الناظر إلى حياة المعصومين ( عليهم السلام ) يرى أنهم قد اتخذوا موقفا واحدا فيما يرتبط بالطعام و الشراب ، و ذلك الموقف هو مضادة التوجه إلى الشبع و الإكثار منهما .
ذلك أن ابرز صورة لتوجه الزهد و ترك الدنيا هو الموقف من متطلبات البطن و ضغوطه . و الفرق بين البحث السابق و ما وصلنا إليه من أن الأصل هناك كان التجمل و إظهار نعمة الله ، و بين بحثنا هذا و الذي نفترض فيه العكس ، الفرق هو أن اللباس و ما يتصل به من تطيب و تأنق هو مظهر اجتماعي قبل أن يكون أمراً ذاتيا ، باعتبار حضور المعصومين ( عليهم السلام ) في الساحة الاجتماعية ، و لعله لو كان أمراً شخصياً لكان الموقف يختلف كما ذكرنا في الصفحات السابقة .
بينما قضايا الطعام و الشراب عادة شخصية ، و أدعياء الزهد و التقشف كانوا يعكسون المسائل فيجعلون مظهرهم الخارجي دالا على زهدهم بينما في واقعهم الذاتي يطلقون في الدنيا نهمهم .
و نستطيع ان زفهم موقف المرء من الدنيا من خلال نجاحه في هذا الامتحان القريب اليومي فقد يستطيع البعض التظاهر بالزهد و العبادة ـ مثلاـ أمام الناس من خلال الملابس ، وكثرة الاذكار ، و ينجح في إعطاء هذه الصورة عنه و لكنه لا يستطيع أن يستمر على ترك الطعام الطيب و الشراب ، و هو شأن شخصي ، يخفى عادة على الناس .
لذلك نستطيع أن نقول أن الأصل العام الذي كان يتبعه أهل البيت ( عليهم السلام ) ما يقدمه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كنموذج في وصفه لصديق له : ( كان خارجا من سلطان بطنه فلا يشتهي ما لا يجد و لا يكثر إذا وجد ) .
و لا يعني ذلك أنهم كانوا يحرمون أطايب الطعام أو يجتنبونها استقذارا . . فمن المأثور انهم كانوا يأكلون و يشربون الطيب ـ كما سياتي ـ و لكن الأصل العام أنهم كانوا يتعاملون مع أنفسهم بروح القناعة و يعتبرون رسالتهم ليست في ملأ البطن ، و إنما لا يعيشون لكي يأكلوا بل يأكلون ما يحفظ حياتهم لأداء دورهم . . و يبدو أن هذا الخط هو امتداد لخط أنبياء الله العظام الذين لخصوا وجودهم في رسالتهم ، بينما لخص الفراعنة و الجبابرة و المترفون وجودهم في بطنهم و ما تحته !
لنقرأ كيف يصف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) تعامل أصحاب هذا الخط مع الدنيا و مطاعمها و مشاربها ، و في طليعتهم رسول الله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) :
و لقد كان في رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كاف لك في الاسوة ، و دليل لك على ذم الدنيا و عيبها ، و كثرة مخازيها و مساويها ، إذ قبضت عنه أطرافها ، و وطئت لغيره أكنافها ، و فطم عن رضاعها ، و زوي عن زخارفها . و إن شئت ثنيت بموسى كليم الله حيث يقول : ﴿ … رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾ 1 . والله ما سأله إلا خبزا يأكله ، لأنه كان يأكل بقلة الأرض ، و لقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه ، لهزاله و تشذب لحمه .
و إن شئت ثلثت بداوود صاحب المزامير ، و قارى خه أهل الجنة ، فلقد كان يعمل سفائف الخوص بيده و يقول لجلسائه: أيكم يكفيني بيعها ! و يأكل قرص الشعير من ثمنها .
و إن شئت قلت في عيسى بن مريم ( عليه السلام ) ، فلقد كان يتوسد الحجر ، و يلبس الخشن ، و يأكل الجشب ، و كان إدامه الجوع ، و سراجه بالليل القمر ، و ظلاله في الشتاء مشارق الأرض و مغاربها . و فاكهته و ريحانه ما تنبت الأرض للبهائم ، ولم تكن له زوجة تفتنه ، و لا ولد يحزنه ، و لا مال يلفته ، و لا طمع يذله دابته رجلاه ، و خادمه يداه !
فتأس بنبيك الأطيب الأطهر ( صلى الله عليه و آله و سلم ) فإن فيه أسوة لمن تأسى و عزاء لمن تعزى . و أحب العباد إلى الله المتأسي بنبيه و المقتص لأثره . قضم الدنيا قضما ، ولم يعرها طرفا أهضم أهل الدنيا كشحا ، و اخمصهم من الدنيا بطنا . عرضت عليه الدنيا فأبى أن يقبلها ، و علم أن الله سبحانه أبغض شيئا فابغضه ، و حقر شيئا فحقره ، و صغر شيئا فصغره . و لو لم يكن فينا إلا حبنا ما أبغض الله و رسوله ، و تعظيمنا ما صغر الله و رسوله ، لكفى به شقاقا لله ، و محادة عن أمر الله . و لقد كان ( صلى الله عليه و آله و سلم ) يأكل على الأرض و يجلس جلسة العبد ، و يخصف بيده نعله ، و يرقع بيده ثوبه ، و يركب الحمار العاري ، و يردف خلفه ، و يكون الستر على باب بيته فتكون فيه التصاوير فيقول : ” يا فلانة ـ لإحدى أزواجه ـ غيبيه عني ، فإني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا و زخارفها ” . فأعرض عن الدنيا بقلبه ، و أمات ذكرها من نفسه ، و أحب أن تغيب زينتها عن عينه ، لكيلا يتخذ منها رياشا ، و لا يعتقدها قرارا ، و لا يرجو فيها مقاما ، فأخرجها من النفس و أشخصها عن القلب ، و غيبها عن البصر ، و كذلك من أبغض شيئا أبغض أن ينظر إليه ، و أن يذكر عنده .
و لقد كان في رسول الله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) ما يدلك على مساوئ الدنيا و عيوبها : إذ جاع فيها مع خاصته ، و زويت عنه زخارفها مع عظيم زلفته فلينظر ناظر بعقله : أكرم الله محمدا بذلك أم أهانه ! فإن قال : أهانه ، فقد كذب والله العظيم ـ بالإفك العظيم ، و إن قال : أكرمه ، فليعلم أن الله قد أهان غيره حيث بسط الدنيا له ، و زواها عن أقرب الناس منه . فتأسى متأس بنبيه ، و اقتص أثره ، و ولج مولجه ، و إلا فلا يأمن الهلكة فإن الله جعل محمدا ( صلى الله عليه و آله و سلم ) علما للساعة و مبشرا بالجنة ، و منذرا بالعقوبة . خرج من الدنيا خميصا و ورد الآخرة سليما . لم يضع حجرا على حجر ، حتى مضى لسبيله ، و أجاب داعي ربه . فما أعظم منة الله عندنا حين أنعم علينا به سلفا نتبعه ، و قائدأ نطأ عقبه والله لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها و لقد قال لي قائل : ألا تنبذها عنك فقلت : اغرب عني ، فعند الصباح يحمد القوم السرى 2 .
