يتخذ بعضهم بطانةً من أناسٍ هم دونهم في الحقيقة والمنهج، ويجعلوهم موضع الثقة والسر والاستشارة ومرجعاً في كل أمر وشأن, فصرفوهم عن الحق بإثارة الشبهات فكانوا كما قيل: ببغاوات, يقولون ما لا يفهمون، وينطقون بما لا يعلمون, ومن تلك الشُّبَه التي علِقت أدرانها في أذهانهم دعوى التلازم بين تقديم الإمام الحسين عليه السلام سيعد بن العاص للصلاة على جنازة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام وشرعية الاستحواذ الأموي على الخلافة الإسلامية, متذرعين برواية مضطربة سنداً, ومضطربة متناً, وفيها كثيرٌ من التشتت والاختلاف -كما سنبينه فيما يأتي- حيث جاء فيها أن أبا حازم قال: (إني لشاهدٌ يوم مات الحسن بن علي رضي الله عنه فرأيت الحسين بن علي رضي الله عنه يقول لسعيد بن العاص، ويطعن في عنقه ويقول: تقدم فلولا أنها سنة ما قُدِّمت, وكان بينهم شيء, فقال أبو هريرة: أ تنفسون على ابن نبيكم بتربةٍ تدفنونه فيها, وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أحبهما فقد أحبني ومن أبغضهما فقد أبغضني), والاستدلال على ما تقدم ذكره في أعلاه بهذه الرواية مجرد شبهة واهية, حيث إنها ستسقط عند أول وهلة من التعرف على رواتها ودراسة متنها.
رد الشبهة:
وقد قُسِّم الرد على هذه الشبهة على محورين:
المحور الأول: مناقشة سند الرواية.
وقبل الخوض في دراسة سند الرواية المذكورة نشير إلى مصادرها تباعاً:
وهذه الرواية أخرجها البيهقي في سننه من طريقين وكلاهما ضعيف كما سيتبين, الطريق الأول, قال: (… محمد بن أحمد المحبوبي, حدثنا سعيد بن مسعود, قال: حدثنا عبيد الله بن موسى, قال: أخبرنا سفيان, عن سالم بن أبي حفصة, قال: سمعت أبا حازم يقول: أني لشاهدٌ يوم مات الحسن بن عليٍّ رضي الله عنه فرأيت الحسين بن علي رضي الله عنه يقول لسعيد بن العاص ويطعن في عنقه ويقول: تقدمْ فلولا أنها سنة ما قُدمت, وكان بينهم شيء, فقال أبو هريرة: أ تنفسون على ابن نبيكم بتربةٍ تدفنونه فيها, وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أحبهما فقد أحبني ومن أبغضهما فقد أبغضني)(1).
والطريق الثاني, قال: (أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان, أنبأ عبد الله بن جعفر, حدثنا يعقوب بن سفيان, حدثنا قبيصة, حدثنا سفيان, عن أبي الجحاف, عن إسماعيل بن رجاء الزبيدي, قال: أخبرني مَن شهِد الحسين بن علي حين مات الحسن, وهو يقول لسعيد بن العاص: أقدم فلولا أنها سنة ما قُدمت)(2).
وأخرجها الحاكم في مستدركه بسنده, فقال: (أخبرنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي, حدثنا سعيد بن مسعود, حدثنا عبيد الله بن موسى, حدثنا سفيان, عن سالم بن أبي حفصة, قال: سمعت أبا حازم يقول: إني لشاهدٌ يوم مات الحسن بن علي فرأيت الحسين بن علي يقول لسعيد بن العاص ويطعن في عنقه ويقول: تقدم فلولا أنها سنة ما قدمتك، وكان بينهم شيء, فقال أبو هريرة: أ تنفسون على ابن نبيكم صلى الله عليه وسلم بتربةٍ تدفنونه فيها, وقد سمعت رسول الله يقول: من أحبهما فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني), قال الحاكم: هذا حديثٌ صحيح الإسناد ولم يخرجاه, وقال الذهبي: صحيح(3).
وأخرجها الطحاوي في (شرح مشكل الآثار) بسنده, قال: (ووجدنا إبراهيم بن محمد بن يونس البصري قد حدثنا, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا سفيان, عن سالم بن أبي حفصة, عن أبي حازم, قال: إني لشاهدٌ يوم مات الحسن بن علي, فرأيت حسيناً يقول لسعيد بن العاص وهو يطعن في عنقه: تقدمْ لولا أنها سنة ما تقدمتَ, قال: فكان بينهما شيء, فقال أبو هريرة: تنفسون على ابن نبيكم تربة تدفنونه فيها, وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أحبهما فقد أحبني ومن أبغضهما فقد أبغضني)(4).
