لا شكّ في الاهميّة الكُبرى التي كانت لأقوال النبي صلّى اللّه عليه و آله و أعماله في حياته ، و أكثر منها بعد وفاته .
و من الطبيعي أنْ تورث هذه الاهميّة عناية بتدوين تفاصيل حياته و جمع الاخبار و الاحاديث عنه صلّى اللّه عليه و آله ، و طبيعيٌّ أيضاً أنْ تكون القصص الشعبيّة عن سيرته موجودة في حياته ، معتنىً بها ـ كحال الناس في العناية بقصص الانبياء من قبل ـ و طبيعي أن يكون بعض الصحابة قد تفوَّق على أقرانه في علمه بسيرته و مغازيه .
كتاب السيرة الاوائل
إن أوّل من صنّف فيها هو عُروة بن الزبير بن العوّام ( ت 92 هـ ) و ذكر ابن سعد في كتابه ” الطبقات ” ما يفيد : إنَّ اوّل من تخصّص فيها هو أبان بن عثمان بن عفّان ( ت 105 هـ ) ، روى بعضها عنه المغيرة بن عبدالرحمن . ثم تنبّه إلى جمع أخبارها و التحديث بها وهب بن منبّه اليمني ( ت 110 هـ ) ثمّ عاصم بن عمر بن قتادة ( ت 120 هـ ) الذي يروي عنه ابن اسحاق بعض أخبار سيرته ـ كخبره عن دعاء النبي للاستسقاء في طريق تبوك ، وكثرة النفاق ـ ثمّ شرحبيل بن سعد الشامي ( ت 123 هـ ) ثمّ عبد اللّه بن أبي بكر بن حزم القاضي ( ت 135 هـ ) الذي طلب منه عمر بن عبد العزيز أنْ يكتب إليه ما عنده من الاحاديث فنشرها بين الناس . ثم موسى بن عُقبة ( ت 141 هـ ) ثمّ مَعمر بن راشد ( ت 150 هـ ) ثمّ محمّد بن إسحاق بن يسار المدني ـ و قيلَ بشار ـ بن خيار من سبي عين تَمْر بالعراق ( ت 153 هـ ) ثم راويته زياد بن عبدالملك البَكّائي الكوفي العامري ( ت 183 هـ ) ثمّ محمّد بن عمر بن واقد المعروف بالواقدي صاحب كتاب المغازي ( ت 207 هـ ) ثمّ راوية ابن زياد البكّائي عن ابن إسحاق : عبدالملك بن هِشام الحِمْيَري اليمني البصري ( ت 218 هـ ) .
ولم يصلنا من كُتب هؤلاء شيء سوى سيرة ابن إسحاق برواية ابن هشام عن البكّائي عن ابن إسحاق ، و مغازي الواقدي ، اللهُمَّ إلاّ روايات في طَيّات اُمّهات المصادر التأريخية فيما بعد .
المؤرخون الاوائل
و إلى جانب هؤلاء ظهر مَنْ لم يقتصر على أخبار سيرة الرسول صلّى اللّه عليه و آله ، بل جمع إليها أخبار الجاهليّة قبل الاسلام ، ثمّ أخبار الخُلفاء بعده ، أو جمع أخبار بعض الخُلفاء ، أو الائمّة من أهل البيت عليهم السلام فقط ، فكانوا مؤرّخين بالمعنى العامّ . منهم : مُحمَّد بن السائب الكلبي الكوفي النسّابة ( ت 146 هـ ) و أبو مخنف لوط بن يحيى الازدي الكوفي ( ت 157 هـ ) و هشام بن محمّد الكلبي الكوفي ( ت 206 هـ ) و نصر بن مزاحم المنقري الكوفي ( ت 212 هـ ) وعبداللّه بن مسلم بن قتيبة الدينوري ( ت 274 هـ ) و أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري ( ت 279 هـ ) و إبراهيم بن محمّد الثقفي الكوفي الاصبهاني ( ت 283 هـ ) و أبو الفرج علي بن الحسين الاُموي الاصبهاني ( ت 284 هـ ) و أحمد بن واضح بن يعقوب البغدادي ( ت 292 هـ ) و محمّد بن جرير الطبري ( ت 310 هـ ) و علي بن الحسين المسعودي البغدادي ( ت 346 هـ ) و محمّد بن محمّد بن النُعمان التَّلعكبري المفيد ( ت 413 هـ ) .