إننا نعتقد ان الإنسان لا يبقى في حياته في فراغ ، فلا بد أن يكون ذا رسالة اذا لم تكن تلك الرسالة محورها الدين أو المجتمع فإن محورها يصبح الذات و الشهوات و بذلك نستطيع التمييز بين صنفين من الناس : صنف يجهد و يكد و يكدح و يقاتل ـ أحيانا ـ لكي يحصل بالتالي على طعام لذيذ و فراش وثير و زوجة حسناء ، و صنف آخر يفكر في الهدف الذي خلق لأجله ، و سواء حصل على تلك الأمور في الطريق أم لم يحصل عليها فالأمر عنده سيان ( فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همها علفها أو المرسلة شغلها تقممها تكترش من أعلافها و تلهو عما يراد بها ) كما يقول امير المؤمنين ( عليه السلام ) ، و نظرته لما يملأ بطنه كان يؤكد عليها في أكثر من موضع ، فقد أكل من تمر دقل ( رديء ) ثم شرب عليه الماء و ضرب يده على بطنه و قال : من ادخل ( أو أدخله ) بطنه النار فأبعده الله ثم تمثل قائلا :
و إنك مهما تعط بطنك سؤله *** و فرجك نالا منتهى الذم اجمعا 3
و يجب أن يكون واضحا أن المعصومين ( عليهم السلام ) كانوا في نفس الوقت يغدقون من عطائهم على الناس ، و لكنهم فيما يرتبط بأنفسهم يكتفون بالقليل ، فالإمام الحسن ( عليه السلام ) و هو كريم أهل البيت ـ و كلهم كرماء ـ يتمثل بالشعر المعروف :
لكسرة من خسيس الخبز تشبعني *** و شربة من قراح الماء تكفيني
و طمرة من رقيق الثوب تسترني *** حيا و إن مت تكفيني لتكفيني 4
و سيأتي في الصفحات القادمة ما يرويه مسروق عن زهد الإمام الحسين ( عليه السلام ) الذي كان صائما في يوم عرفة ، و كان إفطاره قدح سويق !
و أما علي بن الحسين ( عليه السلام ) فإذا كان اليوم الذي يصوم فيه يأمر بشاة فتذبح و تقطع أعضاؤها و تطبخ ، فإذا كان المساء اكب على القدور حتى يجد ريح المرق و هو صائم ثم يقول : هاتوا القصاع . . اغرفوا لآل فلان ، و اغرفوا لآل فلان حتى يأتي على اخر القدور ثم يؤتى بخبز و تمر فيكون ذلك عشاءه 5 . .
و كذلك ما يروى عن الإمام الرضا ( عليه السلام ) من انه كان قليل النوم بالليل كثير الصوم و بالرغم من كونه في موقع ولاية العهد حيث لذائذ الأطعمة و الأشربة متوفرة ، إلا انه ( كان خفيف الأكل قليل الطعام ) . هذا هو النموذج الذي نراه في حياة أهل البيت ( عليهم السلام ) كأصل عام ، و كامتداد لخط الرواد من أنبياء الله و أوصيائهم . .
و هذا هو المتبع فيما يرتبط بالمسألة الذاتية ، إلا انهم ( عليهم السلام ) و نظرا لكونهم موضعا للاقتداء ، لذلك فإن أعمالهم تكتسب طابع السنة ، لذلك وجدناهم انطلاقا من هذه الخلفية ـ و كما تقدم أيضا من البحث السابق ـ يقومون ببعض الأعمال التي لا تقصد بذاتها و انما :
للتشريع : و لتوضيح الحكم الشرعي المرتبط بالقضايا الخارجية ، ذلك انهم لولم يقوموا مثلا بأكل هذا الطعام أو ذاك لحدثت شبهة في جواز أكله و عدم الجواز .
فقد جاء بعض أصحاب الرسول ( صلى الله عليه و آله و سلم ) إليه يوما بفالوذج فأكل منه ، و قال : مم هذا يا ابا عبد الله ؟! فقال : بأبي أنت و أمي نجعل السمن و العسل في البرمة ( قدر حجري ) و نضعها على النار ثم نقليه ثم نأخذ مخ الحنطة إذا طحنت فنلقيه على السمن و العسل ثم نسوطه حتى ينضج فيأتي كما ترى . فقال ( صلى الله عليه و اله و سلم ) إن هذا الطعام طيب 6 . و كذلك أتي أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بخوان فالوذج فوضع بين يديه فنظر إلى حسنه و صفائه فوجأ بإصبعه ( حتى بلغ أسفله ثم سلها ولم يأخذ منه شيئا و تلمظ إصبعه و لعقه ) و قال ( عليه السلام ) : إن الحلال طيب و ما هو بحرام لكني اكره ان اعود نفسي ما لم أعودها ارفعوه عني ، فرفع 7 .
و حين يقوم بعض المتقدسين بتحريم طيبات ما انزل الله ، و استقذار نعمه يرد عليهم المعصومون ( عليهم السلام ) . . فالإشكال ليس في أكل الطيب ، حتى يدعى خبثه و إنما في استعباد بطن الآكل له ، بحيث يكون كل همه و سعيه من اجل أكل هذا النوع ، فقد رأى الإمام الحسين ( عليه السلام ) رجلا يعيب الفالوذج فقال ( عليه السلام ) : لعاب البر بلعاب النحل بخالص السمن ما عاب هذا مسلم 8 .
و هذا يفتح نافذة على موضوع ( الذوق ) فالبعض يفكر أن المعصومين ( عليهم السلام ) و من ورائهم المؤمنين لا يستطيعون الوصول إلى الأطعمة اللذيذة و الاشربة الهانئة و كذلك لا ذوق لهم ، لذلك يحرمون على أنفسهم هذا الطعام و ذاك ، و يجتنبون عن اللذائذ ، لأنهم لا يستطيعون من جهة و لأن ذوقهم غير سليم . و لكن هذه الفكرة خاطئة إذ ( لو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل و لباب هذا القمح و نسائج هذا القز . . و لكن هيهات أن يغلبني هواي أو يقودني جشعي إلى تخير الأطعمة. . ) إضافة إلى أنهم كانوا يرونه طيبا ، و لذيذا ـ كما تقدم ـ لكنهم يكرهون تعويد أنفسهم عليه .
و من باب التشريع أيضا ، و لتقديم نموذج كامل عن تعاليم الإسلام وجدنا المعصومين ( عليهم السلام ) يتخذون كلتا الطريقتين أمام الناس ، فاحدهم يأخذ نفسه بالعسير و يقبل على الصوم و حين يأكل ، يأكل الجشب ، بينما يأخذ الثاني نفسه بالتوسعة فيأكل من الأطعمة اللذيذة و ذلك لجعل الناس في سعة ، و لتعريفهم أن كلتا الطريقتين ـ بحدودهما الشرعية مقبولة دينيا ، و ربما لو كان المعصومون يؤكدون على طريقة واحدة فقط لكنا في شبهة من جواز الثانية و لعل ما يروى من إفطار و جودة طعام الحسن ( عليه السلام ) و صوم و قلة طعام الحسين ( عليه السلام ) ما يرشدنا إلى هذه الحقيقة .
فقد روي عن مسروق قال : دخلت يوم عرفة على الإمام الحسين ( عليه السلام ) فوجدت عنده أقداح سويق ، و كان أصحابه يقرؤون القرآن ، منتظرين وقت الإفطار ، فسألته عدة مسائل كانت عندي فلما أجاب عليها خرجت ، و ذهبت إلى الإمام الحسن ( عليه السلام ) فرأيت الناس عنده و قد هيئت سفر الطعام الطيب ، و هم يأكلون و يأخذون معهم ، فلما رأيت ذلك تأثرت ، و نظر إلي الإمام الحسن قائلا : يا مسروق لم لا تأكل ؟! قلت : إني صائم و قد ذكرت شيئا . . فقال قل !! ما خطر ببالك .
فقلت : أعوذ بالله ان يكون بينك و بين أخيك اختلاف !! دخلت على الحسين فرأيته صائما منتظرا للإفطار و دخلت عليك فرأيتك على هذه الحال .
لما سمع الإمام ذلك ضمني إلى صدره و قال : بابن الأشرس ألم تعلم ان الله جعلنا مقتديي الأمة ؟! فجعلني مقتدى المفطرين و جعل أخي مقتدى الصائمين لتكونوا في سعة 9 .
فأنت ترى ان الإمام يمضي كلتي الطريقتين ليكون الناس فى سعة ، و إن كانوا يفضلون لو كانوا وحدهم ـ كما قلنا ـ التخشن و الاكتفاء بنزر الطعام .