وأخرجها أحمد بن حنبل في المسند(5) وفي الفضائل(6)، إلا أنه لم يرد فيها ذكر لتقديم الإمام الحسين عليه السلام سعيدَ بن العاص.
مناقشة سنَد الرواية:
مدار الرواية على قبيصة بن عقبة, وأبي حذيفة موسى بن مسعود, وسفيان الثوري, وسالم بن أبي حفص, وداود بن سويد (أبي الجحاف).
رواية قبيصة بن عقبة عن سفيان الثوري:
قال الألباني: (قلت: قبيصة بن عقبة تكلموا في روايته عن سفيان وهو الثوري.
قال حنبل: قال أبو عبد الله: كان يحيى بن آدم عندنا أصغر من سمع من سفيان.
قال: وقال يحيى: قبيصة أصغر مني بسنتين.
قلت: فما قصة قبيصة في سفيان؟ فقال أبو عبد الله: كان كثير الغلط, قلت: فغير هذا؟ قال: كان صغيراً لا يضبط)(7).
وسئل يحيى بن معين عن حديث قبيصة فقال: ثقةٌ، إلا في حديث الثوري، ليس بذلك القوي(8).
وقال صالح بن محمد الْحَافِظ: قبيصة تكلموا في سماعه من سفيان(9).
وأشار ابن قيم الجوزية في كتابه (الفروسية) إلى أن الراوي قد يكون ثقة في نفسه، لكنه يُضَعَّف في روايته عن بعض الشيوخ دون بقية شيوخه, وبيّن أن من الأسباب التي تجعل حديث الرجل ضعيفاً في شيخ بعينه: كونه غير معروف بالرواية عنه، وحفظ حديثه وإتقانه، وملازمته له, وذكر أمثلة لهذه الصورة من ضمنها رواية قبيصة عن سفيان الثوري, فقال: (ومثل هذا تضعيف قبيصة في سفيان الثوري واحتُج به في غيره… وهذه طريقة الحُذّاق من أصحاب الحديث أطباء علله يحتجون بحديث الشخص عمن هو معروف بالرواية عنه وبحفظ حديثه وإتقانه وملازمته له واعتنائه بحديثه ومتابعة غيره له ويتركون حديث نفسه عمن ليس هو معه بهذه المنزلة)(10).
ومن جميع ما تقدم يتضح ضعف ما يرويه قبيصة عن سفيان الثوري.
أبو حذيفة موسى بن مسعود:
قال عبد الرحمن: سئل أبي عن حذيفة, فقال: كان يصحِّف, وروى عن سفيان بضعة عشر ألف حديث في بعضها شيء, وقال: وسئل أبي عن أبي حذيفة ومحمد بن كثير, فقال: ما أقربهما, وسئل عن موسى بن إسماعيل وأبي حذيفة, فقال: في كتبهما خطأ كثير(11).
وقال أبو عبد الله: أبو حذيفة موسى بن مسعود كثير الوهم يسيء الحفظ, غمزه عمرو بن عليّ وغيره(12).
وقال الترمذي: يضعَّف في الحديث(13).
وقال عمرو بن عليّ الفلاس: لا يحدِّث عنه من يبصر الحديث(14).
وقال ابن خزيمة: لا يُحتج به.
وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالقوي.
وقال: ابن قانع: فيه ضعف.
وقال الساجي: كان يصحِّف وهو لين.
وقال الدارقطني: قد أخرج له البخاري وهو كثير الوهم تكلموا فيه(15).
رواية عبيد الله بن موسى عن سفيان الثوري:
أما رواية عبيد الله بن موسى عن سفيان الثوري, قال ابن معين: (وأما عبد الرزاق، والفريابي، وأبو أحمد الزبيري، وعبيد الله بن موسى، وأبو عاصم، وقبيصة وطبقتهم فهم كلُّهم في “سفيان” قريبٌ بعضهم من بعض، وهم دون يحيى بن سعيد، وابن مهدي، ووكيع، وابن المبارك، وأبي نعيم). قال أبو اسحاق الجويني: (وهؤلاء الذين قرنهم ابن معين بـ”عبد الرزاق” تكلم العلماءُ في روايتهم عن الثوري)(16).