الاثر الباقي في السيرة
عرفنا أنّ الكتابة في سيرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كانت قد حصلت في التابعين و تابعي التابعين ، كما رأينا قائمة أسمائهم و تواريخ وَفَياتهم ، و لكنّها لم تكن كثيرة ، بل هي مهما أطلنا الحديث عنها كانت قليلةً جدّاً ، لا تعدو أن تكون صُحفاً فيها بعض الاخبار عن سيرة المختار صلّى اللّه عليه و آله .
أمّا الكتاب الذي كُتبت له الموفّقيّة و النجاح و شهرة الاعتماد و الوثوق فهو سيرة محمّد بن إسحاق ، التي ألـّفها في أوائل أيـّام العبّاسيّين .
يَروون أنـّه دخل يوماً على المنصور و بين يديه ابنه المهدي ، فقال له المنصور : أتَعرِف هذا يا ابن إسحاق ؟
قال : نعم ، هذا ابن أمير المؤمنين .
فقال : اذهب فصنّف له كتاباً منذ خلق اللّه آدم عليه السلام إلى يومنا هذا .
فذهب ابن إسحاق فصنّف له الكتاب و أتاه به ، فلمّا رآه قال : لقد طوّلته يا ابن إسحاق فاذهب فاختصِره . فاختصَرَه ، و اُلقي الكتاب الكبير في خزانة الخليفة .
و في هذا المعنى رُوي عن ابن عَديّ الرجاليّ المعروف أنـّه كان يقول في ابن إسحاق : ” لو لم يكن لابن إسحاق من الفضل إلاّ أنـّه صرف الملوك عن الاشتغال بكتب لا يحصل منها شيء للاشتغال بمغازي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و مبعثه و مبتدأ الخلق لكانت هذه فضيلة سبق بها ابن إسحاق ، و قد فتّشت أحاديثه الكثيرة فلم أجد ما تهيّئ أن يُقطع عليه بالضعف ، و رُبَّما أخطأ و اتُّهم في الشيء كما يخطئ غيره . و لم يتخلَّف في الرواية عنه الثقات و الائمة الاثبات ، أخرج له مسلم في المبايعات ، و استشهد به البخاري في مواضع ، و روى له أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجة ” .
ثمّ أصبح ابن إسحاق في الحقيقة عُمدة المؤلفين في السيرة ، فما من كاتب في السيرة إلاّ و هو مستمدّ منه وراو عنه ، اللّهمَّ إلاّ ما نأتي عليه من مغازي الواقدي و رواية كاتبه ابن سعد عنه ، و ما رُوي عن أئمة أهل البيت عليهم السلام ، و كذلك أصبح كتاب ابن إسحاق عُمدة الكتب في السيرة لقرّائها مُنذ أن كتبه إلى يومنا هذا ـو لا سيَّما بعد تهذيبها من قبل ابن هشام ـ بحيث أنـّك لا تكاد تجد رجلاً يدرس سيرة الرسول الكريم إلاّ و كتاب ابن إسحاق كتابه الاوّل و الاُم في ذلك .
