبيه « صلى الله عليه وآله » حتى يوم الناس هذا .
فكان طارق بن شهاب أي وقت حدث بهذا الحديث بكى . . 4 .
ونقول :
نحتاج إلى أن نشير هنا إلى بعض الأمور ، وهي التالية :
6 ـ هذه القصة مفتعلة :
إن هذه القصة مفتعلة بلا ريب ، إلا أن يكون الإمام الحسن « عليه السلام » قد أراد أن يخبر أباه أمام الناس بما يقوله بعض الناس في ذلك ، وبما يقترحونه من آراء ، ليسمعهم تفنيد تلك الآراء ، ويعرفهم خطلها وفسادها . .
وربما يكون المخبر شخص آخر غير الإمام الحسن « عليه السلام » ، ثم نسب ذلك إليه زوراً ، أو خطأً .
وربما تكون هذه الآراء من الشائعات التي كان أعداؤه يطلقونها ، فتؤثر على ضعاف النفوس ، فأراد « عليه السلام » تخليص الناس منها بهذه الطريقة . .
ونستطيع أن نحشد عشرات الشواهد الدالة على عدم صحة نسبتها إلى الإمام الحسن « عليه السلام » كآراء له يتبناها ، ويرتضيها لنفسه . .
غير أننا نكتفي هنا بالأمور التالية :
أولاً : لماذا صبر الإمام الحسن « عليه السلام » إلى ما بعد مسير الإمام « عليه السلام » إلى الربذة في طلب طلحة والزبير ، ألم يكن الأولى والأصوب : أن يسدي لأبيه هذه النصيحة قبل أن يخرج من المدينة ؟!
وإن كان قد نصحه آنئذٍ ورفض « عليه السلام » نصيحته ، فما معنى عودته إلى ذلك من جديد ؟!
ثانياً : لماذا اختار الإمام الحسن « عليه السلام » هذه الساعة لإسداء نصيحته ، وهو ما بعد الفراغ من صلاة الظهر ، وحيث الناس مجتمعون حوله ؟! ألم يكن بإمكانه ـ بل هو الأنسب ـ أن ينصح أباه فيما بينه وبينه ؟! أو بحضور بعض الخواص ؟!
ثالثاً : لماذا لا يستطيع الإمام الحسن « عليه السلام » أن يكلم أباه . . فإن كان ذلك خوفاً ، فإننا لم نعهد من علي « عليه السلام » أنه يعاقب من يكلمه . وإن كان احتراماً ، فإن كلامه معه لا ينافي احترامه له . ولو كان ينافيه لم يكلمه الإمام الحسن « عليه السلام » في هذا المورد أيضاً . .
إلا إن كان يرى أن حرمة أبيه « عليه السلام » قد سقطت ، وأن كرامته زالت ؟!
ثم ألم يكن الإمام الحسن « عليه السلام » وغيره يكلمون علياً في مختلف الشؤون ؟!
وألم يطلب أمير المؤمنين « عليه السلام » من أصحابه ، وعامة من معه أن لا يكفوا عن مقالة بحق ، أو مشورة بعدل ؟!
رابعاً : لماذا يبكي الإمام الحسن « عليه السلام » بين يدي أبيه ، فإن ما أشار به عليه لا يستدعي البكاء والحنين ، كحنين الجارية . .
خامساً : كيف ظهر للإمام الحسن « عليه السلام » : أن مسير أبيه إلى العراق سينتج عنه أن يقتل بمضيعة ؟! وهل سيكون مقامه في المدينة أضمن لحياته ، من العراق ؟!
وألم يتعرض للتهديد بالقتل من قبل ابن عوف ومن وراءه ، تنفيذاً لوصية عمر للشورى التي دبرها لتأتي بعثمان دون سواه ؟!
سادساً : ألم يكن الإمام الحسن « عليه السلام » يعلم بما أخبر به رسول الله « صلى الله عليه وآله » عن أن علياً « عليه السلام » سيموت شهيداً على يد أشقى الأولين والآخرين .