ميراث البطنة
وجه أهل البيت ( عليهم السلام ) ، و من قبلهم خط الأنبياء و الرسل في التاريخ وجهوا أتباعهم إلى قلة الأكل و الاجتناب عن البطنة و الشبع ، لا من الحرام . فذاك محرم قليله و كثيره ، بل من الحلال المباح . و كانوا هم السباقين ، في التطبيق كما بينا آنفا ، لا من باب التحريم الشرعي ، بل لما تخلفه قلة الأكل من آثار على شخصية الإنسان من صحية و نفسية ، و عبادية ، مما اصطلح عليه في الأحاديث بميراث الجوع و ميراث الشبع و البطنة .
1 ـ قلة الفاعلية و الكسل عن الطاعة
يؤدي الإكثار من الطعام و الشراب إلى الثقل و التكاسل عن أداء المسؤوليات و الطاعات . و نستطيع أن نجد هذا بوضوح في سيرة الناس في المجتمع ، فذلك الشخص الذي يتناول طعامه بتوسط ، أو يقلل من أكله يبقى على حالة عالية من النشاط و الحركة ، عكس ذلك الذي يأكل فوق شبعه ، فيشعر بالنعاس عادة و يحل عليه الخمول .
ففي الحديث المروي عن المسيح ( عليه السلام ): ( يا بني إسرائيل لا تكثروا الأكل فانه من أكثر الأكل أكثر النوم و من أكثر النوم اقل الصلاة و من اقل الصلاة كتب من الغافلين ) .
و عن رسول الله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) : إياكم و فضول المطعم فإنه يسم القلب بالفضلة و يبطئ بالجوارح عن الطاعة و يصم الهمم عن سماع الموعظة 10 .
و عن الإمام الصادق ( عليه السلام ): ( في حديث جرى بين يحيى ( عليه السلام ) و إبليس ) : فقال له يحيى ؟! ما هذه المعاليق فقال إبليس : هذه الشهوات التي أصيب بها ابن آدم ، فقال : هل لي منها شيء ؟! فقال : ربما شبعت فشغلناك عن الصلاة و الذكر .
قال : فإن لله علي أن لا أملأ بطني من طعام أبدا . و قال إبليس : لله علي أن لا أنصح مسلما أبدا . ثم قال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : لله على جعفر و آل جعفر أن لا يملؤوا بطونهم من طعام أبدا ولله على جعفر و آل جعفر أن لا يعملوا للدنيا أبدا 11 .
2 ـ سوء الصحة و سقم البدن
ينصح الأطباء ـ دائما ـ للمحافظة على تعادل الجسم و بقاء الصحة ، بالاعتدال في تناول الأطعمة ، و القيام عن الطعام مع وجود الرغبة إليه و اشتهائه . ذلك ان أعضاء هذا الجسم قدرة محدودة في استيعاب الأطعمة الواردة إليه ، فالمعدة لها قدرة محدودة ، و الدم له قدرة محدودة على الاستفادة من فوائد الاغذية المهضومة . و يتصور البعض ـ خطأ ـ انه كلما زاد أكله ، فإن بدنه يزداد قوة !! و ربما يستدل على ذلك بان وزنه قد كسر المعدل الاعتيادي و ( الميزان أحيانا ) بينما يجهل أنه يختزن في جسمه قنابل سمية و شحمية ، تتفجر تدريجيا بعد الاربعين في صورة زيادة ضغط الدم ، و الكوليسترول ، و سائر الإمراض الأخرى التي تسمى ( أمراض المدنية ) .
و قد يكون الأمر مثيرا للتعجب أننا نجد الفقراء و متوسطي الحال ـ عادة لا يمرضون لا بمقدار أمراض المترفين و لا بنوعية أمراضهم ، ذلك انه ( لا يجتمع الصحة و النهم ) . و قد أشارت الأحاديث إلى هذا الجانب :
ـ فعن أبي الحسن ( الكاظم ) ( عليه السلام ) ، لو أن الناس قصدوا في الطعام لاعتدلت ابدأنهم .
و حذرت من إدمان الشبع و البطنة لأنها لجلب الأسقام : فعن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( إياك و إدمان الشبع فانه يهيج الأسقام و يثير العلل ) ، و ( إياك و البطنة فمن لزمها كثرت أسقامه ) .
و عن الإمام الرضا ( عليه السلام ) موضحا أن زيادة الطعام لا تنفع لعدم استيعاب الجسم لها : من اخذ من الطعام زيادة لم يغذه ومن أخذه بقدر لا زيادة فيه و لا نقص في غذائه نفعه و كذلك الماء فسبيله ان تأخذ من الطعام كفايتك و ارفع يديك منه و لك إليه بعض القرم ( الشوق ) و عندك اليه ميل فإنه أصلح لمعدتك و بدنك و أزكى لعقلك و اخف لجسمك 12 .
و لنقرأ ما يقوله الطب في هذا المجال :
مضار الإسراف بنوع من الأطعمة
1 ـ السمنة : و هو المرض الخطير الذي نجده غالبا في أبناء الطبقات الغنية و عند أصحاب الوظائف الكسولة ، و يحصل نتيجة الإكثار من الطعام ، و خاصة السكاكر و الدهون و بشكل خاص عند الإفراد الذين لديهم استعداد إرثي .
و السمنة في الواقع مرضق بشع يحدد من إمكانات الفرد و نشاطاته بشكل كبير ، كما يؤهب أو يشارك بعض الأمراض الخطيرة ، كاحتشاء العضلة القلبية ، و خناق الصدر ، و الداء السكري ، و فرط توتر الدم و تصلب الشرايين و كل هذه الأمراض هي اليوم شديدة الشيوع في المجتمعات التي مالت إلى رفاهية الطعام و الشراب .
2 ـ نخر الأسنان : و هو أيضا من الأمراض الشائعة بسبب الإكثار من تناول السكاكر الاصطناعية خاصة التي تسمح بتخمرها للعصيات اللبنية بالنمو في جوف الفم .
3 ـ الحصيات الكلوية : و هي اكثر حدوثا ـ عند الذين يعتمدون بشكل رئيسي على تناول اللحوم و الحليب و الجبن .
4 ـ تصلب الشرايين و هو داء خطير يشاهد بشكل ملحوظ عند الذين يتناولون كميات كبيرة من الدسم ، حيث يصابون بفرط تدسم الدم .
5 ـ النقرس ” داء الملوك : و هو ألم مفصلي يأتي بشكل هجمات عنيفة و خاصة في مفاصل القدم و الإبهام . و يشاهد أكثر عند اللذين يتناولون كميات كبيرة من اللحوم 13 .
و يرى الدكتور صبري القباني :
أن ضعف الجسم و وهنه لا يأتيان ـ فقط ـ من قلة التغذية ، بل قد يتسبب الإفراط بالتغذية في النتيجة نفسها ، و كثير من الإمراض التي تدهم الإنسان على غير توقع و كثير من الليالي التي يقضيها مؤرقا أو تحت ضغط كابوس مخيف ، و كثير من الظواهر المرضية الدالة على اختلال توازن المعادن في الجسم ، كثير من هذا كله يكون مرده إلى الإفراط في التغذية 14 .
3 ـ خمود الإبداع و الحكمة
بينما تتفجر ينابيع الحكمة و الإبداع لدى طالبي المعرفة ، و الباحثين عن الحقيقة تنطفئ مصابيحها ـ إن كانت موجودة ـ لدى الباحثين عن الشبع ، و المقيمين على البطنة و كثرة الطعام . و الأمر هنا ملحوظ فإذا ( امتلأت المعدة نامت الفكرة ) فكيف إذا كانت المعدة دائما مكتظة بالطعام و الشراب ؟! هل تبقى هناك فكرة حتى تنام أو تقعد ؟!
ـ فعن رسول الله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) : لا تشبعوا فيطفى نور المعرفة من قلوبكم .
ـ و عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : من زاد شبعه كظته البطنة و من كظته البطنة حجبته عن الفطنة .
ـ و عنه أيضا : لا تجتمع الفطنة و البطنة .
