الشيخ محمد رضا المظفر
الشيخ الجليل المولى محمد مهدي بن أبي ذر النراقي أحد أعلام المجتهدين في القرنين الثاني عشر والثالث عشر من الهجرة، ومن أصحاب التأليفات القيمة. ويكاد أن يعد في الدرجة الثانية أو الثالثة من مشاهير علماء القرنين.
له ولد نابه الذكر، هو المولى أحمد النراقي المتوفى 1244، صاحب (مستند الشيعة) المشهور في الفقه، وصاحب التأليفات الثمينة، أحد أقطاب العلماء في القرن الثالث عشر. وكفاه فخرا أنه أحد أساتذة الشيخ العظيم المولى مرتضى الأنصاري المتوفى 1281.
ولعل النراقي الصغير هذا هو من أهم أسباب شهرة والده وذيوع صيته، لما وطئ عقبه وناف عليه بدقة النظر وجودة التأليف. كما حذا حذوة في تأليفاته. فإن الأب المكرم ألف في الفقه (معتمد الشيعة)، والابن الجليل ألف مستندها. وذلك ألف في الأخلاق (جامع السعادات) – هذا الكتاب الذي نقدمه – وهذا ألف (معراج السعادة) في الفارسية. وذاك ألف (مشكلات العلوم) وهذا ألف (الخزائن)… وهكذا نسج على منواله وأحكم النسج.
مولده ووفاته
ولد الشيخ مهدي بن أبي ذر النراقي – رحمه الله تعالى – في (نراق) كعراق 1، وهي قرية من قرى كاشان بإيران، تبعد عنها عشرة فراسخ. ولم يذكر التأريخ سنة ولادته، وعلى التقريب يمكن استخراجها من بعض المقارنات التأريخية، فإنه تلمذ – في أول نشأته على ما يظهر – على الشيخ المحقق الحكيم المولى إسماعيل الخاجوئي ثلاثين سنة، مع العلم أن أستاذه هذا توفي عام 1173، فتكون أول تلمذته عليه عام 1143 على أقل تقدير، إذا فرضنا أنه لازمه إلى حين وفاته. ولنفرض على أقرب تقدير أنه قد حضر عليه وهو في سن 15 عاما، وعليه فتكون ولادته عام 1128 أو قبل ذلك.
أما وفاته فقد كانت عام 1209 في النجف الأشرف، ودفن فيها، فيكون قد بقي بعد وفاة أستاذه الوحيد البهبهاني سنة واحدة، ويكون عمره 81 عاما على الأقل.
وفي (رياض الجنة) المخطوط، تأليف السيد حسن الزنوزي المعاصر للمترجم له – حسب نقل الأستاذ حسن النراقي -: إن عمره كان 63 سنة، فتكون ولادته سنة 1146 ه. وهذا لا يتفق أبدا مع ما هو معروف في تأريخه: إنه تلمذ على المولى إسماعيل الخاجوئي ثلاثين سنة، لأنه يكون عمره على حسب هذا التأريخ حين وفاة أستاذه 27 سنة فقط.
نشأته العلمية وأساتذته
عاش شيخنا كما يعيش عشرات الآلاف من أمثاله من طلاب العلم: خامل الذكر، فقير الحال، منزويا في مدرسته، لا يعرف من حاله إلا أنه طالب مهاجر، ولا يتصل به إلا أقرانه في دروسه، الذين لا يهمهم من شأنه إلا أنه طالب كسائر الطلاب، يتردد في حياة رتيبة بين غرفته ومجالس دروسه، ثم بعد ذلك لا ينكشف لهم من حاله إلا بزته الرثة التي ألفوا منظرها في آلاف طلاب العلم، فلا تثير اهتمامهم ولا اهتمام الناس.
وبطبيعة الحال لا يسجل له التأريخ شيئا في هذه النشأة، وكذلك كل طالب علم لا يسجل حتى اسمه ما لم يبلغ درجة يرجع إليه الطلاب في تدريس، أو الناس في تقليد، أو تكون له مؤلفات تشتهر. ومن هنا تبتدئ معرفة حياة الرجل العالم، وتظهر آثاره ويلمع اسمه.
