تأتي قضية السلام بين العرب و ( إسرائيل ) في طليعة السياسة الراهنة ، و بخاصة أن الولايات المتحدة الأمريكية متمثلة في شخصية الرئيس كلنتون قد ألقت بكل ثقلها السياسي في البين لفرض السلام على العرب و المسلمين فرضاً من دون أن يترك لهم الخيار في اختيار ما يرونه مصلحة للمبدأ و الأمة و الوطن في ضوء التعليم الشرعي الإسلامي ، و الموقف الأمريكي من الجمهورية الإسلامية في إيران لأنها ترفض السلام لعدم مشروعيته ـ هنا ـ إسلامياً أقوى شاهد لاستلاب الخيار المشار إليه من العرب و المسلمين .
و بغية أن نتعرف الرأي الفقهي الإسلامي في موضوع السلام و التطبيع بين المسلمين و اليهود في ( دويلة إسرائيل ) المزعومة علينا أن نمهد لذلك ببيان نوعية ملكية أرض فلسطين وفقاً لأحكام التشريع الإسلامي ، ذلك أن الحكم سلباً أو إيجابًا يتوقف على معرفة طبيعة علاقة المسلمين بأرض فلسطين لأنها موضوع الحكم الشرعي الذي نحاول التماسه في الرأي الفقهي للقضية ، لأننا متى فهمنا حقيقة الموضوع اتضح أمامنا واقع الحكم .
فمما لا خلاف فيه ـ تأريخياً ـ أن فلسطين كانت قبل الفتح الإسلامي تحت حكم الروم .
و مما لا خلاف فيه أن فتح المسلمين لها كان عنوة ـ كما يعبر عنه فقهياً ـ ، أي أنه كان فتحاً عسكرياً .
و في الفقه الإسلامي تُعرّف الأرض المفتوحة عنوة بتلك الأرض المفتوحة من قبل الجيش الإسلامي بعد حرب عسكرية بينه و بين أصحابها .
و من الثابت تاريخياً أن فلسطين ـ كما أشرت ـ فتحت عن طريق دخول الجيش الإسلامي إليها بقيادة عمرو بن العاص و في عهد الخليفة عمر بن الخطاب ( رض ) و بعد حرب عسكرية بين الجيش الإسلامي و الجيش البيزنطي .
و يبحث في حكم هذه الأرض فقهياً في موضوع ( ملكية الأرض ) و موضوع ( الخراج ) ، و ربما في غيرهما .
و في هذين الموضوعين يقسم الفقهاء المسلمون الأرض باعتبار فرض ضريبة الخراج عليها و طبيعة ملكية أهلها لها إلى قسمين :
* الأرض المفتوحة صلحاً .
* الأرض المفتوحة عنوة .
و لأننا هنا نريد أن نعرف نوعية ملكية الأرض شرعا أُشيرُ لهذا ثم أذكر ما يوثقه من المصادر الفقهية الموثقة .
ففي أرض الصلح يقر الإسلام أصحابها على ملكيتها ، و يقر لهم التصرف فيها تصرف المالك في ملكه فلهم بيعها و إجارتها و هبتها و ما إلى ذلك من تصرفات مشروعة .
رأي المذهب السني
و يتلخص في أن للإمام الخيار بين أن يقسمها بين الغانمين أو يوقفها على المسلمين عامة .
و إذا لم يقسمها الإمام بين الغانمين تعين الحكم الثاني و هو وقفيتها للمسلمين .
و هو الرأي المعروف ، و سأشير في ما بعد إلى الخلاف في المسألة .
رأي المذهب الشيعي الإمامي
و هو و من غير خلاف بين فقهاء المذهب ـ لا يجوز تقسيمها بين الغانمين و يجب أن توقف لصالح المسلمين .