وقال أحمد بن حنبل: من عبيد الله بن موسى؟ كل بلية عن عبيد الله بن موسى(17).
وقال ابن شاهين: كان يضطرب في حديث سفيان اضطراباً قبيحاً, قاله عثمان(18).
وقال الذهبي: شيخ البخاري ثقة لكنه شيعي جلْدٌ، كرِه بعضهم الأخذ عنه(19).
ومما تقدم يعلم أن رواية عبيد الله بن موسى عن سفيان الثوري مضطربة اضطراباً قبيحاً, لذلك امتنع بعض المحدثين عن الأخذ بها.
سفيان الثوري:
زيد بن الحباب, قال: سمعت سفيان يقول: إن قلت: إني أحدثكم كما سمعت، فلا تصدقوني(20).
وقال فيه أبو داود: مراسيل الثوري لا شيء ولو كان عنده شيء لصاح به(21).
وقال فيه ابن معين: مرسلاته شبة الريح(22).
وقال ابن المبارك: حدّث سفيان بحديث فجئته وهو يدلسه فلما رآني أستحيى وقال نرويه عنك(23).
وروى مؤمل بن إسماعيل عن سفيان الثوري قوله: تركتني الروافض وأنا أبغض أن أذكر فضائل عليّ(24).
ويقول الذهبي: كان يدلس عن الضعفاء، وقيل في شأنه أنه يدلس ويكتب عن الكذابين(25).
وليت شعري كيف يصح لمحاجج أن تسكن نفسه لمثل رواية سفيان وهو يقر بلسانه على عدم صدقه فيما يرويه ويحدث به.
سالم بن أبي حفص:
ترجمته في كتب رجال السنة:
1- إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني, قال: زائغ(26).
2- أبو أحمد الحاكم, قال: ليس بالقوي عندهم(27).
3- أبو جعفر العقيلي, قال: تُرك لغلوِّه وبحقٍّ تُرك(28).
4- أبو حاتم الرازي, قال: رأيته طويل اللحية وكان أحمق, وهو من عتق الشيعة, يكتب حديثه ولا يحتج به(29).
6- ابن حبان, قال: يقلب الأخبار ويهم في الروايات(30).
7- أحمد بن شعيب النسائي, قال: ليس بثقة(31).
8- الذهبي, قال: لا يحتج بحديثه, شيعي(32).
9- جرير بن عبد الحميد الضبي, قال: (تركته لأنه كان خصماً لتشيعه) وقال: (رأيت سالم بن أبي حفصة وهو يطوف بالبيت ويقول: لبيك مهلك بني أمية)(33).
10- عمر بن علي, قال: ضعيف الحديث(34).
11- الفلاس, قال: ضعيف مفرط في التشيع(35).
12- حسين بن علي الجعفي, قال: رأيت سالم بن أبي حفصة طويل اللحية أحمق, وهو يقول: لبيك قاتل نعثل! لبيك مهلك بني أمية! لبيك!(36).
13- ابن أبي حاتم, قال: حدثنا عبد الرحمن نا محمد بن إبراهيم نا عمرو بن علي الصيرفي قال: كان يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي لا يحدثان عن سالم بن أبي حفصة(37).
14- أبو بشر الدولابي, قال: ليس بثقة(38).
ولما رأينا في أقوال بعض الجارحين من أهل السنة لسالم بن أبي حفصة من أنه شيعي وترك حديثه لتشيعه, كان لزاماً علينا أن نستعرض ترجمته في كتب رجال الشيعة لتتضح حقيقة هذا الرجل بأجلى صورة:
أورد السيد الخوئي قدّس سره عدة روايات في ذمه:
منها: محمد بن مسعود, قال: حدثني علي بن محمد, عن أحمد بن محمد بن عيسى, عن أبي بصير, عن الحسن بن موسى, عن زرارة, قال: لقيت سالم بن أبي حفصة, فقال لي: ويحك يا زرارة إن أبا جعفر, قال لي: أخبرني عن النخل عندكم بالعراق ينبت قائماً أو معترضاً؟ قال: فأخبرته أنه ينبت قائماً. قال: فأخبرني تمركم هو حلو؟ وسألني عن حمل النخل كيف تحمل؟ فأخبرته وسألني عن السفن تسير في الماء أو في البر؟ قال: فوصفت له أنها تسير في البحر ويمدونها الرجال بصدورهم فأتمَّ بإمامٍ لا يعرف هذا؟! قال: فدخلت الطواف وأنا مغتم لما سمعت منه، فلقيت أبا جعفر عليه السلام فأخبرته بما قال لي، فلما جاوزنا الحجر الأسود قال: أُلهُ عن ذكره فإنه والله لا يؤول إلى خير أبداً.