و ليس المقصود بهذا كما قدمنا الأكل من الحرام أو المشتبه إنما ( إذا ملىء البطن من المباح عمي القلب عن الصلاح ) 12 و ينقل التاريخ إن إحدى مآسي المسلمين التي حدثت كان احد عواملها البطنة . فقد قال عمرو بن العاص لأصحابه يوم حكم الحكمان : اكثروا لأبي موسى ( الأشعري ) من الطعام الطيب فوالله ما بطن قوم قط إلا فقدوا عقولهم أو بعضها ، و ما مضى عزم رجل بات بطينا 15 .
4 ـ استعباد البطن لصاحبه
نموذجان يفتقي بهما الناظر للأحاديث ، و المراقب للحياة . . النموذج المثالي المطلوب الخارج من سلطان البطن ، الرسالي صاحب الدور في حياته ، الذي يأكل ما يبلغه لكي يعيش . . و قد قدمنا في ذكرنا للنص المروي عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) . ان الاقرب ان ذكره لتلك الصفات كانت على سبيل تقديم النموذج القياسي الصفات المؤمن المطلوب دون أن يعني بالضرورة انه يقصد شخصا بعينه ، و إن كان ينطبق هذا الوصف على أشخاص .
و يبدو أن عدداً من تشريعات الإسلام يهدف إلى تربية هذا النموذج و ابرز مثال على ذلك الصوم الذي جعله الله له و هو يجزي ( أو يجزى ) به على التفسيرين للرواية . فإن واحدا من أهم أهداف الصوم إخراج المسلم من عبودية الشهوات و تحريره من أمر البطن و ضغطه .
و النموذج الآخر الذي تقبحه الأحاديث ، و تجعله بعيدا عن الله ، بعيدا عن فهم الدين ، غارقا في عبودية البطن و الطعام ، ينسف ما يجد و يطلب ما لا يجد ، و يتشهي و يتمنى ما لا يستطيع أن يجد . هذا النموذج الذي يلخص سعيه و جهده و هدفه في الحياة بإشباع بطنه و بالتلذذ بالأكل ، تمثله الأحاديث بهيمة في صورة إنسان . و في سيرة بعض الحاكمين المترفين مثال بارز فهذا معاوية الذي استجيبت في حقه دعوة الرسول ( صلى الله عليه و آله و سلم ) عندما أرسل خلفه في أمر من أموره ثلاث مرات و بين كل مرة وقت و كان الرسول ( صلى الله عليه و آله و سلم ) يخبر في كل مرة بأنه ( يأكل ) فدعا عليه قائلا : لا أشبع الله له بطنا . يتحدث عنه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قائلا : أما انه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم مندحق البطن يأكل ما يجد و يطلب ما لا يجد . و نعتقد أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) و قد رأى بوادر ذلك التحول الذي قدر أن يحدث في حياة بعض المسلمين من رساليين مجاهدين إلى مترفين أذلاء لبطونهم فإنه شن حملة عنيفة لتقبيح هذا النموذج ، ملاحظا وجه الاشتراك بينه و بين البهائم الحيوانية التي همها بطونها و ناعيا عليها تلخيص هدف حياتها بين المطعم و المخدع ، ( كالبهيمة المربوطة همها علفها أو المرسلة شغلها تقممها تكترش من اعلافها و تلهو عما يراد بها ) .
و الطريق للوصول إلى هذا النموذج الداني هو الاستجابة الدائمة لمطالب البطن ، و عدم الاكتفاء ، فإذا تم ذلك تحول البطن إلى سلطان لا يغلب و حينها يكون قرار الإنسان في حياته و ارتباطه بدينه ، يكون مركزه لا في العقل و إنما في البطن . و لندع التاريخ يتحدث .
ذكر الفضل بن الربيع قال : دخل شريك القاضي على المهدي يوما ( وكان شريك قبلها معتزلا عن السلطان ) . فقال له المهدي : لا بد إن تجيبني إلى خصلة من ثلاث خصال . قال : و ما هن يا أمير المؤمنين ؟!
قال : إما أن تلي القضاء ، أو تحدث ولدي و تعلمهم ، أو تأكل عندي اكلة .
ففكر ( شريك ) ثم قال : الأكلة أخفهن على نفسي فاحتبسه و قدم إلى الطباخ أن يصلح له ألوانا من المخ المعقود بالسكر ( الطبرزد ) و العسل .
فلما فرغ من غذائه قال له القيم على المطبخ : يا أمير المؤمنين ليس يفلح الشيخ بعد هذه الأكلة أبدا . قال الفضل بن الربيع : فحدثهم والله شريك بعد ذلك و علم أولادهم و ولي القضاء لهم ، و لقد كتب بارزاقه إلى الجهبذ فضايقه في النقص ، فقال له الجهبذ : إنك لم تبع بزا ، قال له شريك : بلى والله لقد بعته اكبر من البز لقد بعت ديني 16 .
فأنت ترى مقدار استعباد بطن هذا القاضي ( الزاهد ) له ، و قد توقع له ذلك المهدي العباسي عندما جعل تناوله الطعام على مائدته قسيما للقضاء و لتعليم أولاده ، أما الطباخ فقد أكد ذلك بقوله : ليس يفلح الشيخ بعد هذه الأكلة أبدا ولم يكن شريك غافلا عما صنع إذ انه باع اكبر من البز ، باع دينه كما قال !!
5 ـ قسوة القلب و هيجان الشهوة
يبدو أن عوامل الضعف و عوامل القوة في قلب الإنسان ككفتي ميزان فإذا رجح الإنسان جانبا ضعف الجانب المقابل بشكل طبيعي . و يبدو أن الحكمة و الشهوة متقابلتان . . كل في كفة فإذا سقى المرء قلبه من ينابيع الحكمة فإنه يضعف من دور الشهوات و سيطرتها ، و العكس تماما عندما يرخي لعنانه الشهوات ، تنطفئ في قلبه مصابيح الحكمة .
و البطنة لأنها من دواعي تقوية الغريزة و خط الشهوات في النفس لذلك تنتج عادة قسوة القلب ، و كما النار عندما يلقى فيها الحطب لا تشبع و لا تكتفي فإن الشهوات ـ عادة ـ لا تنتهي عندما يستجيب لها الإنسان ، فكلما أعطاها تطلب أكثر .
و نحن نجد في توصيات المعصومين ( عليهم السلام ) الاستعانة على ضبط الشهوات بالصوم ، لأنه وجاء ( من استطاع فيكم الباءة فليتزوج و من لم يستطع فعليه بالصوم فإنه وجاء ) ، و ليس غريبا اننا نجد الارتباط في صفات المؤمنين بين كون قلوبهم لينة ، و عيونهم باكية ، و من جهة أخرى بطونهم خميصة ، لأن البطن البطين و الممتلئ ينسجم مع الشهوة الهائجة و القلب القاسي أكثر ما ينسجم مع لين القلب و خضوعه .
و نختم هذا البحث بكلمة حكمية جامعة في حمد القناعة و قلة الأكل :
قال بعضهم لابنه : يا بني عود نفسك الاثرة ، و مجاهدة الهوى و الشهوة ، و لا تنهش نهش السباع ، و لا تقضم قضم البراذين ، و لا تدمن الأكل إدمان النعاج ، و لا تلقم لقم الجمال ، إن الله جعلك إنسانا ، فلا تجعل نفسك بهيمة و لا سبعا ، و احذر سرعة الكظة ، و داء البطنة ، فقد قال الحكيم : إذا كنت بطنا فعد نفسك من الزمنى .
و قال الأعشى : و البطنة يوما تسفه الأحلاما
و اعلم أن الشبع داعية البشم ، و البشم داعية السقم ، و السقم داعية الموت ، و من مات هذه الميتة فقد مات موتة لئيمة ، و هو مع هذا قاتل نفسه ، و قاتل نفسه ألوم من قاتل غيره ، يا بني ، والله ما أدى حق السجود و الركوع ذو كظة ، و لا خشع لله ذو بطنة ، و الصوم مصحة ، و لربما طالت أعمار الهند ، و صحت أبدان العرب ، ولله در الحارث بن كلدة حيث زعم أن الدواء هو الأزم ، و أن الداء إدخال الطعام في اثر الطعام ، يا بني لم صفت أذهان الأعراب ، و صحت أذهان الرهبان مع طول الإقامة في الصوامع ، حتى لم تعرف وجع المفاصل ، و لا الأورام ، إلا لقلة الرزء ، و وقاحة الأكل ، و كيف لا ترغب في تدبير يجمع لك بين صحة البدن و ذكاء الذهن و صلاح المعاد و القرب و عيش الملائكة ، يا بني لم صار الضب أطول شيء ذماء ، إلا لأنه يتبلغ بالنسيم ، ولم زعم الرسول ( صلى الله عليه و آله و سلم ) أن الصوم وجاء ، إلا ليجعله حجابا دون الشهوات ! فافهم تأديب الله و رسوله ، فإنهما لا يقصدان إلا مثلك .