يقول الشيخ المنتظري في كتابه ( دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية : 3/182 ط 1 سنة 1412 هـ ـ 1991م ) : ” الأراضي المفتوحة عنوة و قهراً التي هي قسم من غنائم الحرب ، لا إشكال عندنا في عدم تقسيمها بين المقاتلين ، بل يجب أن تبقى وقفاً على مصالح المسلمين ، و قد تطابقت على ذلك فتاوى أصحابنا و رواياتهم ” .
و الفقه الإمامي يستند في هذا الرأي إلى الأحاديث المروية عن أئمة أهل البيت : و منها :
1 . ما رواه الكليني عن أبيه عن حماد بن عيسى عن بعض أصحابه عن أبي الحسن الكاظم ( عليه السلام ) : ” وَ الْأَرَضُونَ الَّتِي أُخِذَتْ عَنْوَةً بِخَيْلٍ وَ رِجَالٍ فَهِيَ مَوْقُوفَةٌ مَتْرُوكَةٌ فِي يَدِ مَنْ يَعْمُرُهَا وَ يُحْيِيهَا وَ يَقُومُ عَلَيْهَا عَلَى مَا يُصَالِحُهُمُ الْوَالِي عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِمْ مِنَ الْحَقِّ : النِّصْفِ أَوِ الثُّلُثِ أَوِ الثُّلُثَيْنِ ، وَ عَلَى قَدْرِ مَا يَكُونُ لَهُمْ صَلَاحاً وَ لَا يَضُرُّهُمْ ” 1 .
2 . ما رواه الطوسي بإسناده عن الحسين بن سعيد عن صفوان بن يحيى عن ابن مسكان عن محمد الحلبي قال : سئل أبو عبد الله الصادق ( عليه السلام ) عن السواد ما منزلته ؟
قال : ” هو لجميع المسلمين ، لمن هو اليوم ، و لمن يدخل في الإسلام بعد اليوم ، و لمن لم يخلق بعد ” .
3 . ما رواه الطوسي ـ أيضًا ـ عن الحسن بن محبوب عن خالد بن جرير عن أبي الربيع الشامي عن أبي عبد الله الصادق ( عليه السلام ) قال : ” لا يشتري من أرض السواد شيئاً إلاَّ من كانت له ذمة ، فإنما هو فيء للمسلمين ” .
4 . ما رواه الطوسي بإسناده عن الحسن بن محمد بن سماعة عن عبد الله بن جبلة عن علي بن الحارث بكار بن أبى بكر عن محمد بن شريح قال : سألت أبا عبد الله الصادق ( عليه السلام ) عن شراء الأرض من أرض الخراج فكرهه ، و قال : ” إنّما أرض الخراج للمسلمين ” .
فقالوا له : فإنه يشتريه الرجل و عليه خراجها .
فقال : ” لا بأس ، إلا أن يستحيي من عيب ذلك ” .
و كما وعدت أنتقلُ إلى استعراض الخلاف الفقهي السني في المسألة ، و سأقتصر على مصدرين هما : ( الموسوعة الفقهية ) الكويتية ، و كتاب ( المغني ) لابن قدامة المقدسي ، لأن فيهما عرضاً وافياً للمسألة :
ذكر في الموسوعة الآراء التالية :
1 . رأي الإمام مالك ، و هو أيضاً رواية عن أحمد بن حنبل : ” لا تقسم الأرض ، و تكون وقفاً على المسلمين ، يصرف خراجها في مصالحهم من أرزاق المقاتلة و بناء القناطر و المساجد و غير ذلك من سبل الخير .
و هذا إذا لم يرَ الإمام في وقت من الأوقات أن المصلحة تقتضي القسمة فله أن يقسمها على المقاتلين .
و الدليل عليه اتفاق الصحابة على ذلك ، حينما امتنع عمر عن تقسيم أرض السواد عندما طلب منه ذلك بلال و سلمان ” .
2 . رأي الإمام أبي حنيفة و الثوري ، و هو رواية ثانية عن الإمام أحمد بن جنبل ، و هو : ” الإمام مخير بين أن يقسمها على المسلمين المقاتلين أو يضرب على أهلها الخراج و يقرها بأيديهم ” .