ومع ذلك، فإنا نعرف عن شيخنا: إن أسبق أساتذته وأكثرهم حضورا عنده هو المولى إسماعيل الخاجوئي المتقدم الذكر.
وهذا الأستاذ كان مقره في أصفهان، وفيها توفي ودفن، والظاهر أنه لم ينتقل عنها حتى في الكارثة التأريخية المفجعة التي أصابتها من الأفغانيين الذين انتهكوها بما لم يحدث التأريخ عن مثلها، وذلك سنة 1134. فتكون نشأة شيخنا المترجم له العلمية في مبدأ تحصيله في أصفهان على هذا الشيخ الجليل. والظاهر أنه عليه قرأ الفلسفة، لأن هذا الشيخ من أساتذة الفلسفة المعروفين الذين تنتهي تلمذتهم في ذلك العصر إلى المولى صدر الدين الشيرازي صاحب الأسفار. وكفى أن من تلاميذه المولى محراب، الآلهي المعروف، الذي طورد لقوله بوحدة الوجود، ولما جاء إلى إحدى العتبات المقدسة متخفيا. وجد في الحرم شيخا ناسكا يسبح بلعن ملا صدرا وملا محراب، ولما سأله عن السبب في لعنهما قال: لأنهما يقولان بوحدة واجب الوجود، فقال له ساخرا: إنهما حقا يستحقان منك اللعن!
ودرس أيضا شيخنا المترجم له – والظاهر أن ذلك في أصفهان أيضا – على العالمين الكبيرين: الشيخ محمد بن الحكيم العالم الحاج محمد زمان، والشيخ محمد مهدي الهرندي. وهما من أساتذة الفلسفة على ما يظهر.
ولا شك أنه انتقل إلى كربلا والنجف، فدرس على الأعلام الثلاثة:
الوحيد البهبهاني الآتي ذكره – وهو آخر أساتذته وأعظمهم، وتخريجه كان على يديه.
والفقيه العالم صاحب الحدائق الشيخ يوسف البحراني المتوفى 1186.
والمحقق الجليل الشيخ مهدي الفتوني المتوفى 1183.
فجملة أساتذته سبعة، سماهم ولده في بعض إجازاته على ما نقل عنه ب (الكواكب السبعة). وهم خيرة علماء ذلك العصر، وعلى رأسهم الآقا الوحيد أستاذ الأساتذة.
ولما فرغ هذا الشيخ من التحصيل في كربلا، رجع إلى بلاده واستقام في كاشان. وهناك أسس له مركزا علميا تشد إليه الرحال، بعد أن كانت كاشان مقفرة من العلم والعلماء. واستمرت بعده على ذلك مركزا من مراكز العلم في إيران، وليس لدينا ما يشير إلى تأريخ انتقاله إلى كاشان.
ورجع إلى العراق، وتوفى في النجف الأشرف ودفن فيها. والظاهر أن مجيئه هذا – وكان معه ولده – بعد أستاذه الوحيد، جاء لزيارة المشاهد المقدسة فتوفي. أما ولده فقد بقي بعده ليدرس العلم على أعلامه يومئذ، كبحر العلوم، وكاشف الغطاء.
عصره
يمضي القرن الثاني عشر للهجرة على العتبات المقدسة في العراق، بل على أكثر المدن الشيعية في إيران التي فيها مركز الدراسة الدينية العالية – كأصفهان وشيراز وخراسان – وتطغى فيه ظاهرتان غريبتان على السلوك الديني:
الأولى النزعة الصوفية التي جرت إلى مغالاة فرقة الكشفية. والثانية النزعة الإخبارية.
وهذه الأخيرة خاصة ظهرت في ذلك القرن قوية مسيطرة على التفكير الدراسي، وتدعو إلى نفسها بصراحة لا هوادة فيها، حتى أن الطالب الديني في مدينة كربلا خاصة أصبح يجاهر بتطرفه ويغالي، فلا يحمل مؤلفات العلماء الأصوليين إلا بمنديل، خشية أن تنجس يده من ملامسة حتى جلدها الجاف.