سابعاً : لماذا يوجه الإمام علي « عليه السلام » هذه الكلمة اللاذعة لابنه : « لا تحن حنين الجارية » ألم يحتمل أن يكون لديه أمر عظيم يقتضي بكاءه وحنينه هذا ؟!
ثامناً : لم نفهم المصلحة في لحوق علي « عليه السلام » بمكة حين كان عثمان محصوراً ! ألا يحمل هذا التصرف أخطار انفلات الأمور ، وحدوث فتنة تسقط فيها عشرات القتلى بين بني أمية وسائر الناس ؟!
ألم يكن احتمال أن يكون وجود أمير المؤمنين « عليه السلام » في المدينة مفيداً في تخفيف المصائب والآلام ، ودفع الرزايا ؟!
تاسعاً : لم نلاحظ : أن بقاء علي « عليه السلام » في المدينة قد أوجب أي خلل ، أو عرَّضه لأية مشكلة . وقد تحقق إجماع الأمة عليه ، ورجع الناس كلهم إليه ، وأتته وفودهم ، إلا الذين كانوا يخشون من العقوبة على ما ارتكبوه ، ومن استرداد ما أخذوه من بيت المال ، أو بعض الذين لا يحبونه ، أو كانوا يحسدونه ، كابن عمر ، وسعد بن أبي وقاص ، وأبي موسى الأشعري وأمثالهم . . فإن هؤلاء لن يكون لهم موقف غير موقف العداء له « عليه السلام » ، سواء أكان علي « عليه السلام » في المدينة أو في مكة .
ولو أنه « عليه السلام » ابتعد عنهم ، لكان طلحة استغلها ، واغتنمها فرصة ثمينة لفرض نفسه على الناس ، فأمسك الأمور ، وربما نشأت فتن كبيرة وخطيرة نتيجة لذلك . ولكان البلاء به أعظم ، والمصيبة أكبر .
عاشراً : إذا كان الإمام الحسن « عليه السلام » قد نصح أباه بعدم اللحاق بطلحة والزبير ، فلم يقبل منه ، فما معنى أن يقوم هذا المقام في الربذة ، خصوصاً بعد أن باشر علي « عليه السلام » حركته ولحقهما إلى هذا الوضع ، فهل كان قد تجدد له أمل بتراجع علي « عليه السلام » ؟!
ولو أنه « عليه السلام » قد تراجع ورجع . فكيف ، وما هو الحل لمعضلة طلحة والزبير بعد استيلائهما على بيت المال وقتل حراسه ؟! وقتل طائفة كبيرة من شيعة علي « عليه السلام » في البصرة ؟!
حادي عشر : لقد كان أمر الأمة مجتمعاً ، وقد فرق أمرها طلحة والزبير وعائشة . . فهل سيؤثر تركه « عليه السلام » لهما ، وإهمال أمرهما في جمع الأمة ، أم سيزيدها فرقة ، وتمزيقاً ؟! وكيف يكون التراجع وترك الباغي والناكث لبيعته والخارج على إمامه وقاتل النفوس المحترمة ، وناهب بيوت الأموال ، من موجبات إنهاء بغيه ، وعودته إلى الطاعة ، وإصلاح ما فسد ؟! أم أن هذا الذي فعله من موبقات سيزيده إصراراً على متابعة مسيرته ، لأنه يعلم أن تراجعه سيضعه أمام المساءلة والحساب ، والعقاب ؟!
ثاني عشر : لو أن علياً « عليه السلام » ترك طلحة والزبير ، ورضي بما قسم الله ، هل كانا سيتركانه ، ولا يهاجمانه ، ولا يسعيان في قتله وقتل خيرة أصحابه ، بحجة الطلب بدم عثمان ؟!
وهل سوف يستطيع الصمود والمقاومة إذا كان في مكة ، وفي المدينة ؟! أم أنه سيقهر ويغلب على أمره . وتكون النتيجة الكارثة المحققة التي لا دواء لها . ولا مهرب منها ؟!