عمل ابن هشام في سيرة ابن إسحاق
و قد جاء بعده عبد الملك بن هشام الحميري البصري ( ت 218 هـ ) بنصف قَرن تقريباً ، فروى سيرة ابن إسحاق برواية زياد بن عبدالملك البكّائي العامري الكوفي ( ت 183 هـ ) ولكنّه لم يروها كما هي بل تناولها بكثير من التمرير والاختصار و الاضافة و النقد أحيانا ، و المعارضة بروايات اُخر لغيره ، عبَّر عن أعماله هذه بقوله في صدر سيرته : ” وأنا إن شاء اللّه مبتدئ هذا الكتاب بذكر إسماعيل بن إبراهيم ، و من ولَد رسولَ اللّه من وُلده ، أولادهم لاصلابهم الاوّل فالاوّل من إسماعيل إلى رسول اللّه ، وما يعرض من حديثهم ـ وتارك ذكر غيرهم من ولد إسماعيل للاختصار ـ إلى حديث سيرة رسول اللّه . وتارك بعض ما يذكره ابن إسحاق في هذا الكتاب ممّا ليس لرسول اللّه فيه ذكر و لا نزل فيه من القرآن شيء . و ليس سبباً لشيء من هذا الكتاب و لا تفسيراً له و لا شاهداً عليه ، لما ذكرت من الاختصار ، وأشعاراً ذكرها لم أرَ أحداً من أهل العلم بالشعر يعرفها ، و أشياء بعضها يشنع الحديث به ( ! ) و بعض يسوء بعض الناس ذكره ( ! ) و بعض لم يُقرّ لنا البكّائي بروايته ( ! ) و مُستَقْص ـ إن شاء اللّه تعالى ـ ما سوى ذلك منه بمبلغ الرواية له و العلم به ” 1 .
إذاً فقد أسقط ابن هشام من عمل ابن إسحاق : تأريخ الانبياء من آدم إلى إبراهيم ، و من ولد إسماعيل مَن ليس في عمود النسب النبوي الشريف ، كما حذف من الاخبار ما يسوء بعض الناس! و من الشعر ما لم يثبت لديه . و لكنّه زاد فيه ممّا ثبتت لديه من رواية ، و لذلك نُسبت السيرة إليه و عُرفت به ، حتّى لا يكاد يذكر ابن إسحاق معه ، فقد عُرفت سيرة ابن إسحاق بين العلماء منذ عهد بعيد باسم سيرة ابن هشام ، لما له فيها من رواية و تهذيب ، و بهذا الصدد قال ابن خلّكان في ترجمة ابن هشام : ” و ابن هشام هذا هو الذي جمع سيرة رسول اللّه من المغازي و السير لابن إسحاق و هذَّبها و لخّصها ، و هي السيرة الموجودة بأيدي الناس المعروفة بسيرة ابن هشام ” .
ولم تنقطع العناية بالتأليف في السيرة إلى يومنا هذا ، إلاّ أنّ الموضوع في ذاته ليس أمراً يقوم على التجارب ، أو فكرةً يقيمها برهان و ينقضها برهان ، شأن النظريّات العلميّة التي نرى تجديدها و تغييرها على مرّ السنين ، و إنّما هو من العلوم النقليّة لا العقليّة ، فكان المشتغلون به أوّلاً محدِّثين ناقلين ، ثم جاء مَن بَعدهم جامعين مبوِّبين ثمّ ناقدين معلِّقين .
و لم يكن قابلاً للتجديد في جوهره ، إلاّ بمقدار قليل حسب النقد الدقيق ، و إنّما كان التجديد في أشكاله و صوره شرحاً أو اختصاراً ، أو شيئاً من النقد قليلاً مشيراً إلى ما فيه من أخطاء .
و لعلَّ الذين تناولوا السيرة بالتلخيص و الاختصار ، إنّما خفَّفوا من ثقل الكتاب بعض أخباره التي استبعدوها غير مؤمنين بصحّتها ، ناقلين من الاخبار ما يرون فيها القرب من الحقّ ، و مستبعدين ما لا يجري في ذلك مع فكرتهم و عقيدتهم مفنِّدين إيّاه رادِّين له .