وكربلا يومئذ أكبر مركز علمي للبلاد الشيعية.
وفي الحقيقة أن هذا القرن يمر والروح العلمية فاترة إلى حد بعيد، حتى أنه بعد الشيخ المجلسي صاحب البحار المتوفى في أول هذا القرن عام 1110 لم تجد واحدا من الفقهاء الأصوليين من يلمع اسمه ويستحق أن يجعل في الطبقة الأولى، أو تكون له الرئاسة العامة، إلا من ظهر في أواخر القرن، كالشيخ الفتوني الجليل في النجف المتوفى 1183، ثم الشيخ آقا الوحيد البهبهاني في كربلا المتوفى 1205، الذي تم على يديه تحول العلم إلى ناحية جديدة من التحقيق.
وهذا الفتور العلمي، وطغيان نزعة التصوف من جهة، ونزعة الإخبارية من جهة أخرى في هذا القرن بالخصوص، مما يدعو إلى التفكير والعجب.
وليس بأيدينا من المصادر ما يكفي للجزم بأسباب ذلك. وأغلب الظن أن أهم الأسباب التي نستطيع الوثوق بها هو الوضع السياسي والاجتماعي اللذان آلت إليهما البلاد الإسلامية في ذلك القرن، من نحو التفكك واختلال الأمن في جميع أطراف البلاد، والحروب الطاحنة بين الأمراء والدول، لا سيما بين الحكومتين الإيرانية والعثمانية وبين الإيرانية والأفغانية، تلك الحروب التي اصطبغت على الأكثر بصبغة مذهبية. وهذا كله مما يسبب البلبلة في الأفكار والاتجاهات، وضعف الروح العامة المعنوية.
فأوجب ذلك من جهة ضعف ارتباط رجال الدين بالحياة الواقعية والسلطات الزمنية. ويدعو ذلك عادة إلى الزهد المغالي في جميع شؤون الحياة، واليأس من الإصلاح. فتنشأ هنا نزعة التصوف، وتتخذ يومئذ صرحا علميا على أنقاض الفلسفة الإشراقية الإسلامية المطاردة المكبوتة، التي سبق أن دعا لها أنصار أقوياء، كالمولى صدر الدين الشيرازي المتوفى عام 1050 وأضرابه وأتباعه، مع المغالاة في أفكارها. وساند طريقة التصوف مبدئيا أن السلطة الزمنية في إيران – وهي (سلطة الصفويين) – قامت على أساس الدعوة إلى التصوف، وظلت تؤيدها وتمدها سرا.
ومن جهة أخرى يحدث رد فعل لهذا الغلو، فينكر على الناس أن يركنوا إلى العقل وتفكيره، ويلتجأ إلى تفسير التعبد بما جاء به الشارع المقدس بمعنى الاقتصار على الأخبار الواردة في الكتب الموثوق بها في كل شئ، والجمود على ظواهرها. ثم يدعو الغلو بهؤلاء إلى ادعاء أن كل تلك الأخبار مقطوعة الصدور على ما فيها من اختلاف. ثم يشتد بهم الغلو، فيقولون بعدم الأخذ بظواهر القرآن وحده، من دون الرجوع إلى الأخبار الواردة. ثم ضربوا بعد ذلك علم الأصول عرض الجدار، بادعاء أن مبانيه كلها عقلية لا تستند إلى الأخبار، والعقل أبدا لا يجوز الركون إليه في كل شئ، ثم ينكرون الاجتهاد وجواز التقليد. وهكذا تنشأ فكرة الإخبارية الحديثة إلى أول من دعا إليها أو غالى في الدعوة إليها المولى أمين الدين الاستربادي المتوفى 1033. ثم يظهر آخر شخص لهذه النزعة له مكانته العلمية المحترمة في الفقه هو صاحب الحدائق المتقدم ذكره. وهذا الثاني – وإن كان أكثر اعتدالا من الأول وأضرابه – كاد أن يتم على يديه تحول الاتجاه الفكري بين طلاب العلم في كربلا إلى اعتناق فكرة الإخبارية هذه.