و ذلك لأن كلا الأمرين قد ثبت عن رسول الله ( ص ) فقد ظهر على مكة عنوة و فيها أموال فلم يقسمها ، و ظهر على قريضة و النضير و غيرهما فلم يقسم شيئاً منها ، و قسم نصف خيبر على المسلمين و وقف النصف لنوائبه و حاجاته ، كما في حديث سهل بن أبي حثمة قال : ” قسم رسول الله ( ص ) خيبر نصفين : نصفاً لنوائبه و حوائجه ، و نصفاً بين المسلمين ، قسمها بينهم على ثمانية عشر سهماً ، رواه أبو داود و سكت عنه ” .
3 . رأي الإمام الشافعي و هو رواية عن الإمام أحمد أيضاً : ” أن الأرض تقسم بين المقاتلين كما يقسم المنقول إلا أن يتركوا حقهم منها بعوض كما فعل عمر مع جرير البجلي إذ إنه عوضه سهمه في أرض السواد أو بغير عوض ، و ذلك لقوله تعالى : ﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ … ﴾ 2 فإنها عامة في المنقول و الأرض ” .
أما إذا لم تقسم الأرض و تركت بأيدي أهلها ينتفع المسلمون بخراجها فهناك رأيان في التصرف فيها تذكرهما الموسوعة و هما :
1 . رأي جمهور الصحابة و الفقهاء : ” إنها أرض موقوفة ، لا يجوز بيعها و لا شراؤها و لا هبتها و لا تورث عمن وضع يده عليها من الكفار ” .
و ذلك لما روى الأوزاعي : أن عمر و الصحابة ( رض ) لما ظهروا على الشام أقروا أهل القرى في قراهم على ما كان بأيديهم من أرضهم ، يعمرونها و يؤدون خراجها للمسلمين ، و كانوا يرون أنه لا يصح لأحد من المسلمين شراء ما في أيديهم من الأراضي طوعاً أو كرهاً ” .
2 . رأي الإمام أبي حنيفة و صاحبيه أبي يوسف و الشيباني ” إنها ملك لهم ، لهم التصرف فيها بالبيع و الشراء و الهبة ، و يتوارثها عنهم أقاربهم ، و ذلك لما روى عبد الرحمن بن زيد أن ابن مسعود اشترى من دهقان أرضاً على أن يكفيه خراجها ” .
و في ( معجم المغني في الفقه الحنبلي ) ط1 سنة 1405 هـ ـ 1985 م ج 11 ص 297 ـ : ” حكم ما فتح عنوة : ما فتحه المسلمون عنوة ففيه ثلاث روايات :
* إحداهن : أن الإمام مخير بين قسمتها على الغانمين ، و بين وقفها على جميع المسلمين .
* الثانية : أنها تصير وقفاً بنفس الاستيلاء عليها ، و على ذلك اتفاق الصحابة .
* الثالثة : أن الواجب قسمتها ” .
” و معنى وقفها : أنها باقية لجميع المسلمين يؤخذ خراجها و يصرف في مصالحهم و لا يختص أحد بملك شئ منها ” .
هذا على مستوى النظرية ، أعني أننا نستفيد من هذا الاختلاف في الرأي الفقهي لو قامت الجيوش الإسلامية بفتح شيء من البلدان غير الإسلامية ، فلولي الأمر العمل في ضوء هذه النظريات في المسألة تقليداً أو اجتهاداً .
أما على مستوى التطبيق ـ حالياً ـ بالنسبة إلى أرض فلسطين حيث هي قضية تاريخية حدث فتحها و حسم الأمر فيها في حينه ، ينظر ما الذي طبقه الإمام في حقها و يسار عليه .
و من هنا لا بدّ من معرفة موقف الخليفة عمر بن الخطاب منها بعد فتحها : هل قسمها على الغانمين أو أنه أبقاها وقفاً على المسلمين ؟
و بالنسبة إلى كل واحدة من الحالتين ما هو موقفنا نحن المسلمين ـ الآن ـ من ناحية شرعية ؟
جاء في ( المغني 2/307 ) ما نصه : ” و لم نعلم أن شيئاً مما فتح عنوة قسم بين المسلمين إلا خيبر ، فإن رسول الله ( ص ) قسم نصفها فصار ذلك لأهله ، لا خراج عليه .