و لعلّ من عِلل انتشار أخبار ابن إسحاق ثمّ كتابه في السيرة كَثرة رحلاته ، فالراجح في تأريخ مولده في المدينة أنـّه كان سنة 85 هـ ، و لا يرتاب الرجاليّون و أصحاب الطبقات في أنـّه أمضى شبابه في المدينة فتىً جميلاً ” فارسي الخلقة ” جذّاب الوجه له شعرة حسنة ، و لذلك حكى ابن النديم بشأنه في فهرسته : أنـّه اتّهم بأنـّه يجلس في مؤخّر المسجد للصلاة فيُغازل بعض النساء ، فأمر أمير المدينة بإحضاره و ضربه أسواطاً و نهاه عن الجلوس في مؤخّر المسجد . و لعلَّه لهذا لم يَرْوِ عنه من أهل المدينة غير راو واحد هو إبراهيم بن سعد فحسب 2 .
و لعلَّه لهذا رحل منها سنة 115 هـ . أي في الثلاثين من عمره إلى الاسكندرية في مصر ، و يُظنّ أنـّها اُولى رحلاته ، فانفرد بروايته أحاديث عن عدّة من رجال الحديث بها . ثم رحل إلى الكوفة و الحيرة ، و لعلَّه بها التقى بالمنصور فصنَّف لابنه المهدي كتاب السيرة كما سبق ، فرواها عنه زياد بن عبدالملك البكّائي العامري و غيره ، و رحل إلى الجزيرة أي الموصل ، و الرّي حتّى إذا بُنيت بغداد فرجع إليها و فيها ألقى عصا الترحال ، و له من كلّ هذه البلدان رواة كثيرون . و عاش في بغداد حتّى توفّي بها فدُفن في مقابر الخيزران .
و قد كان ابن إسحاق يُعدّ في طبقة تلامذة عبدالملك بن شهاب الزُهري و أقرانه ، و له عنه روايات ، و نقل أصحاب الطبقات أنّ شيخه ابن شهاب الزهري لم يكن يتّهمه بشيء بل كان يوثّقه ، و تبعه في توثيق ابن إسحاق من الفقهاء الائمة سفيان الثوري و شعبة ، بالاضافة إلى رواية زياد بن عبدالملك البكّائي عنه . و إن كان هشام بن عروة بن الزبير من رواة السيرة ، و مالك بن أنس من أئمة الفقهاء يتحاملان عليه بالجرح و التضعيف و يتّهمانه بالكذب و الدجل و التدليس ، و القول بالقدر ، و النقل عن غير الثقات ، و أخطاء في الانساب . و لكن لعلّه لانّ ابن إسحاق كان يطعن في نسب مالك و علمه و يقول : إيتوني ببعض كتبه حتّى اُبين لكم عيوبه ، فأنا بيطار كتبه! إذاً فالحملة متقابلة من الطرفين ، و التضعيف ضعيف لانـّه معلوم الوجه و العلّة ” الشخصيّة ” .
مغازي الواقدي
أمّا الواقدي محمّد بن عمر بن واقد مولى بني سهم ، فقد ذكر تلميذه ابن سعد في ( الطبقات الكبرى ) أنـّه ولد في المدينة سنة 130هـ أي بعد خروج ابن إسحاق منها بخمسة عشر عاماً ، و لذلك لم يَرْوِ عنه و إن كان قد روى عن سائر رواة الاخبار عن الزهري ، مع تشابه كبير بين فقرات كتاب السيرة لابن إسحاق و كتاب المغازي للواقدي ، و لذلك زعم مستشرقان هُما ( فلهوزن وهورفتس ) أنـّه سرق منه و لم يسنده إليه ، و فنّد زعمهما مُستشرقٌ آخر هو ( مارسدن جونس ) محقّق المغازي كما في مقدِّمته للكتاب 3 ، ثمّ احتمل أن يكون الواقدي قد أعرض عن الرواية عن ابن إسحاق نظراً إلى عدم توثيق علماء المدينة له .