ومنها: عن ابن مسعود, قال: حدثني علي بن الحسن, قال: حدثني العباس بن عامر وجعفر بن محمد بن حكيم, عن أبان بن عثمان عن أبي بصير, قال: قيل لأبي عبد الله عليه السلام وأنا عنده: إن سالم بن أبي حفصة يروي عنك أنك تتكلم على سبعين وجهاً لك من كلها المخرج؟ قال: فقال ما يريد سالمٌ مني؟ أيريد أنْ أجيء بالملائكة؟ فو الله ما جاء بها النبيون، ولقد قال إبراهيم: (إني سقيم) والله ما كان سقيماً وما كذب, ولقد قال إبراهيم: (بل فعله كبيرهم هذا) وما فعله وما كذب, ولقد قال يوسف (إنكم لسارقون) والله ما كانوا سارقين وما كذب.
ومنها: ما عن ابن مسعود أيضاً, قال: حدثني علي بن الحسن, عن جعفر بن محمد بن حكيم وعباس بن عامر, عن أبان بن عثمان, قال: سالم بن أبي حفصة كان مرجئاً.
ومنها:… عن فضيل الأعور, قال: حدثني أبو عبيدة الحذاء, قال: أخبرت أبا جعفر عليه السلام بما قال سالم بن أبي حفصة في الإمام.
فقال: ويلُ سالمٍ ويلُ سالمٍ، ما يدري سالمٌ ما منزلة الإمام؟ إن منزلة الإمام أعظم مما يذهب إليه سالمٌ والناس أجمعون.
ومنها: ما عن حمدويه وإبراهيم, قالا: حدثنا أيوب بن نوح, عن صفوان, قال حدثني فضيل الأعور, عن أبي عبيدة الحذاء, قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: إن سالم بن أبي حفصة يقول لي: ما بلغك أنه من مات وليس له إمام كانت ميتته ميتةً جاهلية؟ فأقول: بلى, فيقول: مَن إمامك؟ فأقول: أئمتي آل محمد عليهم السلام.
فيقول: والله ما أسمعك عرفت إماماً. قال أبو جعفر عليه السلام: ويح سالمٍ, وما يدري سالمٌ ما منزلة الإمام؟ منزلة الإمام أعظم وأفضل مما يذهب إليه سالم والناس أجمعون.
وحُكي عن سالمٍ أنه كان مختفياً من بني أمية بالكوفة, فلما بويع لأبي العباس, خرج من الكوفة محرماً فلم يزل يلبّي (لبيك قاصم بني أمية لبيك) حتى أناخ راحلته بالبيت).
وقال السيد الخوئي قدّس سره بعد إيراده الروايات المذكورة في أعلاه وما تلاها في معجمه, ما نصه: (ثم إن المتحصَّل مما ذكرنا أن الرجل كان منحرفاً وضالاً ومضلاً)(39).
ومن جميع ما تقدم يتبين بوضوح أن سالم بن أبي حفصة ضعيف جداً عند الفريقين ولا يعوّل على شيء من مروياته وأحاديثه.
وهذا كلّه حول سند الرواية وهؤلاء رواتها، ولو ورد فيهم مدح فقد ورد فيهم الذم، وعند التعارض يقدَّم الجارح على المادح فيسقط الخبر عن الاستدلال.
المحور الثاني: مناقشة متن الرواية.
جاء في الرواية أن سالم بن أبي حفصة, قال: (سمعت أبا حازم يقول: إني لشاهدٌ يوم مات الحسن بن علي رضي الله عنه فرأيت الحسين بن علي رضي الله عنه يقول لسعيد بن العاص ويطعن في عنقه ويقول: تقدم فلولا أنها سنة ما قُدمت, وكان بينهم شيء, فقال أبو هريرة: أ تنفسون على ابن نبيكم بتربة تدفنونه فيها, وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أحبهما فقد أحبني ومن أبغضهما فقد أبغضني)(40).