ثالث عشر : تضمن بعض نصوص هذه الرواية : أنه « عليه السلام » قال لأبيه : « فأمرتك أن تعتزلهم » و « فأمرتك أن تعتزل الناس » وهي تعابير لا تناسب أدب الإمام الحسن تجاه أبيه « عليهما السلام » ، وهو المطهر المعصوم ، ربيب بيت النبوة ، ونشأة غرس الإمامة .
رابع عشر : إنه « عليه السلام » كان يعلم أن أباه مع الحق ، ومع القرآن ، وأن الحق والقرآن معه ، كما نص عليه رسول الله « صلى الله عليه وآله » 5 ، وأنه معصوم عن الخطأ ، مبرأ من الزلل ، مطهر من أي نقص ورجس ، فكيف يعلن هنا أنه يخطئ ، ويصر على خطئه ، ولا يتراجع عنه ، رغم بيانه له . .
خامس عشر : بالنسبة لاعتزال علي « عليه السلام » الناس ، وخروجه من المدينة ، فإن الناس سيطلبونه ويضربون إليه آباط الإبل يقول المعتزلي : « ليس هذا الرأي عندي بمستحسن » .
ثم ذكر : أنه لو فعل ذلك لولّوا غيره ، بل كان ذلك قرة أعينهم ، فإن قريشاً كانت تبغضه أشد البغض 6 .
سادس عشر : إن الإمام الحسن « عليه السلام » نفسه لم ينتظر بعد استشهاد أبيه « عليه السلام » حتى تضرب إليه العرب آباط الإبل ، بل بادر إلى أخذ البيعة من الناس ، والإمساك بالأمر ، حتى يفوِّت الفرصة على أعدائه ، وعلى معاوية ، ويمنعهم من الفساد ، والعبث والإفساد .
سابع عشر : إن علياً « عليه السلام » قد جلس في بيته حين غصب حقه يوم السقيفة ، ولم تأته العرب ، ولم تضرب إليه آباط الإبل .
ثامن عشر : إن الكلام المنسوب إلى الإمام الحسن « عليه السلام » قد جاء ظاهر التناقض ، فبينما هو يأمر أباه بالإعتزال في بادئ الأمر ، فإن الناس سوف يختلفون . ثم تضرب إليه العرب آباط الإبل ، ويعود الناس إليه ، يعود فيقول : إنه بعد خروج طلحة والزبير إن اجتمعت الأمة فذاك ، وإن اختلفت رضيت بما قسم الله . . فإن المفروض ـ قياساً مع ما سبق ـ هو أن يؤكد له حتمية رجوع الناس إليه ، كما أكد له ذلك حين قتل عثمان مع أن طلحة كان يتهيأ لتقبل بيعة الناس له ، وقد فوجئ بميلهم إلى علي « عليه السلام » ، وقد تقدمت الإشارة لنا إلى ذلك .
7 ـ هذا هو الهدف :
ولعل المطلوب لهؤلاء الذين يتعاملون مع هذا الموضوع بهذه الطريقة هو الإيحاء للناس : بأن لعلي « عليه السلام » يداً في قتل عثمان ولو بالتحريض . . ولو أنه اعتزل حين حصار الناس لعثمان وخرج من المدينة ، لكان أولى وأسلم له من التورط في هذا الأمر .
كما أن المطلوب هو التشكيك بحصول الإجماع على خلافته . . والمطلوب ثالثاً تبرير موقف الخارجين عليه . . وتعذير المتخاذلين عن نصرته . .
8 ـ جواب علي عليه السلام :
وقد تضمنت الإجابات التي نسبتها نفس الرواية إلى علي « عليه السلام » أموراً مهمة أيضاً ، وهي :
1 ـ أن حصار وقتل عثمان لا يعنيه ، ما دام أنه لم يشارك لا في حصره ، ولا في قتله . . فضلاً عن أنه قد بذل محاولات قوية للإصلاح ، ولكن عثمان قد أفشلها . وكذلك مروان .