وعندما وصلت هذه الفكرة الإخبارية إلى أوجها، ظهر في كربلاء علم الأعلام الشيخ الوحيد الآقا البهبهاني، الذي قيل عنه بحق: مجدد المذهب على رأس المائة الثالثة عشرة. فإن هذا العالم الجليل كان لبقا مفوها ومجاهدا خبيرا، فقد شن على الأخبارية هجوما عنيفا بمؤلفاته، وبمحاججاته الشفوية الحادة مع علمائها – وقد نقل في بعض فوائده الحائرية ورسائله نماذج منها – وبدروسه القيمة التي كان يلقيها على تلامذته الكثيرين الذين التفوا حوله، وعلى يديه كان ابتداء تطور علم الأصول الحديث، وخروجه عن جموده الذي ألفه عدة قرون، واتجه التفكير العلمي إلى ناحية جديدة غير مألوفة.
فانكمشت في عصره النزعة الإخبارية على نفسها، ولم تستطع أن تثبت أمام قوة حجته. وتخرج على يديه جماعة كبيرة من أعلام الأمة، كبحر العلوم، وكاشف الغطاء، والمحقق القمي، والشيخ النراقي – المترجم له – وأشباههم.
فيبرز شيخنا المترجم له في عنفوان المعركة الإخبارية والأصولية، وساحتها كربلا، وفي عنفوان معركة الدعوة إلى التصوف، وساحتها أصفهان على الأكثر، فيكون أحد أبطال هاتين المعركتين، بل أحد القواد الذين رفعوا راية الجهاد بمؤلفاته وتدريسه، وساعده على ذلك أنه – رحمه الله – كان متفننا في دراسة العلوم، ولم يقتصر على الفقه والأصول ومقدماتهما، فقد شارك العلوم الرياضية كالهندسة والحساب والهيئة، وله مؤلفات فيها سيأتي ذكرها. كما درس الفلسفة، ويظهر أثر تضلعه في الفلسفة في كتابه جامع السعادات، لا سيما في الباب الأول، وفي تقسيمه لأبواب الكتاب وفصوله على أساس علمي متقن برز فيه على كتب الأخلاق السابقة عليه من هذه الناحية. وسيأتي بيان ذلك.
كما أن تأليفه لهذا الكتاب 2 يشعرنا بأمرين:
الامر الأول طغيان التصوف من جهة، وطغيان التفكك الأخلاقي عند العامة من جهة أخرى، وإنهما هما اللذان ألجآه إلى أن يرشد الناس إلى الاعتدال في السلوك الأخلاقي المستقى من منابعه الشرعية، فإنه في الوقت الذي يبني كتابه على مبادئ الفلسفة الإشراقية، حارب فيه من طرف خفي نزعة التصوف، وجعل آراءه ودعوته إلى الأخلاق على أساس الذوق الإسلامي الذي يتمثل في الأحاديث النبوية وما جاء عن آل البيت – عليهم السلام -، فهو في وقت واحد هادم وبان، وبهذا يختلف كتابه عن مثل (إحياء العلوم) الذي يعتمد بالدرجة الأولى على الروح الصوفية، وهي غايته المثلى.
الامر الثاني حسن اختيار صاحب الترجمة، فإنه لم يسبقه أحد من علماء الإمامية – بعد خريت هذه الصناعة ابن مسكويه المتوفى 421، والشيخ المولى محسن الفيض المتوفى 1091 – إلى تأليف كتاب كامل في الأخلاق مبني على أساس علمي فلسفي موجود بين أيدينا.