ثمّ قال : يبدو واضحاً للقارئ الحديث أنّ من أهمّ السِّمات التي تجعل الواقدي في منزلة خاصّة بين أصحاب السير و المغازي تطبيقه المنهج التأريخي العلمي الفنّي ، فإنّا نلاحظ عند الواقدي ـ أكثر ممّا نلاحظ عند غيره من المؤرّخين المتقدّمين ـ أنـّه كان يرتّب التفاصيل المختلفة للحوادث بطريقة منطقيّة لا تتغيّر ، فهو مثلاً يبدأ مغازيه بذكر قائمة طويلة من الرجال الذين نقل عنهم تلك الاخبار ، ثمّ يذكر المغازي واحدةً واحدةً مع تأريخ محدّد للغزوة بدقّة ، و غالباً ما يذكر تفاصيل جغرافيّة عن موقع الغزوة ، ثمّ يذكر المغازي التي غزاها النبي بنفسه ، و أسماء الذين استخلفهم على المدينة أثناء غزواته ، و أخيراً يذكر شعار المسلمين في القتال ، كلّ ذلك بالاضافة إلى وصفه لكلّ غزوة باُسلوب موحّد : فيذكر أوّلاً اسم الغزوة و تأريخها و أميرها .
و كثيراً ما يقدِّم لنا الواقدي قصّة الواقعة بإسناد جامع ، أي يجمع الرجال و الاسانيد في متن واحد ، و إذا كانت الغزوة قد نزل فيها آيات كثيرة من القرآن الكريم ، فإنّ الواقدي يفردها وحدها مع تفسيرها و يضعها في نهاية أخبار الغزوة ، و في المغازي المهمّة يذكر الواقدي أسماء الذين استشهدوا فيها .
و إنّ ما أورده في الكتاب من التفاصيل الجغرافيّة لَيوحي بجهده و معرفته للدقائق في الاخبار التي جمعها في رحلته إلى شرق الارض و غربها طلباً للعلم 4 . و قد روى ابن عساكر و الخطيب البغدادي و ابن سيّد الناس 5 عن الواقدي أنـّه قال : ما أدركت رجلاً من أبناء الصحابة و أبناء الشهداء و لا مولىً لهم إلاّ سألته : هل سمعت أحداً من أهلك يُخبرك عن مشهده و أين قُتل ؟ فإذا أعلمني مضيت إلى الموضع فاُعاينه ، و ما عَلِمت غزاة إلاّ مضيت إلى الموضع فاُعاينه ، حتّى لقد مضيت إلى ” المريسيع ” فنظرت إليها .
و رووا عن هارون الغروي قال : رأيت الواقدي بمكّة و معه رَكْوَة فقلت : أين تريد ؟
قال : اُريد أن أمضي إلى حُنين حتّى أرى الموضع و الوقعة .
و يشهد لنباهة الواقدي بهذا الشأن ما قصّه تلميذه و راويته ابن سعد في الطبقات : أنّ هارون الرشيد و يحيى بن خالد البرمكي حين زارا المدينة في حَجّتهما ، طلبا من يدلّهما على المشاهد و قبور الشهداء ، فدلّوهما على الواقدي ، فصحبهما في زيارتهما فلم يدع موضعاً من المواضع و لا مشهداً من المشاهد إلاّ مرّ بهما عليه . فمنحه هارون الرشيد عشرة آلاف درهم ، فصرفها في قضاء ديون كانت قد تراكمت عليه و زوّج بعض ولده و بقي في يسر و سعة 6 .