و سائر ما فتح عنوة مما فتحه عمر بن الخطاب ( رض ) و من بعده ، كأرض الشام و العراق و مصر و غيرها لم يقسم منه شيء .
فروى أبو عبيد في ( الأموال ) : أن عمر ( رض ) قدم الجابية فأراد قسمة الأرض بين المسلمين فقال له معاذ : و الله إذاً ليكونن ما تكره ، إنك إن قسمتها اليوم صار الريع العظيم في أيدي القوم ثم يبيدون فيصير ذلك إلى الرجل الواحد و المرأة ثم يأتي بعدهم قوم آخرون يسدون من الإسلام مسداً و هم لا يجدون شيئاً فانظر أمراً يسع أولهم و آخرهم ، فصار عمر إلى قول معاذ ” .
و للمزيد و التأكيد تراجع الصفحات 54 ، 55 ، 56 من الجزء 19 من الموسوعة الفقهية الكويتية .
و هذا يعني ـ و بوضوح ـ أن كلمة الفقهاء المسلمين متفقة على أن أرض فلسطين وقف للمسلمين عامة ، من كان موجوداً منهم عند الفتح الإسلامي لها ، و من سيوجد حتّى تقوم الساعة .
و أن الرأي الفقهي في المسألة واحدٌ لا خلاف فيه . و عليه :
ما هو الموقف الشرعي للمسلمين منها بعد أن اغتصبها اليهود؟
هذا ما سنحاول أن نتبينه في ما بعد .
و قبل الإجابة عن السؤال لا بدّ من إلقاء الضوء الكاشف على طبيعة و هوية الاحتلال الإسرائيلي لأرض فلسطين لما له من مدخلية مباشرة في تحديد الجواب .
و لن أثقل البحث ـ أو المقال بالأحرى ـ بالإكثار من ذكر المصادر التي تعرضت لبيان طبيعة و هوية الاحتلال الإسرائيلي ، أذكر النتائج المهمة التي توصل إليها الأستاذ رفيق شاكر النتشة في دراسته الموضوعية الموثقة ، و التي أسماها :
( الاستعمار و فلسطين ـ إسرائيل مشروع استعماري ) .
قال في ( التمهيد ) ـ ص 11 من ط 2 ـ : ” لقد أردت أن أؤكد في هذا البحث بالأدلة التي تمكنت من الحصول عليها أن هذا المشروع هو مشروع استعماري في الأساس ، و أن أفكاره و تنظيمه و تخطيطه لم يكن في البداية يهودياً إذ سبق الصهاينة غير اليهود ، الصهاينة اليهود في طرحه و العمل له و وضعه موضع التنفيذ ، و لم يأت الصهاينة اليهود إلا متأخرين بدورهم كعملاء و أجراء للدول الاستعمارية صاحبة هذا المشروع ” .
و الدول الاستعمارية صاحبة المشروع التي يشير إليها ـ كما يوضح هذا مفصلاً في عدة فصول من الكتاب ـ هي : فرنسا و ألمانيا و إيطاليا و بريطانيا و أمريكا .
” و عندما نجحت الدول الاستعمارية نتيجة للجهود المتواصلة التي قامت بها بريطانيا و أمريكا بإقامة ( دولة إسرائيل ) كثمرة للمشروع الصهيوني كان من الطبيعي أن تكون هذه الدولة قاعدة عسكرية للاستعمار الغربي و رأس جسر لعبورها إلى العالمين العربي و الإسلامي؛ لان هذه الدولة لم تكن إلا مشروعاً تجارياً استعمارياً من مشاريع الاستعمار في هذا العام ” ـ ص14 .