شخصية المترجم له وأخلاقه
إن أعاظم الناس ونوابغهم لا تأتيهم العظمة والنبوغ عفوا ومصادفة، من دون قوة كامنة في شخصيتهم أو ملكة راسخة في نفوسهم،، هي سر عظمتهم وتفوقهم على سائر الناس. وما كلمة الحظ في الباب إلا تعبير مبهم عن تلك القوة التي أودعها الله تعالى في شخص النابغة. وقد تكون تلك القوة مجهولة حتى لشخص صاحبها الذي يتحلى بها، بل على الأكثر هي كذلك، فيندفع العبقري إلى تلك القمة التي خلقت له أو خلق لها بدافع تلك القوة الكامنة اندفاعا لا شعوريا، وإن كانت أعماله الجزئية التي يقوم بها هي شعورية بمحض اختياره.
وتلاحظ قوة شخصية شيخنا المترجم له في صبره وقوة إرادته وتفانيه في طلب العلم، ثم عزة نفسه، وإن كانت هذه ألفاظا عامة قد يعبر بها عن كثير من الناس، ويصح التعبير بها بلا كذب ولا خداع، إلا أن الدرجة الخاصة من الصبر والإرادة والحب والعزة ونحوها التي بها يمتاز الشخص النابغ تضيق اللغة عن التعبير عنها بخصوصها إلا بهذه الألفاظ العامة الدارجة وتظهر الدرجة الخاصة التي يختص بها صاحبنا من هذه الأمور في ثلاث حوادث منقولة عنه:
الحادثة الأولى – فيما ينقل أنه كان في أيام التحصيل في غاية الفقر والفاقة – والفقر دائما شيعة العلماء، بل هو من أول شروط النبوغ في العلم، وهو الذي يصقل النفس فيظهر جوهرها الحقيقي. فكان صاحبنا قد تشتد به الفاقة فيعجز عن تدبير ثمن السراج الذي لا يتجاوز في عصره عن أن يكون من زيت أو شمع، فيدعوه حرصه على العلم إلى الدخول في بيوت مراحيض المدرسة، ليطالع على سراجها، ولكنه تأبى عزته أن يدع غيره يشعر بما هو فيه، فيوهم الداخلين – بالتنحنح – أنه جالس للحاجة الخاصة. وتتجلى في هذه الحادثة الصغيرة عزة نفسه وقوة إرادته وصبره على طلب العلم بدرجة غير اعتيادية إلا للنوابغ الأفذاذ.
الحادثة الثانية – إن أحد الكسبة الذي كان حانوته في طريق المدرسة بكاشان التي كان يسكنها هذا الطالب النراقي، إن هذا الكاسب المؤمن لاحظ على هذا الطالب أنه رث الثياب، وكان معجبا به، إذ كان يشتري منه بعض الحاجيات كسائر الطلاب، فرأى أن يكسيه تقربا إلى الله، فهيأ له ملبوسا يليق بشأنه، وقدمه له عندما اجتاز عليه، فقبله بإلحاح. ولكن هذا الطالب الأبي في اليوم الثاني رجع إلى رفيقه الكاسب وأرجع له هذا الملبوس قائلا:
إني لما لبسته لاحظت على نفسي ضعة لا أطيقها، لا سيما حينما أجتاز عليك، فلم أجد نفسي تتحمل هذا الشعور المؤلم، وألقاه عليه ومضى معتزا بكرامته.
الحادثة الثالثة – فيما ينقل عنه أيضا – وهي أهم من الأولى والثانية – إنه كان لا يفض الكتب الواردة إليه، بل يطرحها تحت فراشه مختومة، لئلا يقرأ فيها ما يشغل باله عن طلب العلم. والصبر على هذا الأمر يتطلب قوة إرادة عظيمة ليست اعتيادية لسائر البشر. ويتفق أن يقتل والده (أبو ذر) المقيم في نراق وطنه الأصلي، وهو يومئذ في أصفهان، يحضر على أستاذه الجليل المولى إسماعيل الخاجوئي، فكتبوا إليه من هناك بالنبأ ليحضر إلى نراق، لتصفية التركة وقسمة المواريث وشؤون أخرى، ولكنه على عادته لم يفض هذا الكتاب، ولم يعلم بكل ما جرى. ولما طالت المدة على من في نراق، كتبوا له مرة أخرى، ولكن لم يجبهم أيضا. ولما أيئسوا منه كتبوا بالواقعة إلى أستاذه المذكور ليخبره بالنبأ ويحمله على المجيئ. والأستاذ في دوره – على عادة الناس – خشي أن يفاجئه بالنبأ، وعندما حضر مجلس درسه أظهر له – تمهيدا لإخباره – الحزن والكآبة، ثم ذكر له: أن والده مجروح، ورجح له الذهاب إلى بلاده. ولكن هذا الولد الصلب القوي الشكيمة لم تلن قناته، ولم يزد أن دعا لوالده بالعافية، طالبا من أستاذه أن يعفيه من الذهاب.