يا بني ، إني قد بلغت تسعين عاما ما نقص لي سن ، و لا انتشر لي عصب ، و لا عرفت دنين أنف ، و لا سيلان عين ، و لا تقطير بول ، ما لذلك علة إلا التخفيف من الزاد ، فإن كنت تحب الحياة فهذه سبيل الحياة ، و إن كنت تريد الموت فلا يبعد الله إلا من ظلم 17 .
من النماذج المعاكسة
تعرف الأشياء بأضدادها عادة ، و لأننا قد ذكرنا آنفاً عن حياة المعصومين ( عليهم السلام ) و تنزههم عن استعباد البطن ، و بنائهم للنموذج الرفيع الذي ( كان خارجا من سلطان بطنه فلا يطلب ما لا يجد و لا يكثر إذا وجد ) ، فإننا سوف نذكر هنا بعض النماذج المقابلة و المعاكسة لتلك الصفة ، لكي تتضح جوانب الصورة كاملة ، و هذا البحث و إن كان معقودا للحديث عن أهل البيت ( عليهم السلام ) ، إلا انه لما كانت النماذج التي سنعرض لها قد اخذت مواقع المعصومين ( عليهم السلام ) عدوانا ، كان من الضروري التعرف على بعض أحوالها ، لنعرف أين ثرى هؤلاء من ثريا أهل البيت .
سليمان بن عبد الملك :
اختص الحكام الظالمون بـ ( ميزات !! ) و علامات فارقة ، ففيما بينهم يختص هذا بميزة غير ذاك ، و هي و إن كان جماعها الاثم ، إلا ان فيه درجات و جهات . فكما اختص عبد الملك بن مروان بالبخل حتى سمي ( رشح الحجر ) ، و فاقه في ذلك أبو جعفر المنصور حتى لقب ( بالدوانيقي ) فإن سليمان بن عبد الملك قد ( تفوق ) في كثرة الأكل حتى انسى الناس ذكر معاوية ( رحب البلعوم ) !! و نحن نذكر شيئا من ذلك على ذمة التاريخ الذي نقله !!
فقد كان شبعه في كل يوم من الطعام مائة رطل من العراقي . . ( مائة رطل !! ) و كان ربما أتاه الطباخون بالسفافيد التي فيها الدجاج المشوي و عليه جبة الوشي المثقلة ، فلنهمه و حرصه على الأكل يدخل يده في كمه حتى يقبض على الدجاجة و هي حارة فيفصلها .
و ذكر أن سليمان خرج من الحمام ذات يوم و قد اشتد جوعه ، فاستعجل الطعام ، ولم يكن قد فرغ منه فأمر أن يقدم عليه ما لحق من الشواء ، فقدم إليه عشرون خروفا فأكل أجوافها كلها مع أربعين رقاقة ثم قرب بعد ذلك الطعام فأكل مع ندمائه كأنه لم يأكل شيئا . . ( اعد العبارة مرة اخرى : فقدم إليه عشرون خروفا فأكل أجوافها كلها مع أربعين رقاقة . . ) .
و حكي انه كان يتخذ سلال الحلوى و يجعل ذلك حول مرقده فكان إذا قام من نومه يمد يده فلا تقع إلا على سلة يأكل منها 18 .
و لعلنا لا نصدق كل ما يروى من أكل سليمان و أمثاله إذ أن ( المؤمن يأكل في معاء واحد و الكافر يأكل من سبعة أمعاء ) ، فكيف بمن يأكل في سبعين معاء ؟! و لكن ماذا نقول إذا أجمعت كتب التاريخ و الأدب على ذلك ؟!
فقد قال الشمردل وكيل عمرو بن العاص ، قدم سليمان بن عبد الملك الطائف فدخل هو و عمر بن عبد العزيز الي ، و قال يا شمردل ما عندك ما تطعمني !! قلت : عندي جدي كاعظم ما يكون سمنا ، قال : عجل به فأتيته به كأنه عكة سمن فجعل يأكل منه و لا يدعو عمر ، حتى إذا لم يبق إلا فخذ قال : هلم يا أبا جعفر !! فقال : إني صائم ، فأكله سليمان . . ثم قال : يا شمردل ويلك أما عندك شيء ؟! قلت : ست دجاجات كأنهن أفخاذ نعام فأتيته بهن فأتى عليهن ثم قال : يا شمردل : أما عندك شيء ؟! قلت : سويق كأنه قراضة الذهب ، فأتيته به فعبه حتى أتى عليه ، ثم قال : يا غلام أفرغت من غذائنا ؟!
قال نعم ، قال : ما هو ؟! ” قال : نيف و ثلاثون قدرا ، قال ائتني بقدر قدر . فاتاه بها ، و معه الرقاق فأكل من كل قدر ثلثه ثم مسح يده و استلقى على فراشه و أذن ؟ للناس فدخلوا وصف الخوان فقصد و اكل مع الناس 19 !!
هل تصدق ؟!
نقاط من وحي السيرة
نستطيع أن نخرج بعد استعراض شيء من سيرة المعصومين ( عليهم السلام ) في هذا الجانب بعدد من النقاط تضيء لنا الطريق :
أ ـ الوعي الصحي في الأكل
يميل البعض عند الأكل إلى ملء البطن بما وجد على المائدة من ألوان الطعام و أصناف الشراب ذاهلين عن حقائق ترتبط بالمسألة ، ذلك أن مجرد ملء البطن ليس فقط قد لا يكون مفيدا بل هو في كثير من الحالات مضر ، يضاف إلى ذلك أن نوعية الطعام الذي يتناوله المرء ، تارة يكون مع ملاحظة الجوانب الصحية فيه و أخرى مع عدم ملاحظتها .
إننا نلاحظ وجود عدد من الآداب و السنن الصحية وجه إليها المعصومون ( عليهم السلام ) . . فهناك توجيهات عامة ، يمكن اعتبارها قواعد صحية غير مرتبطة بوقت أو شخص مثل : قول الرسول ( صلى الله عليه و آله و سلم ) . . لا تأكل ما قد عرفت مضرته و لا تؤثر هواك على راحة بدنك ، و الحمية هو الاقتصاد في كل شيء ، و اصل الطب الازم ( و هو ضبط الشفتين و الرفق باليدين ) و الداء الدوي إدخال الطعام على الطعام و اجتنب الدواء ما لزمتك الصحة فإذا أحسست بحركة الداء فاحرقه بما يردعه قبل استفحاله 20 .
و قول أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من أكل الطعام على النقاء و أجاد الطعام تمضغا و ترك الطعام و هو يشتهيه ولم يحبس الغائط إذا أتى لم يمرض إلا مرض الموت 21 .
و كان رسول الله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) إذا أكل الدسم اقل شرب الماء فقيل له : يا رسول الله إنك لتقل شرب الماء ؟! قال : ( هو أمرأ لطعامي ) 22 و ذلك لما للماء من اثر في تخفيف تركيز العصارات الهاضمة في المعدة .