إن المتأمل في هذه الرواية سيجد أن صدرها غير منسجم مع ذيلها من ناحية المعنى أصلاً, حيث جاء في صدر الرواية قول أبي حازم: (إني لشاهدٌ يوم مات الحسن بن علي رضي الله عنه فرأيت الحسين بن علي رضي الله عنه يقول لسعيد بن العاص ويطعن في عنقه ويقول: تقدم فلولا أنها سنة ما قُدمت, وكان بينهم شيء), ثم تلاه قول أبي هريرة: (… أ تنفسون على ابن نبيكم بتربة تدفنونه فيها, وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أحبهما فقد أحبني ومن أبغضهما فقد أبغضني), فالمنصف الذي يعرف الحق من مأتاه ولا يتعتع فيه ولا يميل به الهوى إلى غيره إذا نظر إلى صدر الرواية هذه وما تلاه بعين العقل سيلحظ أن الصدر في وادٍ وما بعده في وادٍ آخر, ويجزم أن للكلام مقدمة غير مسألة تقديم سعيد بن العاص للصلاة على الإمام الحسن عليه السلام, بقرينة اعتراض أبي هريرة المستفاد من قوله: (أ تنفسون على ابن نبيكم بتربة تدفنونه فيها), وأيّ قرينة فوق هذه القرينة؛ إذ لا معنى لذكر تقديم الإمام الحسين عليه السلام سعيداً للصلاة على الإمام الحسن عليه السلام مع قول أبي هريرة الذي تلاه, حيث إن كلامه جاء اعتراضاً – أو ما شئت فسمِّه – على مَن منع دفن الإمام الحسن عليه السلام عند جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم, وقد وردت روايات معتبرة في إماطة اللثام عن من تزعم مانعي دفن الإمام الحسن عليه السلام عند قبر جده صلى الله عليه وآله وسلّم, نقتصر على إيراد بعض منها:
ما رواه ابن عساكر في تاريخه, فقد روى بسند معتبر ينتهي إلى عبّاد بن عبد الله بن الزبير, أنه قال: (سمعت عائشة تقول يومئذ: هذا الأمر لا يكون أبداً! يُدفن ببقيع الغرقد ولا يكون لهم (للنبي وأبي بكر وعمر) رابعاً! والله إنه لبيتي أعطانيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته وما دُفن فيه عمر وهو خليفة إلا بأمري، وما آثر علي عندنا بحسن)(41).
والرواية مسندة عن ابن سعد عن محمد بن عمر عن علي بن محمد العمري عن عيسى بن معمر عن عباد بن عبد الله بن الزبير.
فأما ابن سعد: فهو محمد بن سعد صاحب الطبقات الذي يقول فيه الخطيب في تاريخ بغداد: “محمد بن سعد عندنا من أهل العدالة وحديثه يدل على صدقه فإنه يتحرى في كثير من رواياته”(42).
وأما محمد بن عمر: فهو الواقدي المؤرخ المشهور وهو أشهر من نارٍ على علم. وأما علي بن محمد العمري: فقد ذكره إسماعيل المروزي في الفخري في أنساب الطالبيين وقال فيه: (مجد الشرف الأديب الشاعر النسابة العالم بالبصرة(ت 459 هـ) المعروف بابن الصوفي صاحب كتاب المجدي أبو الحسين علي بن أبي الغنائم محمد المعروف بابن المهلبية النسابة ابن أبي الحسن النسابة علي بن محمد الأعور ابن محمد ملقطة ابن أحمد الضرير ابن أبي القاسم الديّن الورع الضرير بالكوشة علي بن محمد الصوفي ابن يحيى الصوفي)(43).
وأما عيسى بن معمر: فهو حجازي ذكره ابن حبان في الثقات, وقال الذهبي صالح الرواية(44), وهو في هذه الرواية ينقل عن الثقة وهو عباد بن عبد الله بن الزبير الذي قال فيه ابن حجر في تقريب التهذيب أنه: “كان قاضي مكة زمن أبيه وخليفته إذا حج، ثقة”(45).
فالرواية بملاحظة أن راويها ابن سعد “الذي يتحرى في رواياته” وبملاحظة أنها مروية عن الثقة عندهم وهو عبّاد، وبملاحظة عدم وجود قدح في رواتها؛ تكون إذ ذاك معتبرة.
وروى أبو الفداء في المختصر: (وكان الحسن قد أوصى أن يُدفن عند جده رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت عائشة: البيت بيتي ولا آذنُ أن يُدفن فيه)(46).
وروى البلاذري في (أشراف الأنساب): (فلما رأت عائشة السلاح والرجال خافت أن يعظم الشرّ بينهم وتسفك الدماء قالت: البيت بيتي ولا آذن أن يُدفن فيه أحد)(47).