وعندئذ اضطر الأستاذ إلى أن يصرح له بالواقع، ولكن الولد أيضا لم يعبأ بالأمر، وأصر على البقاء لتحصيل العلم. إلا أن الأستاذ هذه المرة لم يجد بدا من أن يفرض عليه السفر، فسافر امتثالا لأمره المطاع، ولم يمكث في نراق أكثر من ثلاثة أيام، على بعد الشقة وزيادة المشقة، ثم رجع إلى دار هجرته.
وهذه الحادثة لها مغزاها العميق في فهم نفسية هذا العالم الآلهي، وتدل على استهانته بالمال وجميع شؤون الحياة في سبيل طلب العلم.
مؤلفاته لشيخنا المترجم له
له عدة مؤلفات نافعة، تدل على قابلية في التأليف وصبر على البحث والتتبع، وعلى علم غزير. ونحن نعد منها ما وصل بحثنا إليه، وأكثر اعتمادنا في تعدادها وبعض أوصافها على كتاب (رياض الجنة) المذكور في مصادر هذه الطبعة:
في الفقه:
1 – (لوامع الأحكام في فقه شريعة الإسلام): وهو كتاب استدلالي مبسوط، وقد خرج منه كتاب الطهارة في مجلدين يقرب من (30) ألف بيت.
2 – (معتمد الشيعة في أحكام الشريعة): هو أتم استدلالا وأخصر تعبيرا من كتاب اللوامع السالف الذكر، خرج منه كتاب الطهارة ونبذ من الصلاة والحج والتجارة والقضاء. قال في الروضات عن الكتابين: ” ينقل عنهما ولده المحقق في المستند والعوائد كثيرا “.
3 – التحفة الرضوية في المسائل الدينية): في الطهارة والصلاة فارسي، يقرب من (10) آلاف بيت.
4 – (أنيس التجار): في المعاملات، فارسي، يقرب من (8) آلاف بيت.
5 – (أنيس الحجاج): في مسائل الحج والزيارات، فارسي، يقرب من (4) آلاف بيت.
6 – (المناسك المكية): في مسائل الحج أيضا، يقرب من ألف بيت 7 – (رسالة صلاة الجمعة): ذكرها وما قبلها حفيده (الأستاذ حسن النراقي) في رسالته لنا.
في أصول الفقه:
8 – (تجريد الأصول): مشتمل على جميع مسائل الأصول مع اختصاره، يقرب من (3) آلاف بيت. قال عنه في الروضات: ” شرحه ولده في مجلدات غفيرة جمة “.
9 – (أنيس المجتهدين): توجد منه نسخة مخطوطة في مكتبة الإمام أمير المؤمنين (ع) العامة بالنجف الأشرف (برقم 408 – سجل المخطوطات)، تقع في 411 صفحة، بخط محمد حسين بن علي نقي البزاز، فرغ منها بتأريخ 3 صفر من سنة 1181. وفي تقدير رياض الجنة يقرب من (10) آلاف بيت.
10 – (جامعة الأصول): يقرب من (5) آلاف بيت.
11 -) رسالة في الإجماع (: يقرب من 3) آلاف بيت.