و من هذا المنطلق الصحي اثر الحديث عن الرسول و عن اهل بيته : ( نحن قوم لا نأكل حتى نجوع و إذا أكلنا لا نشبع ) أي ننهض قبل أن نشبع . ومنه أيضا كان التأكيد على أن القوة لا تأتي بملء البطن كما قلنا ، و لا تأتي من الطعام اللذيذ ـ بالضرورة ـ بل قد يحتوي طعام خشن على مقومات القوة ، و الفوائد الغذائية أكثر مما يحتويه الأول ، و لذا ليس غريبا إن وجدنا أن قوت جيش المسلمين في كثير من الغزوات كان التمر و الماء ، بينما يفترض المراقب أن يكون لدى الجيش ـ لكيلا يقعد به الضعف ـ الكثير من الأطعمة و المتنوع منها ، و يمكن استنتاج هذه الفكرة من كلام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ( . . و كأني بقائلكم يقول : إذا كان هذا قوت ابن أبي طالب فقد قعد به الضعف عن قتال الأقران و منازلة الشجعان ، ألا وإن الشجرة البرية اصلب عودا و الرواتع الخضرة ارق جلودا و النباتات العذية أقوى وقودا و أبطأ خمودا . . ) 23 .
كذلك في التفاصيل فإن هناك تأكيدا على أنواع معينة باعتبار إفادتها الهامة لبدن الإنسان ، كالعسل الذي يصفه القرآن الكريم بأنه شفاء ، و قد تبين للبشر ذلك بعدئذ ، أو التأكيد على الملح و البدء به و الختام و ما لذلك من اثر في القضاء على مسببات المرض ، و لسنا الآن في صدد استعراض كل تلك الأحاديث و البرهنة على فوائدها ، فالبحث لم يعقد لذلك ، و يمكن الرجوع للكتب المتخصصة في هذا المجال 24 .
إلا أن ما نريد التنبيه إليه هنا هو أن المعصومين و هم يعلمون حاجة البشر للطعام وجهوا إلى آدابه ف ( حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن غلب الأدمي نفسه . . فثلث لطعامه و ثلث لشرابه و ثلث لنفسه . . . ) .
و لذا ينبغي لمن أراد أن يعيش سليما من الأذى معافى أن يلتزم تلك التعاليم .
ب ـ الزهد و مقتضيات الزمن
كما تقدم في الفصل السابق ، و ذكرنا حينه إن المعصومين ( عليهم السلام ) باعتبار أنهم المبلغون عن الله لهم وظائف و أخلاق ، و باعتبار انهم بشر يعيشون ( في ) المجتمع لهم وظائف و قد يحدث أن يكون المجتمع في ظرف طبيعي فيطبقون فيه كل تعاليمهم و أفكارهم ، و قد لا يكون كذلك فيحافظون على أصل القيم بينما يتنازلون عن الأسلوب و المظهر ، و لا يعني ذلك ضياع القيم الأساسية كما يتصور البعض خطأ ، و انما التضحية بالأسلوب لصالح الأصل .
كذلك ذكرنا آنفا أن جزءا من أعمال المعصوم تتناول الجانب التبليغي و الديني لذلك يفهم منه الحاضرون الحلية أو الحرمة ، كما مر عندما لم يتناول الرسول ( صلى الله عليه و آله و سلم ) بعض الأطعمة سأله احد الأصحاب : هل تحرمه ؟! و هكذا الحال بالنسبة لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) . إضافة إلى ذلك فإنهم ( عليهم السلام ) لم يكونوا جاهلين بلذائذ الأطعمة فلو شاؤوا لاهتدوا الطريق إلا انهم أرادوا التواضع لله ، و عدم التعود على ذلك لكيلا يلح عليهم نداء البطن ، و بالفعل كان ( يعجبهم ) بعض الأطعمة إلا أن هناك فرقا واضحا بين أن ( يعجبه ) هذا الطعام و أن يسيطر عليه و يأسره حتى يصبح له عبدا .
من كل ما تقدم نستطيع أن نجمع بين الأحاديث التي ( تؤصل ) الزهد و التقشف في متاع الدنيا و طعامها ، و بين تلك الأحاديث التي تصف أطعمتهم بكونها كسائر الأطعمة بل ربما أبلغت في الوصف ، فنوعت ما يعجبهم . و لنقرأ الحديث التالي :
عن يحيى بن جعفر بن العاصم عن أبيه عن جده : قال : ( حججت و معي جماعة من أصحابنا فأتيت المدينة فقصدنا مكانا ننزله فاستقبلنا غلام لأبي الحسن موسى بن جعفر ( عليه السلام ) على حمار له يتبعه الطعام ، فنزلنا بين النخل و جاء و نزل و اتى بالطشت و الماء و الاشنان ( ما تغسل به الأيادي من الحمض ) فبدأ بغسل يديه و ادير الطشت عن يمينه حتى بلغ آخرنا ثم أعيد إلى من على يساره حتى أتى إلى آخرنا ثم قدم الطعام فبدأ بالملح ، ثم قال : كلوا بسم الله الرحمن الرحيم ثم ثنى بالخل ، ثم أتى بكتف مشوي ، فقال : كلوا بسم الله الرحمن الرحيم فإن هذا طعام كان يعجب رسول الله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) ثم أتى بالخل و الزيت فقال : كلوا بسم الله الرحمن الرحيم فإن هذا طعام كان يعجب فاطمة عليها السلام ، ثم أتى بسكباج 25 فقال : كلوا بسم الله الرحمن الرحيم فهذا طعام كان يعجب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ثم أتى بلحم مقلو فيه باذنجان فقال : كلوا بسم الله الرحمن الرحيم فإن هذا الطعام كان يعجب الحسن بن علي ( عليه السلام ) ثم أتى بلبن حامض قد ثرد فيه فقال كلوا بسم الله الرحمن الرحيم فإن هذا طعام كان يعجب الحسين بن علي ( عليه السلام ) ثم أتى باضلاع باردة فقال : كلوا بسم الله الرحمن الرحيم فإن هذا طعام كان يعجب علي بن الحسين ( عليه السلام ) ثم أتى بجبن مبزر ( فيه توابل ) فقال : كلوا بسم الله الرحمن الرحيم فإن هذا طعام كان يعجب محمد بن علي ( عليه السلام ) ثم أتى بتور ( إناء من حجر ) فيه بيض كالعجة فقال كلوا بسم الله الرحمن الرحيم فإن هذا طعام يعجب أبي جعفر ( عليه السلام ) ثم أتى بحلواء فقال : كلوا بسم الله الرحمن الرحيم فإن هذا طعام كان يعجبني . . ) 26 .
فالحديث ناظر إلى أن تلك الأطعمة كانت ” تعجبهم ” و هذه مسألة ذوقية إلا انها لا تعني الاستجابة الدائمة لهذا الإعجاب و يظهر الأثر في أن هذا الإعجاب لا يمنع المعصوم من التخلي عنه لسائل أو فقير و لا يمتلك ذلك الطعام . . فقد كان علي بن الحسين ( عليه السلام ) يعجبه العنب فاتته جارية له بعنقود عنب فوضعته بين يديه فجاء سائل فأمر به فدفع إليه فوشى غلامه بذلك إلى أم ولد له ، فأمرته فاشتراه من السائل ثم أتته به فوضعته بين يديه فجاء سائل فسأل فأمر به فدفع إليه ففعلت ذلك ثلاثا فلما كانت الرابعة أكله 27 .
بل ربما قلنا أن الأمر أظهر إذا كان يرتبط بضيافة الأصحاب و توضيح الأحكام الشرعية .
فقد روى أبو خالد الكابلي قال : دخلت على أبي جعفر ( عليه السلام ) فدعا بالغداء فأكلت طعاما ما أكلت أنظف منه و لا أطيب ، فلما فرغنا من الطعام قال : كيف رأيت طعامنا ؟! قلت : ما رأيت أنظف منه قط و لا أطيب و لكني ذكرت الآية في كتاب الله ( لتسألن عن النعيم ) فقال أبو جعفر ( عليه السلام ) : إنما تسألون عما انتم عليه من الحق 28 .