2 ـ إنه « عليه السلام » : كان يعلم : أن الذين يريدون العدوان عليه لن تمنعهم مكة من ذلك ، بل سوف ينتهكون حرمة مكة ، ولا يريد « عليه السلام » لذلك أن يحصل مهما كلف الأمر . . فكيف إذا كان الناس قد سمعوا عن النبي « صلى الله عليه وآله » : أن رجلاً سيكون سبباً في انتهاك حرمة الحرم ، وقد حذَّر الناس منه ؟! فقد يتوهم الناس : أن المقصود به علي « عليه السلام » ، وسيشيِّع أعداؤه ذلك في الناس بهدف تنفيرهم فيه ، وتفريقهم ، وشكيكهم بقضيته . .
3 ـ إن ترك طلحة والزبير في العراق سوف يجرئهما على طلبه ، للتخلص منه أينما كان ، لأن نفس وجوده يخيفهما ، ولن يشعرا بالأمان ما دام حياً ، بل هم سيستخرجونه وسيمزقونه إرباً إرباً إن قدروا عليه .
9 ـ قد تكون هذه القضية قد حرفت :
وبعد . . فإننا لا نستبعد : أن يكون لهذه القضية أصل ، ويكون المعترض على أمير المؤمنين « عليه السلام » شخص آخر ، كابن عباس ، أو أسامة بن زيد 7 ، الذي أظهر : أن له رأياً يشبه هذا الرأي ، وقد ذكرنا كلامه فيما سبق . . أو الحسن البصري .
ويكون أصحاب الأهواء قد بدلوا اسماً باسم ، لأنهم رأوا أن اسم الإمام الحسن « عليه السلام » أكثر تأثيراً ، وأكبر نفعاً لهم فيما يرمون إليه من أضعاف أمر علي « عليه السلام » ، وتقوية منطق وموقع مناوئيه ، والتخفيف من حدة الإنتقادات التي توجه إليهم .
ويشبه هذا ما حصل من تغيير في الأسماء في قصة اعتراض الإمام علي « عليه السلام » على الحسن البصري في وضوئه ، فأمره « عليه السلام » بأن يحسن الوضوء . فذكَّره الحسن البصري بمن قتل في حرب الجمل .
فبدلوا اسم الحسن البصري باسم الإمام الحسن « عليه السلام » ، وزعموا : أنه « عليه السلام » كان مخالفاً لأبيه في أمر عثمان . . بل قالوا عنه : إنه كان عثمانياً أيضاً .
10 ـ تكفير العباس وأولاده :
أما بالنسبة لتكفير العباس ، فنقول فيه :
أولاً : لم يعتمد السائل في تهمته هذه على تصريح علماء الشيعة في كتبهم الرئيسية ، وإنما على رواية أوردها ، وهي غير معتبرة . . مع أن سيرة علماء الشيعة في تعاملهم مع العباس على خلافها ، بل إن المحقق التسترى قد حكم على هذه الرواية بأنها موضوعة 8 ، كما أن في سند الكشي إليها جعفر بن معروف ، وهو لم يوثق 9 .
أما رواية تفسير القمي 10 ، فلا مجال للأخذ بها ، لأكثر من سبب :
أولها : أن تفسير القمي نفسه قد تعرض للإختلال ، الذي يدعو إلى التوقف في الأخذ برواياته ، فقد اختلط فيه الحابل بالنابل ، حيث يبدو أنه اختلط بغيره من كتب التفسير ، كتفسير أبي الجارود الذي لا يوثق به .
ثانيها : أن في سند روايته إبراهيم بن عمر اليماني الذي ضعفه ابن الغضائري 11 .
أما توثيق النجاشي له ، فالظاهر أنه نقله عن ابن عقدة ، ولا يعتمد على توثيقه ، أو عن ابن نوح ، ومع الإشتباه ، فلا يمكن الإعتماد . . وهناك كلام طويل فراجع 12 .