و اختيار فلسطين بالذات لتكون على أرضها هذه الدولة المشروع الاستعماري يرجع إلى أهمية موقع فلسطين من ناحية استراتيجية و اقتصادية؛ لأنها ” تتوسط القارات آسيا و أوروبا و أفريقيا ، و هي تتصل عبر البحر الأبيض المتوسط بأوربا ، كما تتصل بالطرق البرية إلى الشرق الأقصى و عبر خليج العقبة تتصل بأفريقيا ” ـ ص 18 .
” و أهمية الشرق الأوسط للعالم الحر بالغة إلى حد لا يحتمل المغالاة من الناحيتين العسكرية و الاقتصادية ” ـ ص 19 .
و كان الجنرال أيزنهاور قد كشف عن وعيه لمركز المنطقة الفريد عندما صرح قائلاً : ” و إذا نظرنا إلى مجرد القيمة الإقليمية لم نجد منطقة في العالم تفوق الشرق الأوسط من حيث الأهمية الاستراتيجية ” ـ ص 19 .
” و يقول الفريد ليلنتال الكاتب الأمريكي اليهودي : ففي عام 1838 كان 25% فقط من حاجات أوربا الغربية إلى البترول للأغراض العسكرية و الصناعية يستورد من الشرق الأوسط .
أما اليوم فإن حقول الزيت العربية تزود أوربا الغربية بأكثر من 90 % من هذه الحاجات ، و إذا ما وصدت أبواب البلاد العربية في وجه الغرب تصبح منطقة الدفاع عن العالم الغربي المعروفة باسم ناتو أو حلف الأطلسي الشمالي عاجزة إلى حد يدعو للرثاء ” ـ ص20 .
” و لذلك سعت الدول الاستعمارية إلى اتباع سياسة التفرقة في المنطقة و ذلك باستغلال القوميات و الطوائف و العصبيات من أجل كسر وحدة العالم العربي لتتمكن من السيطرة عليه و على العالم الإسلامي بعد ذلك ” ـ ص 21 .
و في ضوء هذا و باختصار تكون الإجابة :
يجب على المسلمين العمل من أجل استرجاع أرض فلسطين بكاملها كما لا يجوز التعامل مع هذه الدولة التي تمثل القاعدة الاستعمارية للدول الغربية .
و موقف إيران من رفض السلام نابع من هذه الشرعية ، ذلك أن ( إسرائيل ) مغتصبة لأرض إسلامية هي للمسلمين عامة و بإجماع فقهاء المسلمين كافة .
و هنا لا بد من الكشف عن مفارقة مهمة وقع فيها غير واحد ممن برَّر قضية السلام مع ( إسرائيل ) شرعياً ، و هي الاستدلال بآية السلام ﴿ وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ 3 .
ذلك أن الاستدلال بهذه الآية لا يأتي في موضوعنا هذا ـ و هو قضية فلسطين ـ ، لأمرين هما :
1 . أن موضوع قضيتنا يختلف عن مصاديق هذه الآية الكريمة؛ ذلك أن قضية فلسطين أرض إسلامية استلبت ، فالحكم الشرعي يفرض استردادها و إعادتها إلى أصحابها الشرعيين و هم المسلمون .
و ما تصدق عليه الآية الكريمة هو الكفار المحاربون الذين هم في ديارهم و أوطانهم لا في دار للمسلمين اغتصبوها من المسلمين ، و سياق الآية في القرآن الكريم واضح كقرينة على ذلك .
2 . أن الحكم في آية السلم مرحلي انتهى بنزول سورة براءة .
و قد أوضح هذا المرحوم سيد قطب في تفسير ( في ظلال القرآن ـ دار الشروق ط 9 سنة 1400 هـ ـ 1980 م مج 3 ج 10 ص 1546 ) قال : ” و على أية حال فالذي ننتهي إليه ، أن قول الله تعالى : ﴿ وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ 3 ، لا يتضمن حكماً مطلقاً نهائياً في الباب ، و أن الأحكام النهائية نزلت في ما بعد في سورة براءة .