ج ـ بين الاعتدال و الجوع المضعف
هناك حدان في ما يرتبط بالطعام : البطنة و قد مر ذكر آثارها السلبية في حياة الإنسان سواء على صحته أو نفسيته أو فاعليته ، و قد أكدت الأحاديث على ضرورة تجنب البطنة . و هناك حد آخر على الطرف المقابل تماما و هو الجوع المضعف ، و هو بدوره غير محبذ لأنه ينتهي إلى الإضرار السابقة و لكن من زاوية أخرى ، ذلك ان هذا النوع من الجوع يسلب الإنسان القدرة على الحركة ، ما دام جسمه لا يجد الطاقة الغذائية الكافية لتحريك فاعليات أعضائه ، و كذلك فكما أن المعدة إذا امتلأت نامت الفكرة و الحكمة ، فإن المعدة أيضا إذا شعرت بعض الجوع ، و معاناة الحرمان التام فإنها لا تسمح للفكرة أن تأتي حتى تنام !! و يتحدث أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مبينا هذه المعادلة ذات الطرفين بقوله عن القلب : ( لقد علق بنياط هذا الإنسان بضعة هي أعجب ما فيه : و ذلك القلب ، و ذلك أن له مواد من الحكمة و أضدادا من خلافها . . فإن سنح له الرجاء أذله الطمع . . و إن أجهده الجوع قعد به الضعف و إن أفرط به الشبع كظته البطنة فكل تقصير به مضر و كل إفراط له مفسد ) 29 .
و ما ورد من الأحاديث التي تمدح الجوع و تعتبر أن ميراثه الحكمة ، و رده القلب ، و ما إلى ذلك . .
و ما ورد من أن النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) و الأئمة كانوا يفضلون الجوع على الشبع ، فإنما هو محمول على الجوع المقابل للبطنة ، لا الجوع المضعف الذي يقعد بالإنسان عن أداء مهماته و مسؤولياته إذ كما الإفراط في الطعام مذموم لآثاره السلبية ، فكذلك التفريط فيه بالكامل مذموم لآثار أخرى . وربما يسأل القارىء إذا كان الأمر كذلك فلماذا لم تأت الأحاديث في ذم الجوع المضعف ، كما أتت في ذم البطنة و الشره ، و الجواب على ذلك أولا وجود هذا النوع من الأحاديث ، و ثانيا إن موضع الابتلاء بالجوع المضعف قليل عند الناس ، بينما الابتلاء الأكبر هو حب الطعام ، و كثرة الأكل ، فبينما يشكل ضغط الحاجة إلى الأكل صمام أمان بالنسبة للذين يمارسون الجوع المضعف ، لا يوجد صمام أمان بالنسبة لمن يبالغون في الأكل ، سوى الأمراض و ( بعد خراب البصرة ) !!
و هذا نظير معنى الحديث المروي عن زين العابدين عليه السلام : اني لا أوصيكم بالدنيا فإني اعلم انكم مستوصون بها خيرا و لكن أوصيكم بالآخرة .
و لذلك ينبغي النظر إلى الأحاديث بعين الاعتدال ، فلا جوع يضعف المرء عن ممارسة أدواره ، و يمنعه من التفكير في قضاياه ـ لصالح التفكير في الطعام ـ و لا بطنة تتحول إلى منبع للأمراض الجسمية و النفسية .
د ـ الطعام اداب و سنن
بالرغم من أن مسألة الطعام هي استجابة لنداء الجسد لتلبية حاجته في رفع الجوع و الضعف الناتج عنه ، إلا ان الإسلام أحاطها بمجموعة آداب و سنن ، فاعطاها ـ بهذه الآداب ـ أبعادا اجتماعية ، و عبادية . .
و الفرق بين من يلتزم بهذه الآداب و من لا يلتزم ، بعد اشتراكهما في تلبية حاجة الجسد و رفع الجوع ، ان الأول يجعل من تناول الطعام عبادة ، نعم تناول الطعام و الأكل عبادة ، و ارتقاء في الدرجات الدينية ، و بينما الآخر الذي يمارس نفس العمل و يتناول نفس الطعام و ربما المقدار ، لا يحصل على ذلك .
فهلم معي ـ عزيزي القارىء ـ للتعرف على الآداب و السنن التي مارسها المعصومون عليهم السلام و دعوا إليها ، لعلنا بمعرفتها نمتلك احد أسباب تطبيقها في حياتنا :
1 ـ السنن العبادية
و تبدأ بالنية ، ذلك أن النية بما هي ربط للممارسات التفصيلية بالأهداف الكبرى التي يحملها الإنسان تحتل جانبا مهما من التفكير الديني حتى صارت خيرا من عمله و حتى صارت لكل امرئ ما نوى ) ، و لأنها كذلك فقد ندب المسلم لأن يكون له نية حتى في النوم و الأكل فعن الرسول ( صلى الله عليه و آله و سلم ) انه قال لأبي ذر ( يا أبا ذر ليكن لك في كل شيء نية حتى في النوم و الأكل ) 30 ، أي إنك عند ما تنوي انك تأكل هذا الطعام لكي تحصل على قوة توجهها في عبادة الله ، و السعي في حوائج الناس ، فإنك بهذا الأكل المقترن بهذه النية تحصل على الثواب و الأجر ، بينما زميلك الذي يجلس إلى جانبك على نفس الخوان و يأكل ذاهلا عن هذه النية لا يحصل على مثل أجرك !!
و جاء في روايات أخرى التأكيد على ( المعرفة بما يأكل ) و هذا عنوان يتسع لكثير من المفردات و المعاني ، فقد ينطبق على معرفة حلية هذا الطعام و عدم كونه محرما أو مشتبها و مراعاة ألا يدخل الإنسان بطنه سوى الحلال الطيب ، و قد يعني ذلك معرفة قدر هذه النعمة التي أنعمها الله عليه ، ذلك ان التفكير هنيهة في مراحل تكون هذه النعمة ( فاكهة كانت أو طعاما ) يوقف الإنسان على قدرة الله و عظمته الذي سخر كل شيء في الحياة له ، ﴿ فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا ﴾ 31 ، و كذلك الأذكار كالبسملة في البدء ، و الحمد في الختام ، فقد كان رسول الله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) إذا وضعت المائدة بين يديه قال : ( بسم الله اللهم اجعلها نعمة مشكورة تصل بها نعم الجنة ) و عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( اذكروا الله عز و جل عند الطعام و لا تلغوا فيه فانه نعمة من نعم الله يجب عليكم فيها شكره و حمده و أحسنوا صحبة النعم قبل فراغها ) . و أوصى ( عليه السلام ) ابنه الحسن : يا بني لا تطعمن لقمة من حار و لا بارد و لا تشربن جرعة إلا و أنت تقول قبل أن تأكله و قبل أن تشربه : ( اللهم أنني أسألك في أكلي و شربي السلامة من وعكه ( مرضه ) و القوة به على طاعتك و ذكرك و شكرك فيما أبقيته في بدني و أن تشجعني بقوته على عبادتك و ان تلهمني حسن التحرز من معصيتك ) . فإنك إن فعلت ذلك أمنت وعثه ( مشقته ) و غائلته 32 .
2 ـ الآداب الاجتماعية
بالرغم من أن الأكل عملية فردية عادة ، إلا أن لها جهات اجتماعية . لذلك أحيطت ببعض الآداب في هذا الجانب ، فكرهت الأحاديث أن تكون آثار الاطعمة ـ و روائح بعضها ـ غير المحبذة سابقة في الحضور لصاحبها ، فقبل وصوله للناس تصل تلك الروائح ، و هذه الأحاديث و إن لم تحرم هذه الاطعمة ، إلا ان المسلم عندما ينظر إلى هذه الأحاديث يستشعر الكراهة منها لهذه الحالة ، و مما يؤسف له أن بعض المسلمين يحضرون في المساجد و المحافل و المجتمعات دون ملاحظة لهذه المسألة ، فإذا بك تحضر إلى المسجد راجيا أن تشم العطور و الروائح الطيبة باعتبارها احد مصاديق الزينة في ( خذوا زينتكم عند كل مسجد ) و لكنك بدلا من ذلك تشم ( عطور ) الثوم و البصل و الكراث و ما إلى ذلك . فالرسول ( صلى الله عليه و آله و سلم ) لا يأكل الثوم تحريما له و إنما لأنه يناجي الملك ، و سئل الإمام الصادق ( عليه السلام ) عن أكل الثوم فقال : لا بأس بأكله بالقدر و لكن إذا كان كذلك فلا يخرج إلى المسجد 33 .