ثالثها : أنه رواها عن أبي الطفيل . . وفيه كلام أيضاً من حيث إنه كيساني ، أو ليس بكيساني ، ومن جهة عدم التصريح بوثاقته أيضاً .
واما رواية الإختصاص 13 ، فهي أيضاً موضع ريب ، لأن في سندها إبراهيم بن عمر اليماني أيضاً ، ولغير ذلك من أمور .
ثانياً : إذا وردت روايات مادحة وأخرى قادحة ، فلا بد أن يُنظر في الأمر ، وتلاحظ الأسانيد ، ثم تلاحظ القرائن المرجحة لهذه أو لتلك . . وهذا هو دأب الشيعة في التعامل مع الأخبار .
وحيث إن أخبار المدح للعباس ، ولابنه عبد الله هي الأقوى ، والتي تؤيد صحتها قرائن كثيرة ذكرها علماء الرجال ، تجد أن علماء الشيعة يثنون على العباس وولده عبد الله ، ولا ينتقصون من مقامهما .
فما ورد في السؤال ، من أن الشيعة يكفرون العباس ويذمون ولده عبد الله غير مرضي ، ولا مقبول عندهم ، ويعتبرونه من الاتهام الباطل . .
ومجرد ورود رواية في كتاب لا يصح نسبة مضمونها إلى الطائفة بأسرها . . إلا بعد التأكد من رضا الطائفة به ، وقبولها له . .
ثالثاً : بالنسبة لما ورد في رجال الكشي ، من أن علياً « عليه السلام » قال : « اللهم العن ابني فلان ، واعم أبصارهما كما أعميت قلوبهما » . . نقول :
قال السيد الخوئي « رحمه الله » : « هي ضعيفة : بالإرسال أولاً ، لجهالة طريق الكشي إلى محمد بن عيسى بن عبيد ، وبمحمد بن سنان وموسى بن بكر الواسطي ثانياً » 14 .
رابعاً : بالنسبة للرواية التي تضمنت الحديث عن سخافة عقل ابن عباس نقول :
هي ضعيفة أيضاً : بالحسن بن العباس بن حريش . . وقد قال السيد الخوئي « رحمه الله » أيضاً : « آثار الوضع عليها ظاهرة . . » . .
ثم ذكر بعض ما يُظْهِر ضعف وسقوط هذه الرواية ، ثم قال « رحمه الله » : « والمتحصل مما ذكرنا : أن عبد الله بن عباس كان جليل القدر ، مدافعاً عن أمير المؤمنين والحسنين « عليهم السلام » ، كما ذكره العلامة وابن داود » 15 .
11 ـ بنات رسول الله صلى الله عليه و آله :
ثم ذكر السائل : أن حقد الشيعة شمل بنات النبي « صلى الله عليه وآله » ـ غير فاطمة« عليها السلام » ـ بل نفى بعضهم أن يكنّ بنات النبي « صلى الله عليه وآله » ، فأين محبة أهل البيت المزعومة ؟!
ونجيب :
أولاً : إن كلمة « أهل البيت » خاصة بعلي وفاطمة والحسنين « عليهم السلام » ، كما دل عليه حديث الكساء ، فلا تشمل الزوجات ، ولا غير فاطمة من البنات . .
ثانياً : لم يذكر لنا السائل ، من أين استنتج : أن الشيعة يحقدون على بنات النبي « صلى الله عليه وآله » ما عدا فاطمة الزهراء « عليها السلام » . فقد أرسل ذلك إرسال المسلمات ، ومن دون دليل .
ثالثاً : إن نفي عالم واحد من الشيعة ، لبنوة غير الزهراء « عليها السلام » للرسول « صلى الله عليه وآله » ليس معناه : أن جميع الشيعة يوافقونه على هذا النفي .
رابعاً : حتى لو فرضنا أن جميع الشيعة ينفون عن البنات صفة البنوة لرسول الله « صلى الله عليه وآله » . . فإن هذا لا يدل على حقد الشيعة عليهن ، لأن هذه قضية تاريخية قد تثبت ، وقد لا تثبت . وكلا الأمرين ـ الثبوت ، وعدمه ـ لا ربط له بالحب والبغض ، فقد يحبهما الباحث معاً ، وقد يبغضهما معاً ، وقد يحب هذه ويبغض تلك ، وقد يكون العكس ، وقد يكون غير محب ولا مبغض ، بل الأمر عنده سيان .