وروى الذهبي في (سير أعلام النبلاء): (قالت عائشة: لا يكون لهم رابع أبداً! وإنه لبيتي أعطانيه رسول الله)(48).
وروى اليعقوبي في تاريخه:(… ثم أُخرج نعشه (نعش الإمام الحسن) يُراد به قبر رسول الله، فركب مروان بن الحكم وسعيد بن العاص فمنعا من ذلك حتى كادت تقع فتنة! وقيل إن عائشة ركبت بغلة شهباء وقالت: بيتي لا آذن فيه لأحد! فأتاها القاسم بن محمد بن أبي بكر فقال لها: يا عمّة! ما غسّلنا رؤوسنا من يوم الجمل الأحمر؛ أ تريدين أن يُقال يوم البغلة الشهباء؟! فرجعت)(49).
فلما كان لهذه الحادثة مساس بعائشة مشين لها ولمن آزرها من رموز بني أمية, انبرى بعضهم للتلاعب الفضيح والدس القبيح في نقل القصة بالحذف والتغيير فاستلزم ذلك تناقضاً قبيحاً في الموقف كما ترى.
وسعيد بن العاص كان في زمرة المعارضين لدفن الإمام الحسن عليه السلام عند جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم, قال ابن أبي الحديد في شرح النهج: (روي عن الحسن عليه السلام أنه لما مات أوصى أن يدفن إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وإن لم يترك ففي البقيع فلما كان من مروان وسعيد بن العاص ما كان دفن بالبقيع)(50).
وأما عن موقف الإمام الحسين عليه السلام من سيعد بن العاص فقد جاء في بعض الأخبار:(أنّ الإمام الحسين عليه السلام لمّا اضطر للصلاة على سعيد بن العاص قال: اللّهمّ العنه لعناً وبيلاً, وعجّل بروحه إلى جهنّم تعجيلاً, فقال له مَن بجنبه: أهكذا صلاتكم على موتاكم؟!, فقال: لا, بل على أعدائنا)(51).
وفي رواية الجامع عن مولىً لبني هاشم عن دعاء الحسين بن علي عليهما السلام على سعيد بن العاص: (اللّهمّ املأ جوفه ناراً، واملأ قبره ناراً، وأعدّ له عندك ناراً، فإنّه كان يوالي عدوّك، ويعادي وليّك, ويبغض أهل بيت نبيّك.
فقلت: هكذا تصلّون على الجنازة؟! قال: هكذا نصلّي على عدوّنا)(52).
وهذا أدل دليل على عدم الأساس لما جاء في صدر الرواية من تقديم الإمام الحسين عليه السلام سعيد بن العاص للصلاة على الإمام الحسن عليه السلام, كيف والحسين عليه السلام يعلم أن ابن العاص كان ممن يوالي عدو الله ويعادي أولياءه, فأي تناقض أقبح من الذي صوّرته الأخبار في موقف سعيد بن العاص, فتارة يعترض ممانعاً لدفن الإمام الحسن عليه السلام عند جده صلى الله عليه وآله وسلّم شاهرا سيف العداء لآل محمد صلوات الله عليهم اجمعين, وأخرى يقف مصلياً عليه بداعي أنها السنة على ما نسب كذباً إلى الإمام الحسين عليه السلام كما في الرواية محل البحث, فمن المستبعد جداً أن يقدّم الإمام الحسين عليه السلام ابن العاص هذا للصلاة على أخيه الإمام الحسن عليه السلام, وهو يعلم عداءه لأهل البيت عليهم السلام.
وعلى فرض صحة الرواية -ولا نسلِّم به- وإغماض الطرف عن قباحة اضطرابها, يمكن القول: بأنّ الإمام الحسين عليه السلام قدّم سعيد بن العاص في الصلاة على أخيه الحسن عليه السلام بوصية من الإمام الحسن عليه السلام واستجابة لقوله: (بأن لا يراق بسببه محجمة دم), وبذلك يكون المراد من قوله: (لولا السُنّة في إمضاء الوصيّة), وبغير هذا -وإن كان فرضاً غير مسلَّم به- لا يمكن تفسيره مع نصب سعيد العداء لأهل البيت عليهم السلام, واحتمل ذلك أبو المحاسن الروياني الشافعي في (بحر المذهب) فقال: (واحتجوا بما روي عن أبي حازم قال: شهدت حسيناً حين مات الحسن رضي الله عنه وهو يدفع في قفا سعيد بن العاص ويقول: تقدم فلولا السنة ما قدمتك، وسعيد كان أمير المدينة. قلنا: يحتمل أنه أراد بذلك إطفاء النايرة وتسكين الفتنة وهو من السنة)(53), والدليل إذا طرقه الاحتمال سقط عن الاستدلال به, فتنبه.