في الحكمة والكلام:
12 – (جامع الأفكار): في الإلهيات، يقرب من (30) ألف بيت، قد فرغ من تأليفه سنة 1193، وعليه فليس هو من أوائل مؤلفاته، كما قال عنه صاحب (رياض الجنة)، وستجد راموزا للصفحتين الأولى والأخيرة منه بخط المؤلف، منقولتين عن النسخة التي هي بحوزة أحد أحفاده (الأستاذ حسن النراقي). والذي يجلب الانتباه في الصفحة الأخيرة ما ذكره من الحوادث المروعة في الوباء وغيره التي وقعت في تلك الفترة.
13 – (قرة العيون): في أحكام الوجود والماهية، يقرب من (5) آلاف بيت.
14 – (اللمعات العرشية): في حكمة الاشراق، يقرب من (25) ألف بيت.
15 – (اللمعة): وهو مختصر اللمعات، تقرب من ألفي بيت.
16 – (الكلمات الوجيزة): وهو مختصر اللمعة، يقرب من ثمانمائة بيت.
17 – (أنيس الحكماء): في المعقول، وهو من أواخر تأليفاته، لم يتم.
إحتوى على نبذ من الأمور العامة والطبيعيات، يقرب من (4) آلاف بيت.
18 – (أنيس الموحدين): في أصول الدين، فارسي، يقرب من (4) آلاف بيت.
19 – (شرح الشفا): في الإلهيات، النسخة الأصلية بخط المؤلف موجودة عند أحد أحفاده (الأستاذ حسن النراقي).
20 – (الشهاب الثاقب): في الإمامة، في رد رسالة الفاضل البخاري، يقرب من (5) آلاف بيت.
في الرياضيات:
21 – (المستقصى): في علوم الهيئة، خرج منه مجلدان إلى مبحث أسناد الحركات، يقرب من (40) ألف بيت، قال عنه في رياض الجنة:
” لم يعمل أبسط وأدق منه في علم الهيئة، ولقد طبق فيه أكثر البراهين الهندسية بالدلائل العقلية، لم يتم “.
22 – (المحصل): كتاب مختصر في علم الهيئة، يقرب من (5) آلاف بيت.
23 – (توضيح الأشكال): في شرح تحرير إقليدس الصوري في الهندسة، وقد شرحه إلى المقالة السابعة، فارسي، يقرب من (16) ألف بيت.
24 – (شرح تحرير أكرثا ذو سنيوس) يقرب من (3) آلاف بيت.
25 – (رسالة في علم عقود الأنامل): فارسية، تقرب من ألف بيت.
26 – (رسالة في الحساب): ذكرها في روضات الجنات.
في الأخلاق والمواعظ:
27 – (جامع السعادات): هذا المطبوع بثلاثة أجزاء – حسب تقسيمنا له – قال عنه في رياض الجنة: ” يقرب من (25) ألف بيت “. وقد طبع في إيران على الحجر سنة 1312 بجزءين، وسيأتي وصفه، وقد تقدم شئ من وصفه. وهذه الطبعة الثالثة له على الحروف بالنجف الأشرف.
28 – (جامع المواعظ): في الوعظ، يقرب من (40) ألف بيت، لم يتم في المتفرقات: 29 – (محرق القلوب): في مصائب آل البيت، فارسي، يقرب من (18) ألف بيت، قال عنه في روضات الجنات: ” طريف الأسلوب “.
30 – (مشكلات العلوم): في المسائل المشكلة من علوم شتى، مطبوع على الحجر بإيران، يشبه بعض الشئ كشكول البهائي. وقد نسج على منواله ولده المحقق في كتابه (الخزائن) المطبوع على الحجر بإيران.
31 – (رسالة نخبة البيان): ذكرها حفيده الأستاذ حسن النراقي.
32 – (معراج السماء): ذكره أيضا حفيده المذكور 3.
- 1. وفي أعيان الشيعة – ج 10 ص 250 -: إنها بفتح النون.
- 2. كتاب جامع السعادات.
- 3. المصدر: كتاب جامع السعادات، مقدمة الشيخ محمد رضا المظفر، في ترجمة الشيخ مهدي النراقي، بتصرف يسير.