و لكنّه يعود فيقول : إنّه لحقه دين بعد ذلك فذهب إلى العراق سنة 180هـ 7 . و يفصّل الخطيب عن الواقدي يقول : كانت للناس في يدي مئة ألف درهم اُضارب بها في الحنطة ، و تلفت الدراهم ، فشخصت إلى العراق فقصدت يحيى بن خالد البرمكي 8 . و يفصّل ابن سعد عنه أيضاً يقول : ثمّ إنّ الدهر أعضّنا ، فقالت لي اُمُّ عبد الله : يا أبا عبد اللّه ما قعودك و هذا وزير أمير المؤمنين قد عرفك و سألك أن تسير إليه حيث استقرّت به الدار . فرحلت من المدينة . و لمّا دخل بغداد وجد الخليفة و البلاط قد انتقلوا إلى الرقّة بالشام فرحل إليهم حتّى لحق بهم 5 9 فيقول : صار إليّ من السلطان ستمئة ألف دِرْهم ما وجبت عليّ فيها الزكاة 10 ، ثمّ رجع معهم إلى بغداد و بقي بها ، حتّى قدمها المأمون فجعله قاضياً لعسكر المهدي 7 ، و كان العسكر في الجانب الشرقي و كان الواقدي في الجانب الغربي فلمّا انتقل حمل كتبه على عشرين و مئة وقر 11 ، فولّي القضاء مدّة أربع سنوات قبل وفاته ، و أوصى إلى المأمون فنفّذ وصيّته و أرسل إليه بأكفانه و قضى دَينه 12 .
ذكر ابن سعد ـ و هو تلميذه و كاتبه و راويته ـ يقول : مات ببغداد ليلة الثلاثاء لاحدى عشرة ليلة خَلَت من ذي الحجّة سنة سبع و مائتين و دُفن يوم الثلاثاء في مقابر الخيزران ، و هو ابن ثمان و سبعين سنة 5 7 .
مكانة الواقدي في الرواية و العلم
و تتجلّى مكانته في الرواية و العلم في وصف كاتبه و تلميذه ابن سعد له يقول : كان عالماً بالمغازي و السيرة و الفتوح و اختلاف الناس في الحديث و الاحكام ، و اجتماعهم على ما أجمعوا عليه ، و قد فسّر ذلك في كتب استخرجها و وضعها و حدّث بها 13 .
و قال عنه ابن النديم في الفهرست : إنّه كان عنده غلامان يعملان ليلاً و نهاراً في نسخ الكتب ، و قد ترك عند وفاته ستمئة قِمَطْر من الكتب يحتاج كلّ منها إلى رجلين لحمله 14 .
و نقل الخطيب البغدادي عن عليّ بن المديني : إن ما جمع الواقدي من الاحاديث بلغ عشرين ألف حديث 15 ، و نقل ابن سيّد الناس عن يحيى بن معين أنـّه قال : أغرب الواقدي على رسول اللّه في عشرين ألف حديث . ثمّ قال ابن سيّد الناس : و قد روينا عنه من تتبُّعه آثار مواضع الوقائع و سؤاله من ابناء الشهداء و الصحابة و مواليهم عن أحوال سلفهم ما يقتضي انفراداً بالروايات و أخباراً لا تدخل تحت الحصر 16 . و نقل الذهبي عن إبراهيم الحربي أنـّه كان يقول عنه : إنّه كان أعلم الناس بأمر الاسلام ، فأمّا أمر الجاهليّة فلم يعلم منها شيئاً 17 ، ثمّ ذكروا له زهاء ثلاثين كتاباً .
و نرى في قائمة كتبه كتاب الطبقات ، و لنا أن نتمثّله في كتاب الطبقات الكبرى لتلميذه و كاتبه محمّد بن سعد ، فقد نقل عنه كثيراً و لا شكّ أنـّه صنّفه على غرار كتاب شيخه ، و روى فيه عن غيره أيضاً .
و من كتبه كتاب الردّة ، ذكر فيه ارتداد العرب بعد وفاة النبي صلّى اللّه عليه و آله ، و محاربة الصحابة لطلحة بن خويلد الاسدي و مسيلمة الكذّاب و سجاح في اليمامة و الاسود العنسي في اليمن . و قد نقل عنه تلميذه ابن سعد في الطبقات و الطبري في تأريخه أخبار الاحداث التي تلت وفاة النبي ، و إنّما هو من كتابه في الردّة .