ثم لا يخفى عليك ما جاء بعد ذكر تقديم الإمام الحسين عليه السلام سعيداً ما يزيد في قبح اضطراب الرواية وهو قول الراوي: (وكان بينهم شيء) وهذا الشيء بغير البغض لا يفسر, بقرينة الحديث الذي احتجّ به أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم, قال: (وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أحبهما فقد أحبني ومن أبغضهما فقد أبغضني), ترى من غير عائشة وسعيد بن العاص ومروان كانوا مقصودين بهذا الحديث الذي جاء فيه الترهيب من بغض الحسنين عليهما السلام والترغيب بحبهما؟!.
ودعوى أن السنة تقديم الأمير أو الوالي في الصلاة على الميت مع وجود الولي أو الوصي مردودة بإجماع الصحابة على أن أحق الناس بالصلاة على الميت من أوصى له أن يصلي عليه، فروي أن أبا بكر أوصى أن يصلي عليه عمر، قاله أحمد, قال: وعمر أوصى أن يصلي عليه صهيب، وأم سلمة أوصت أن يصلي عليها سعيد بن زيد، وأبو بكرة أوصى أن يصلي عليه أبو برزة، وقال غيره: عائشة أوصت أن يصلي عليها أبو هريرة، وابن مسعود أوصى أن يصلي عليه الزبير، ويونس بن جبير أوصى أن يصلي عليه أنس بن مالك، وأبو سريحة أوصى أن يصلي عليه زيد بن أرقم، فجاء عمرو بن حريث وهو أمير الكوفة ليتقدم فيصلي عليه فقال ابنه: أيها الأمير إن أبي أوصى أن يصلي عليه زيد بن أرقم، فقدم زيداً، فهذه قضايا انتشرت فلم يظهر مخالف, فكان إجماعاً(54).
ولا يُشك في إيصاء الحسن عليه السلام أخاه الحسين عليه السلام بالصلاة عليه, بل حتى من دون ذلك فالحسين عليه السلام أولى بالصلاة على أخيه الحسن عليه السلام ومن قال بخلاف ذلك نقول له قول الحق تعالى: (هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)(55).
هذا, وروى ابن عساكر بسنده فقال: (ولما توفي تولى أمره أخوه الحسين وأخرجه إلى المسجد وكان سعيد بن العاص أمير المدينة, فقالت بنو هاشم لا يصلي عليه إلا الحسين فقدمه الحسين وقال لولا السنة لما قدمتك)(56).
وهذه الرواية تقرر أن سعيداً صلى بقوم كارهين لإمامته, وفي ذم من كانت هذه حاله ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم حديث مستفيض رواه جمع من الصحابة والتابعين وبأسانيد متضافرة, وصححه جماعة من الحفاظ، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلّم: (ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم: العبد الآبق حتى يرجع, وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط, وإمام قوم وهم له كارهون).
رواه الترمذي وقال: حسن غريب(57), وابن أبي شيبة(58)، والطبراني في المعجم الكبير(59)، والبغوي في شرح السنة(60).
وحسن الحديث الألباني كما في غاية المرام(61)، وصحيح الترغيب والترهيب(62)، والمشكاة(63) وغيره.
وفي رواية أخرى: (… وحضر سعيد بن العاص ليصلي عليه فقالت بنو هاشم لا يصلي عليه أبداً إلا حسين قال: فاعتزل سعيد بن العاص فوالله ما نازعنا في الصلاة وقال: أنتم أحق بميتكم فإن قدمتموني تقدمت، فقال حسين بن علي: تقدم فلولا أن الأئمة تقدم ما قدمناك)(64).
فلو كانت سنة لما قال ابن العاص (أنتم أحق بميتكم) والعاقل يتنبه.
مركز الإمام الحسن عليه السلام للدراسات التخصصية
الوحدة العلمية / السيد مهدي الجابري
الهوامش:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) السنن الكبرى – البيهقي – 4: 45.
(2) المصدر نفسه, 4: 46.
(3) المستدرك على الصحيحين – الحاكم – 3: 187.