و كذلك فإن من الآداب الاجتماعية التي يقررها الإسلام تجنب ما يزري بالشخصية ، كالأكل في السوق مثلا بالنسبة لأشراف الرجال ، و يعتبره ( دناءة ) ، و بالفعل فإن تناول الطعام في السوق و إن كان غير محرم في ذاته إلا انه يكره لما يخلفه من آثار اجتماعية سيئة على شخصية الآكل . . فقد قال رسول الله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) ( الأكل في السوق دناءة ) .
و إذا اشترك الأكل مع قوم آخرين فإن عليه أن يراعي جملة من الآداب أيضا كأن لا ينظر إلى أكلهم و ان يأكل مما يليه ، و لا يقوم بحركات ـ في أكله ـ يثير اشمئزاز الجالسين معه كالعادة القبيحة المستحكمة من بعض الناس ( التجشؤ ) فتراهم بعد كل وجبة يبدؤون ( العزف ) على هذه النوتة !! مع تقزز الجالسين و نفورهم فقد نهى الرسول ( صلى الله عليه و آله و سلم ) أبا جحيفة عن ذلك ، لما يسببه من آثار أخروية إضافة إلى الآثار الاجتماعية الدنيوية فعن أبي جحيفة قال : أتيت رسول الله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) و أنا أتجشأ ، فقال : يا أبا جحيفة اخفض جشاءك فإن أكثر الناس شبعا في الدنيا أطولهم جوعا في يوم القيامة 34 .
3 ـ الآداب ا لحياتية
كما في الجانب العبادي و الاجتماعي ، فقد ندب المعصومون إلى الآداب الحياتية و هي تلك التي ترتبط ( بالكيفيات ) ، و قد يبدو للوهلة الأولى أن هذا ليس من شؤون المعصوم ( عليه السلام ) بل من شؤون الطبيب ، لكن لما كانت توجيهات المعصومين تهدف إلى سعادة الدنيا و الآخرة فقد كان لديهم توجيهات ترتبط بالعباديات ، و أخرى ترتبط بكيفيات الأعمال الدنيوية ، مما يضمن سلامة الإنسان و صحته . ما ستعرض إليه في الأسطر التالية هو من هذا النوع .
ففن تلك الآداب التأكيد على غسل اليد ، و بالرغم من أن هذا العمل اليوم أصبح من البديهيات لدى الكثير من الناس ، إلا انه بملاحظة الظروف التي جاء فيها هذا الحديث حيث البيئة العربية في الجاهلية التي لم تكن تقيم للنظافة وزنا كبيرا ، و كانت تعاني من شحة الماء ، فقد روي أن رسول الله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) كان يقول : من أحب أن يكثر خير بيته فليتوضأ عند حضور الطعام و بعده فإنه من غسل يده عند الطعام و بعده عاش ما عاش في سعة و عوفي من بلوى في جسده ، و عن الصادق ( عليه السلام ) رواية قريبة من ألفاظ هذه الرواية .
و من هذه الآداب تجويد المضغ ، ذلك أن احد مسببات المرض سوء مضغ الطعام ، و قد كتبت بعض المجلات الطبية مؤخرا أن الذين يأكلون . عادة في مطاعم الوجبات السريعة المنتشرة اليوم في الغرب هم أكثر تعرضا للإصابة بأمراض المعدة من غيرهم ، ذلك أن إجادة المضغ تعني تقليل العبء الواقع على المعدة في هضم الطعام ذلك لأنه يأتي مطحونا و شبه مهضوم بعصارات الفم ، بينما عندما يتناول الآكل طعامه مسرعا فإنه لا يتيح المجال لذلك الطعام ليستقر في فمه حتى يهضم أو يطحن !!
و كذلك من الآداب الاعتدال في الأكل و قد مر ذكر ذلك ، و أخيرا تخليل الأسنان لإخراج بقايا الطعام من بين الأسنان ، فقد روى الصادق ( عليه السلام ) عن رسول الله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) قال : ( تخللوا على اثر الطعام فإنه مصحة للفم و النواجذ و يجلب الرزق على العبد ) . و من المعلوم ان بقايا الطعام ـ خصوصا اللحوم ـ إذا استقرت بين الأسنان لساعات فإنها تصبح آنئذ بؤرة للبكتريا و الجراثيم المضرة ، مما يؤدي إلى إصابة اللثة و تسوس الأسنان . .
ونختم بحثنا هذا بالتيمن بذكر حديثين يحتويان على آداب جامعة :
فعن الصادق ( عليه السلام ) عن آبائه عن الحسن السبط ( عليه السلام ) قال : ( في المائدة اثنتا عشر خصلة يجب على كل مسلم أن يعرفها : أربع منها فرض ، و أربع منها سنة ، و أربع منها تأديب ، فأما الفرض : فالمعرفة و الرضا و التسمية و الشكر ، و أما السنة : فالوضوء 35 قبل الطعام و الجلوس على الجانب الأيسر ، و الأكل بثلاث أصابع و لعق الأصابع ، و أما التأديب فالأكل مما يليك و تصغير اللقمة و المضغ الشديد و قلة النظر في وجوه الناس ) 36 .
و عن ابن عمر قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) : إذا وضعت المائدة بين يدي الرجل فليأكل مما يليه و لا يتناول مما بين يدي جليسه و لا يأكل من ذروة القصعة فإن من أعلاها تأتي البركة و لا يرفع يده و إن شبع فإنه إن فعل ذلك خجل جليسه و عسى أن يكون له في الطعام حاجة 37 .
- 1. القران الكريم : سورة القصص ( 28 ) ، الآية : 24 ، الصفحة : 388 .
- 2. نهج البلاغة : خطبة 165 .
- 3. سفينة البحار : 1 / 27 .
- 4. بحار الأنوار : 43 / 341 .
- 5. بحار الأنوار : 46 / 72 .
- 6. سفينة البحار : 1 / 75 .
- 7. مكارم الأخلاق : 169 .
- 8. المصدر السابق .
- 9. منتهى الامال الشيخ عباس القمي : 1 / 345 .
- 10. ميزان الحكمة : 1 / 117 .
- 11. نفس المصدر .
- 12. a. b. ميزان الحكمة : 1 / 123 .
- 13. مع الطب في القرآن الكريم : 131 د. عبد الحميد دياب و د. أحمد قرقور .
- 14. الغذاء لا الدواء : 613 .
- 15. شرح النهج : 19 / 186 .
- 16. مروج الذهب : 3 / 320 .
- 17. شرج النهج : 19 / 186 .
- 18. مروج الذهب : 3 / 185 .
- 19. المستطرف في كل فن مستظرف : 192 .
- 20. بحار الأنوار/ 59 .
- 21. مكارم الاخلاق : 146 .
- 22. سنن النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) : 178 .
- 23. نهج البلاغة : كتاب 45 .
- 24. ) يمكن الرجوع لكتاب ( مع الطب في القرآن الكريم ) و ايضا الاثر الهام للدكتور باكنزاد : اولين دانشكاه و آخرين بيامبر ( بالفارسية ) .
- 25. السكباج : ( معرب ) طعام يصنع من اللحم و الخل .
- 26. بحار الأنوار : 48 / 118 .
- 27. مكارم الأخلاق 174 .
- 28. وسائل الشيعة : 16 / 445 .
- 29. نهج البلاغة : حكم / 108 .
- 30. سفينة البحار : 2 / 629 .
- 31. القران الكريم : سورة عبس ( 80 ) ، الآيات : 24 – 29 ، الصفحة : 585 .
- 32. مكارم الاخلاق : 143 .
- 33. مكارم الاخلاق : 182 .
- 34. المصدر السابق : 149 .
- 35. سواء بمعناه اللغوي اي التنظيف ، او بالمعنى الاصطلاحي الشرعي ، و كلاهما يؤديان الى التنظيف .
- 36. مكارم الاخلاق : 141 .
- 37. كتاب الحياة الشخصية عند أهل البيت ( عليهم السلام ) للشيخ فوزي آل سيف