إنّما أمر الله رسوله أن يقبل مسالمة و موادعة ذلك الفريق الذي اعتزله فلم يقاتله ، سواء كانوا قد تعاهدوا أو لم يتعاهدوا معه حتّى ذلك الحين .
و أنه ظل يقبل السلم من الكفار و أهل الكتاب حتّى نزلت أحكام سورة براءة ، فلم يعد يقبل إلاّ الإسلام أو الجزية ـ و هذه هي حالة المسالمة التي تقبل ما استقام أصحابها على عهدهم ـ أو هو القتال ما استطاع المسلمون هذا ، ليكون الدين كله لله ” .
ثم يقول :
” و لقد استطردت بعض الشيء في هذا البيان ، و ذلك لجلاء الشبهة الناشئة من الهزيمة الروحية و العقلية التي يعانيها الكثيرون ممن يكتبون عن ( الجهاد في الإسلام ) فيثقل ضغط الواقع الحاضر على أرواحهم و عقولهم ، و يستكثرون على دينهم ـ الذي لا يدركون حقيقته ـ أن يكون منهجه الثابت هو مواجهة البشرية كلها بواحدة من ثلاث : الإسلام ، أو الجزية ، أو القتال ، و هم يرون القوى الجاهلية كلها تحارب الإسلام و تناهضه ، و أهله ـ الذين ينتسبون إليه و هم لا يدركون حقيقته و لا يشعرون بها شعوراً جدياً ـ ضعاف أمام جحافل أتباع الديانات و المذاهب الأخرى ، كما يرون طلائع العصبة المسلمة الحقة قلة ، بل ندرة ، و لا حول لهم في الأرض و لا قوة ، و عندئذ يعمد أولئك الكتّاب إلى ليّ أعناق النصوص ليؤولوها تأويلاً يتمشى مع ضغط الواقع و ثقله ، و يستكثرون على دينهم أن يكون هذا منهجه و خطته .
إنهم يعمدون إلى النصوص المرحلية ، فيجعلون منها نصوصاً نهائية ، و إلى النصوص المقيدة بحالات خاصة فيجعلون منها نصوصاً مطلقة الدلالة ، حتّى إذا وصلوا إلى النصوص النهائية المطلقة أوّلوها وفق النصوص المقيدة المرحلية ، و ذلك كله كي يصلوا إلى أن الجهاد في الإسلام هو مجرد عملية دفاع عن أشخاص المسلمين ، و عن دار الإسلام عندما تهاجم ، و أن الإسلام يتهالك على أي عرض للمسألة ، و المسألة معناها مجرد الكف عن مهاجمة دار الإسلام ، إن الإسلام ـ في حسهم ـ يتقوقع ، أو يجب أن يتقوقع داخل حدوده ـ في كل وقت ـ و ليس له الحق أن يطالب الآخرين باعتناقه ، و لا بالخضوع لمنهج الله ، اللهم إلا بكلمة أو نشرة أو بيان ، أما القوة المادية ـ الممثلة في سلطان الجاهلية على الناس ـ فليس للإسلام أن يهاجمها إلا أن تهاجمه فيتحرك حينئذ للدفاع ” .
إنهم وعاظ السلاطين ، و من غير شك سيتعرون ثم ينهزمون أمام وعي الشعوب المسلمة المتنامي .
﴿ … وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ 4
- 1. الكافي : 1 / 541 ، للشيخ أبي جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الكُليني ، المُلَقَّب بثقة الإسلام ، المتوفى سنة : 329 هجرية ، طبعة دار الكتب الإسلامية ، سنة : 1365 هجرية / شمسية ، طهران / إيران .
- 2. القران الكريم : سورة الأنفال ( 8 ) ، الآية : 41 ، الصفحة : 182 .
- 3. a. b. القران الكريم : سورة الأنفال ( 8 ) ، الآية : 61 ، الصفحة : 184 .
- 4. القران الكريم : سورة الحج ( 22 ) ، الآية : 40 ، الصفحة : 337 .