(4) شرح مشكل الآثار – الطحاوي – 10: 117.
(5) مسند أحمد, 16: 506.
(6) فضائل الصحابة – أحمد بن حنبل – 2: 778.
(7) إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل – الألباني – 7: 198.
(8) الجرح والتعديل, 7: 126.
(9) تهذيب الكمال, 23: 486.
(10) الفروسية – ابن قيم الجوزية -, ص239.
(11) الجرح والتعديل, 8: 163.
(12) التعديل والتجريح – الباجي – 2: 706.
(13) تهذيب الكمال – المزي – 29: 148.
(14) تهذيب التهذيب, 10: 371.
(15) المصدر نفسه.
(16) نثل النبال بمعجم الرجال – الجويني – 2: 93.
(17) سؤالات أبي عبيد الآجري أبا داود السجستاني في الجرح والتعديل, ص150.
(18) تاريخ أسماء الثقات – ابن شاهين -: ص165.
(19) ذكر أسماء من تكلم فيه وهو موثق – الذهبي -: ص131.
(20) سير أعلام النبلاء – الذهبي – 6: 638. ط الرسالة.
(21) ينظر: إكمال تهذيب الكمال – علاء الدين مغلطاي – 5: 394.
(22) تهذيب التهذيب, 4: 115.
(23) المصدر نفسه.
(24) سير أعلام النبلاء, 6: 636.
(25) ينظر: ميزان الاعتدال – الذهبي – 2: 169.
(26) تهذيب التهذيب – ابن حجر العسقلاني – 3: 434.
(27) المصدر نفسه.
(28) الضعفاء والمتروكين – ابن الجوزي – 1: 307.
(29) تهذيب التهذيب, 3: 433.
(30) كتاب المجروحين من المحدِّثين والضعفاء والمتروكين – ابن حبان – 1: 343.
(31) الضعفاء والمتروكين – ابن الجوزي – 1: 307.
(32) الكاشف – الذهبي -, 422.
(33) ميزان الاعتدال – الذهبي – 2: 110.
(34) الضعفاء والمتروكين – ابن الجوزي – 1: 307.
(35) تاريخ الإسلام – الذهبي – 3: 660.
(36) ميزان الاعتدال, 2: 110.
(37) الجرح والتعديل – ابن أبي حاتم – 4: 180.
(38) تهذيب الكمال في أسماء الرجال – المزي – 10: 135.
(39) معجم رجال الحديث – السيد أبو القاسم الخوئي – 9: 16 – 19.
(40) السنن الكبرى – البيهقي – 4: 45.
(41) تاريخ دمشق ج13 ص293.
(42) سير أعلام النبلاء, 9: 61.
(43) الفخري في أنساب الطالبيين, إسماعيل المروزي, ص174 و175, تحقيق السيد مهدي الرجائي, نشر مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي العامة – قم المقدسة, ط: الأولى, 1409 هـ ق, مطبعة سيد الشهداء.
(44) تهذيب التهذيب, 8: 231.
(45) تقريب التهذيب, ص290.
(46) المختصر في أخبار البشر- لأبي الفداء – 1: 183.
(47) أنساب الأشراف للبلاذري ج3 ص60
(48) سير أعلام النبلاء للذهبي ج3 ص275
(49) تاريخ اليعقوبي ج2 ص225
(50) شرح نهج البلاغة – ابن أبي الحديد المعتزلي – 17: 215.
(51) مسند زيد بن علي, ص172.
(52) شرح الأزهار – أحمد المرتضى – ص431.
(53) بحر المذهب (في فروع المذهب الشافعي), الروياني، أبو المحاسن (ت 502 هـ), ج2,ص574, تحقيق طارق فتحي السيد, نشر: دار الكتب العلمية, ط: الأولى، 2009 م.
(54) ينظر: المغني لابن قدامة, ج2,ص358.
(55) سورة البقرة: آية 111.
(56) تاريخ دمشق, ج13, ص293.
(57) سنن الترمذي, ج2, ص193 /ح360.
(58) مصنف ابن أبي شيبة, ج3, ص558 /ح17138.
(59) المعجم الكبير, ج8, ص284 /ح8090, 8098.
(60) شرح السنة, ج3, ص404.
(61) غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام, ص154 /ح248.
(62) صحيح الترغيب والترهيب, ج1,ص328 /ح484.
(63) مشكاة المصابيح, ج1,ص350/ح1122.
(64) تاريخ دمشق – ابن عساكر – ج13, ص293.