و يمكن القول بأنّ ما نقله ابن سعد ، و الطبري عنه عن الواقدي من أخبار الجاهليّة فهو من كتاب سمّوه : كتاب التأريخ و المغازي و المبعث ، هكذا بتقديم المغازي على المبعث و تأخير المبعث عن المغازي ، الذي عدّوه غير كتاب المغازي . و الطبري ينقل المغازي عن الواقدي مباشرة ، و لكنّه حين يُورد أخبار الجاهليّة و ما قبل الاسلام فإنّه يرويها عن ابن سعد عن الواقدي ، ممّا يدلّ على أنـّه اعتمد في المغازي على كتاب المغازي للواقدي ، و أمّا في أخبار الجاهليّة فهي من كتاب آخر له لعلّه هو التأريخ و المبعث .
و من كتبه فتوح الشام و فتوح العراق ، و قد نقل البلاذري في كتابه ” فتوح البلدان ” عن الواقدي كثيراً ، و هو من تلامذة ابن سعد كاتب الواقدي ، فهو قد روى كتاب شيخه له ، و رواه البلاذري كما نقل ابن كثير في ( البداية والنهاية ) كثيراً من حوادث سنة 64 هـ ، و الطبري نقل عنه كثيراً من حوادث النصف الثاني من القرن الثاني أي التي عاشها الواقدي .
حول تشيع الواقدي و ابن اسحاق
قال ابن النديم في فهرسته عن الواقدي : كان يتشيّع ، حسن المذهب ، يلزم التقيّة ، و هو الذي روى أن عليّاً كان من معجزات النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كالعصى لموسى و إحياء الموتى لعيسى بن مريم عليهما السلام ، و غير ذلك من الاخبار 14 .
و نقل هذا القول عنه السيّد الامين العاملي صاحب ( أعيان الشيعة ) و ترجم له 18 . و كذلك ذكره آقا بزرك الطهراني في ( الذريعة إلى تصانيف الشيعة ) 19 عند الحديث عن تأريخ الواقدي . بينما لم يذكره الشيخ الطوسي في فهرسته و لا رجاله و لا ذكر كتاباً من كتبه حتّى مقتل الحسين عليه السلام .
و ابن أبي الحديد حينما ينقل فقرة طويلة عن الواقدي ثمّ يورد رواية اُخرى مختلفة عن الاولى يبدؤها بقوله : ” و في رواية الشيعة ” 20 ممّا يدلّ على أنـّه لم يعتبره شيعيّاً و لا مُمثّلاً لهم .
و من الطريف أن يلاحظ أنّ ابن إسحاق أيضاً كان يُتّهم بالتشيّع 5 21 .
و لعلّ السبب في وصفهما بالتشيّع لا يرجع إلى عقيدتهما الشخصيّة ، بل إلى ما ورد في كتابيهما من الاخبار التي يعرضانها ممّا تقتضيه طبيعة التأليف في مثل هذه الموضوعات لا عن عقيدة صحيحة بها ، و إلى ما أورداه في بعض المواضع من كتابيهما بشأن جماعة من الصحابة منهم بعض الخلفاء فيذكرانهم بعبارات لا تضعهم في الموضع المعتبر لهم عند كثير من المسلمين .
و لذلك فإنّ أكثر النقّاد من المحدّثين الاوائل كانوا يضعّفون الواقدي في الحديث .
فقد قال البخاري و الرازي و النسائي و الدارقطني : إنّه متروك الحديث ، و لكنّهم لم يُجمعوا على ذلك ، فقد وصفه الدرآوردي بأنـّه : أمير المؤمنين في الحديث .
و قال يزيد بن هارون : الواقدي ثقة .
و وثّقه مصعب الزبيري ، و مجاهد بن موسى ، و المسيّب و أبو عبيد القاسم بن سلام ، و أبو بكر الصغاني 22 .
و قال إبراهيم الحربي : هو آمن الناس على أهل الاسلام 23 .
