اتصل بي شاب قبل أيام قريبة وطلب مني مساعدته في أمر يعتبره بمثابة الضرورة، فهو يسكن في منطقة تبعد حوالي 40 كيلو متر عن جامعة الملك فهد للبترول والمعادن التي يدرس فيها، وقد استعصى عليه إقناع والده بسكنه في الخبر في شقة مع بعض الطلاب المعروفين لدى والده بحسن خلقهم وطيب مسيرتهم.
تحدثت مع الأب تلفونيا، وأخبرته أن المبلغ المطلوب لسكن ولده هو 7000 ريال سنويا، وأن هذا المبلغ سيوفر عليه أخطار الطريق المزدحم، ويمنحه المزيد من الوقت للمذاكرة، ويجعله صديقا مخلصا لكتبه ومذكّراته الدراسية.
لكن الأب اعتذر لي بقوله: إني لا أوفر إلا 13000 ريال سنويا، وعادة ما أرصد هذا المبلغ لحج بيت الله الحرام.
ذكّرني هذا الأب بطفل من ذوي الاحتياجات الخاصة، كان يعاني من صعوبات تعليمية، وقد نُصح والده بمدرسة خاصة توفر خدمة محمودة لهذه الفئة، يخبرني قريب من أسرتهم أن إخوانه اجتمعوا معه واخبروه أن ما يوفره ويصرفه سنويا في الحج هو وزوجته يكفي لدراسة مثلى لصغيرهما المبتلى، لكنه امتنع وترك ابنه لمعاناته، وفضل الحج على كل شيء.
سأفرق قبل الولوج في المقال (وبغض النظر عن قانون الدولة الذي لا يسمح إلا بحجة واحدة كل خمس سنوات) بين من يعتاد الحج سنويا وهو قادر على ذلك بعد أن يقوم بكل التزاماته الواجبة والضرورية وبين من يعتاد الحج وهو في وضع أسري وحياتي مريض بسبب وضعه المادي.
فالأول ليس موضوعا لمقالي، والثاني هو مقصد المقال ومحل السؤال، فبعد أن تؤدي حجة الإسلام الواجبة عليك لماذا تذهب للحج وعليك ديون للناس، تلاحقك في يقظتك ومنامك؟
يقف بعض الناس في عرفة وسمعتهم بسبب ديونهم لا تقف على لسان، بل تلوكها الألسن، فهذا يطلبهم بمال ويماطلون في أدائه لقلة السيولة، وذاك ينتظر مبلغ إيجارهم فلا يصله لقلة ذات اليد، وثالث يلاحقهم في المحاكم وهم يتوارون عنه لضعف حالهم، وهكذا يقبلون لأنفسهم عيشة الهرب والاختباء، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
وقسم آخر من الناس تجده في كل سياحة دينية، فهو ينتهز فرص الإجازات ليسافر ويصرف المبالغ الكبيرة دون أن يفكر في تأمين سكن مستقر ومقبول لعائلته وأولاده، واعتقد جازما لو أن بعض ما يصرفه الواحد منا في السياحة الدينية سنويا وظف بشكل سليم وحكيم لأمكن للكثيرين ممن يسكنون الشقق المستأجرة أن يتوسعوا في بيوت يملكونها، فيرتاحون في حياتهم من ملاحقة المؤجرين، ويحفظون عيالهم من تقلبات الزمان.
إن وقوفنا إلى جانب أولادنا في متطلبات الزواج المالية، ومد أيدينا ليتعلموا في أفضل مكان ضمن قدراتنا المادية، وتوسيعنا على أسرنا في قضاياهم المعيشية، كل هذه الأمور هي محل لثواب الله ورضاه عنا، وهي عمار للدنيا بأسرة سعيدة وأولاد قادرين على الإفادة والعطاء، وعمار للآخرة بذرية صالحة يكون علمها وعطاؤها سندا لنا يوم الحساب.
إن الله سبحانه وتعالى الذي أمرنا بالحج الواجب والمندوب أمرنا كذلك بأداء الدين وأوصانا بأهلنا خيرا، منعنا من الإساءة لسمعتنا وكرامتنا، وحثنا على تعليم أبنائنا، وأكدّ علينا على لسان نبيه الكريم أن المؤمن القوي خير وأحب عند الله من المؤمن الضعيف1.
- 1. نقلا عن الموقع الرسمي لسماحة الشيخ محمد الصفار حفظه الله.