مهما تكن الأسباب التي دعت صموئيل هانتنغتون لاطلاق مقولته الذائعة الصيت “صدام الحضارات”، والمزاعم التي تلتها من أنه قد كتبها تحت تأثير حالة “فرويدية”، فإن مقولته هذه أخذت مكانتها وقوتها “الساحرة” في عقول الكثيرين من المفكرين الغربيين والمسلمين على حد سواء.
وحتى الحادي عشر من أيلول 2001 كانت اصداء هذه النظرية تتراوح تردداتها بين المحافل الثقافية النخبوية مروراً بالاوساط المهتمة بالشأن الثقافي العالمي وصولا الى خطابيات الصحافة وحديث الشارع.
بيد أن هذا “الصدام الحضاري” المفتعل من قبل هانتنغتون لم يصل الى درجة من التفاعل والغليان والسلوك الحقيقي الفاعل الا بعد حادثتي نيويورك ستي والبنتاغون، ولم يكن من قبيل الصدفة ايضا او “زلة اللسان” التي انزلق بها جورج دبليو بوش وصفه الحرب التي يخوضها ضد “الارهاب” بالحرب الصليبية. وما كان من الممكن بعد ذلك تهدئة العاصفة، فأكيال الاتهامات والدعوات الى عمليات الانتقام وابراز التباعد الحضاري – كما فعل رئيس وزارء ايطاليا، وكما لم يَرُقْ لأكثر اعضاء مجلس النواب البريطاني عندما حاول طوني بلير التفريق بين الارهاب والاسلام – قد أخذت ابعادها الحضارية والدينية وصار من الممكن الحديث عن بدايات التصادم بين الاسلام والغرب، فالأجواء الثقافية والفكرية معبأة بل وعلى استعداد للخوض في هذا الصدام خصوصاً في أروقة النخبة المفكرة في العالم الغربي وبالأخص الاعلام الذي أُسقط عليه مفهوم “صدام الحضارات” كحتمية لا بد من وقوعها في يوم من الايام.
إن تعبير هانتنغتون “إن للاسلام حدوداً دموية” هو بلا ريب تأجيج لنار الصدام المطفأة منذ عشرات السنين، وإن كان لا بد من الاعتراف والاقرار بحقيقة تقول ان اسباب هذا الصدام على المستوى التاريخي لم يزُلْ بالكامل وان دعوات الحوار بين الحضارات تكمن في داخل مشروعه معوّقات تاريخية ومعاصرة كالحروب الصليبية واستعمار البلدان الاسلامية. وما هذه الدعوة للحوار سوى عملية ترطيب للمفاعل الصدامي النووي الذي سيشتعل عند أي احتكاك بين الغرب والاسلام، لكن ذلك لا يدعو لأن نرفع سقف التقسيمات الحضارية – كما فعل صاحب هذه النظرية – من تقسيمات أساسية الى تقسيمات حقيقية، في حين أن أي صدام سوف يحصل لن تنجو منه الا السماء!
إن اظهار نقاط الخلاف والافتراق بين الشعوب والحضارات سواء التاريخية منها أو المعاصرة هو في حد ذاته دعوة مبطنة لهذا الصراع، واذا اردنا أن نبحث ونتفش بدقة عن نقاط الالتقاء بين الحضارات بنفس تقنيات البحث عن التقسيمات، فإن الأمر ممكن وقابل لمد الجسور الحوارية بدرجة عالية أيضا قد تفوق هوة الافتراق.
وما يهمنا من مقولة صموئيل هذه الأبعاد الآخذة في التزايد والحدة، فلم يكن رجال منظمة القاعدة الافغان ليتحدثوا بهذه الطريقة الوحشية تجاه الشعب الاميركي نفسه ويطلقوا الوعود والتهديدات في التعرض لمصالحه اينما كانت وتبنيهم بقوة كلام الرئيس الأميركي في زج العرب والمسلمين في حرب يراد لها أن تأخذ أشكالها الثقافية والدينية والحضارية في المستقبل.
وفي الجهة الأخرى تكتسب نظرية “نهاية التاريخ” تجددها المستمر كأحدى أكثر نظريتين شيوعاً في العالم. ففوكوياما لا يزال يؤكد في آخر مقال له – خلافا لهانتنغتون – ان المشروع الغربي وبالتحديد الليبرالية الاميركية لا تزال هي القوة الوحيدة في العالم وأن الانسان الأخير على سطح الكرة الارضية هو الانسان الأميركي ليس بالضرورة بملامحه وبشرته وانما بتأثير النموذج الاميركي العميق لدى الآخر وتماهي الاخر في مشروعه وتبنيه الى أقصى الحدود.
يكتسب هذا المفهوم البعد الآخر للمشروع الغربي “عولمة العالم” وبالأحرى “أمركة الشعوب” والسيطرة عليها سلماً أو حرباً، “فالأنا الأعلى” لدى رجال الادارة الاميركية الحاليين والسابقين بمن فيهم مخططي السياسة الخارجية أو “حكومات الظل” آخذة في التضخم والاستعلاء، ولعل ادعاء أحد الاستراتيجيين الاميركيين بأن اميركا انتهت من السيطرة على العالم وأن دورها الحالي في حماية مصالحها فحسب خير دليل على هذا التضخم والتورم المعنوي لدى رجالات أميركا.
من الجميل أخذ العبر من التاريخ، فإذا كان صدام الحضارات قد حدث فعلاً عبر التاريخ، وان جذور هذا الصدام يضرب في أعماق الشعوب بأشكاله المختلفة، وأن حتمية هذا الصدام مسألة لا يمكن طوي الكشح عنها أو اسدال الثوب دونها، وأن عولمة العالم بقيادة الحاسوب الآلي الاميركي، وتوقف النوع البشري عن الانتاج المعرفي والتقني البديل للنموذج الاميركي، وانتهاء التاريخ عند هذا الحد، كل ذلك اذا تم وفقاً للمنطق التاريخي و”صيرورته” الحتمية المعهودة ضمن مشروعي الصدام والانتهاء، فإن المنطق التاريخي ايضاً يتحدث وبقوة عن حتمية أخرى لعل مفكري أميركا وعباقرتها وسياسييها لم يعيروا لها النظر بفعل ازدياد الانا المتعالية، وهي حتمية فرضها التاريخ باستمرار ودعّمتها حركات الشعوب التحررية على الدوام، وهي أن سقوط أية حضارة نابع بالدرجة الأولى وكأحد أهم اسباب الانهيار من عزوف الأغلبية عن محاكاة الاقلية بعد قصور طاقاتها الابداعية – على حد قول ارنولدد توينبي – “وأن الزمّار الذي يفقد مهارته يعجز بلا ريب عن اغراء أرجل الجمع بالاستجابة للرقص ليلجأ بعد ذلك الى السوط” كحل لأزمة الاستجابة، ثم بعد ذلك ينقلب السحر على الساحر
في نظرة تأملية وجدانية الى الحضارات المدفونة تعطينا شاهداً على ما ندّعي .
“إن في ذلك لعبرةً لأولي الألباب”1.
- 1. المصدر: السفير، الخميس 25 تشرين الأول 2001، العدد: 9038، العدد: 28، سماحة الشيخ عفيف النابلسي حفظه الله.