و قال ابن النديم : كان عالماً بالمغازي و السِّير و الفتوح و اختلاف الناس في الحديث و الفقه و الاحكام و الاخبار 14 .
أمّا بالنسبة لابن إسحاق : فقد عقد الخطيب البغدادي في كتابه ( تأريخ بغداد ) و كذلك ابن سيّد الناس في كتابه ( عيون الاثر ) فصلين فنّدا فيهما جميع المطاعن التي وجّهت إليه .
و بالنسبة لتشيّعه و قوله بالقدر قالا ما ملخّصه : أمّا ما رمي به من التدليس و القدر و التشيّع فلا يوجب ردّ روايته ، و لا يوقع فيها كبير وهن ، أمّا التدليس فمنه القادح وغير القادح ،و لا يُحمل ما وقع هنا من مطلق التدليس على التدليس المُقيّد بالقادح في العدالة ، و كذلك القدر و التشيّع لا يقتضيان الردّ إلاّ بضميمة اُخرى لم نجدها هنا .
و العجيب أنـّك لا تجد شيئاً من هذا التشكيك في عبد الملك بن هشام مهذِّب سيرة ابن إسحاق ، فلو كان العيب في هذا الباقي من سيرة ابن إسحاق لشمل الشكّ ابن هشام أيضاً .
و عندئذ نطمئنّ إلى أنّ العيب ليس في هذا الباقي بل فيما قال عنه ابن هشام : ” و تاركٌ بعض ما يذكره ابن إسحاق في هذا الكتاب . . . أشياء بعضها يشنع الحديث به ، و بعض يسوء بعض الناس ذكره ، و بعض لم يقرّ لنا البكّائي بروايته ، و مُستقص ما سوى ذلك ” .
و عندئذ تجد محور اتَّهام التشيّع أيضاً . و قد رأينا أنـّا إذا استثنينا هذين المتّهمين بالتشيّع لم يبقَ لعامّة المسلمين شيء يُذكر في السيرة و لا المغازي . و عندئذ ندرك أيضاً أنّ السابقين الاوّلين إلى تدوين سيرة الرسول و مغازيه أي الصدر الاول من تأريخ الاسلام هُم من شيعة أئمّة أهل البيت عليهم السلام أو المقاربين لهم المتّهمين بهم .
- 1. سيرة ابن هشام : 1 / 4 .
- 2. و انظر تهذيب التهذيب : 9 / 44 .
- 3. مغازي الواقدي : 29 .
- 4. مقدّمة المحقّق للمغازي : 1 : 31 .
- 5. تأريخ مدينة دمشق 11 : 5 ، و تأريخ بغداد : 3 / 6 ، و عيون الاثر : 1 / 18 .
- 6. انظر الطبقات : 5 / 315 .
- 7. a. b. c. الطبقات : 7 / 77 .
- 8. تأريخ بغداد : 3 / 4 .
- 9. الطبقات : 5 / 315 .
- 10. تاريخ بغداد : 3 / 20 .
- 11. تأريخ بغداد : 3 / 5 ، و عيون الاثر : 1 / 18 ، و الوافي بالوفيات : 4 / 238 ، و سير أعلام النبلاء : 7 / 118 .
- 12. الطبقات : 5 / 315 ، و تأريخ بغداد : 3 / 20 ، و تأريخ دمشق : 11 / 3 ، و الوافي بالوفيات : 4 / 238 .
- 13. الطبقات : 5 / 144 .
- 14. a. b. c. الفهرست : 144 .
- 15. تأريخ بغداد : 3 / 13 .
- 16. عيون الاثر : 1 / 20 .
- 17. سير الاعلام : 7 / 117 .
- 18. أعيان الشيعة : 46 / 171 .
- 19. الذريعة : 3 / 293 .
- 20. شرح نهج البلاغة : 3 / 339 .
- 21. معجم الاُدباء : 18 / 7 .
- 22. تهذيب التهذيب : 9 / 364 .
- 23. عيون الاثر : 1 / 18 .