خامساً : ما هو المحذور في نفي كونهما بنات رسول الله « صلى الله عليه وآله » لصلبه إذا دل الدليل على ذلك ؟! هل يتضمن ذلك تكذيباً للقرآن ، أو اختلالاً في الإيمان بالنبوة ، أو بالمعاد ، أو بغير ذلك من حقائق الدين ؟! بل ما ربط ذلك بالأمور الدينية من الأساس ؟!
والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى محمد وآله . . 16 .
- 1. الأخبار الطوال ص221 وراجع ص220 وراجع : الإمامة والسياسة (تحقيق الزيني) ج1 ص142 و (تحقيق الشيري) ج1 ص187 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج26 ص532 عنه .
- 2. الأخبار الطوال ص222 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج27 ص152 عن الوثائق السياسية والإدارية العائدة للعصر الأموي ، للدكتور محمد ماهر حمادة (ط مؤسسة الرسالة ـ بيروت) ص151 .
- 3. نهج البلاغة (بشرح عبده) ج2 ص186 وبحار الأنوار ج32 ص562 وج43 ص234 وموسوعة أحاديث أهل البيت للنجفي ج11 ص337 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج11 ص25 وينابيع المودة ج3 ص443 واللمعة البيضاء ص42 .
- 4. بحار الأنوار ج32 ص103 و 104 عن الأمالي للطوسي الحديث 37 من الجزء الثاني (ط1) ص32 و (ط دار الثقافة ـ قم) ص52 و 53 . وراجع نهج السعادة (ط2) ج1 ص82 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج1 ص252 ـ 254 وأنساب الأشراف (بتحقيق المحمودي) ج2 ص216 و 217 .
وراجع : تاريخ الأمم والملوك (ط الإستقامة) ج3 ص374 وراجع : شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج1 ص226 ـ 227 وج19 ص117 وحلية الأبرار ج2 ص299 و 300 وغاية المرام ج6 ص11 وتاريخ المدينة لابن شبة ج4 ص1256 . - 5. راجع : كشف الغمة ج1 ص143 ـ 148 وتقدمت مصادر الحديث .
- 6. راجع : شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج13 ص299 و 300 وج12 ص85 وكتاب الأربعين للشيرازي ص251 والمراجعات للسيد شرف الدين ص347 و 348 والفصول المهمة للسيد شرف الدين ص96 .
- 7. الفتوح لابن أعثم ج2 ص227 و (ط دار الأضواء) ج2 ص422 وأنساب الأشراف ج5 ص77 .
- 8. إختيار معرفة الرجال (رجال الكشي) ج1 ص273 وقاموس الرجال ج6 ص470 و 471 .
- 9. معجم رجال الحديث و (الطبعة الخامسة سنة 1413 هـ) ج11 ص251 .
- 10. تفسير القمي ج2 ص23 وبحار الأنوار ج22 ص289 و 290 وج24 ص374 و 375 و 378 وتفسير العياشي ج2 ص305 و 306 .
- 11. بهجة الآمال ج1 ص551 .
- 12. المصدر السابق .
- 13. الإختصاص ص71 .
- 14. معجم رجال الحديث ج10 ص238 و (الطبعة الخامسة سنة 1413 هـ) ج11 ص255 .
- 15. معجم رجال الحديث ج10 ص239 و (الطبعة الخامسة سنة 1413 هـ) ج11 ص256 .
- 16. ميزان الحق . . (شبهات . . وردود) ، السيد جعفر مرتضى العاملي ، المركز الإسلامي للدراسات ، الطبعة الأولى ، الجزء الثالث ، 1431 هـ . ـ 2010 م ، السؤال رقم (140) .