لقد تجاوزت البشرية ظاهرة الرق والاستعباد، التي كانت منتشرة في مختلف أنحاء العالم، ومن بدايات التاريخ البشري، بسبب الحروب والصراعات، وحوادث الخطف ووجود تشريعات قديمة تفرض عقوبة على بعض الجرائم، ثم جاءت أعمال القرصنة الأوربية منذ أواسط القرن الخامس عشر الميلادي، على شكل غارات وحملات خطف منظمة لأبناء القارة الأفريقية، ونقلهم إلى أميركا الشمالية ومناطق أوربا لبيعهم كعبيد أرقاء.
إلى أن شهد أواخر القرن الثامن عشر الميلادي بدايات التوجه لإلغاء الرق وتحرير العبيد، حيث أصدر مجلس الثورة الفرنسي سنة 1791م قراراً بإلغاء الرق في جميع المستعمرات الفرنسية، ومساواة جميع من فيها في الحقوق والواجبات مع تمتعهم بالجنسية الفرنسية.
لكن حين تولى نابليون الحكم، لاحظ انخفاض صادرات المستعمرات الفرنسية التي تعتمد على اليد العاملة الزنجية، فأصدر قراراً عام 1802م بالعودة إلى استرقاق الزنوج، فثار الزنوج في المستعمرات وقاوموا مدة ثلاث سنوات فقضى نابليون على ثورتهم وأعادهم إلى الرق.
وفي عام 1884م صدر قرار في فرنسا بإلغاء الرق في المستعمرات الفرنسية تماشياً مع قرارات مشابهة اتخذتها بريطانية والبرتغال، وهولندا والدنمارك.
وأصدر ابراهام لنكولن رئيس الولايات المتحدة الأميركية سنة 1863م إعلاناً بتحرير الرقيق، وكان ذلك من أسباب اغتياله عام 1865م.
وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وقعت الدول المشتركة في عصبة الأمم عام 1926م اتفاقية تقضي بملاحقة تجارة الرق والمعاقبة عليها، والعمل على إلغاء الرقيق بجميع صوره، وفي عام 1948م أصدرت هيئة الأمم المتحدة إعلاناً عالمياً تضمن حظر الرق وتجارة الرقيق1، وهكذا انتهى الرق وتخلصت البشرية من مآسيه.
ثم تجاوزت البشرية ظاهرة الاستعمار، والتي عانت منها أكثر شعوب العالم منذ القرن الثامن عشر الميلادي، حيث زحفت موجات بشرية من الأوربيين لتستوطن بلداناً كثيرة، أو تستولي عليها عسكرياً، لتتحكم في أمورها وتسيطر على مقدراتها.
وبعد أن تحركت الشعوب رافضة ثائرة، وتصاعدت مقاومتها للاستعمار، تجاوبت معها الجهود الدولية العالمية، وأصدرت الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة بتاريخ 14 ديسمبر 1960م قراراً تضمن مبدأ منح شعوب العالم غير المستقلة حق تقرير المصير. وأيدت هذا الاتجاه مؤتمرات دول عدم الانحياز. وفي نوفمبر 1961م أنشأت الأمم المتحدة لجنة خاصة لتصفية الاستعمار، ووافقت على إنشاء هذه اللجنة جميع الدول الأعضاء باستثناء بريطانيا والبرتغال وجنوب أفريقيا.
وأخيراً تجاوزت البشرية ظاهرة الاستعمار وانسحبت بريطانيا من جميع مستعمراتها، وانتهى الحكم العنصري في جنوب أفريقيا ولم يبق إلا الاحتلال الصهيوني، وتعويقه لإرادة الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال.
وتجد البشرية نفسها الآن في معركة التخلص من الديكتاتورية التي تعني إلغاء دور الناس ومشاركتهم في القرار السياسي، وفي تسيير شؤون حياتهم. لقد تجاوزت أغلب شعوب العالم هذه الحالة وأصبحت تتمتع بميزات النظام الديمقراطي الذي يتيح لها المشاركة السياسية، وحرية التعبير والرأي، ويفتح مجال التداول السلمي، لكن مجتمعات العالم الثالث، ومنها العالم الإسلامي، في معظمه، محروم من هذه الفرص.
هذا سبب رئيس في تكريس واقع التخلف والعنف ومظاهر الفقر والفساد.
وكما تجاوزت البشرية ظاهرة الرق، وظاهرة الاستعمار، بعد كفاح ونضال عالمي، فإنها ستتجاوز هذه الظاهرة في حقبتنا المعاصرة.
إن رقعة الديمقراطية تتسع عالمياً يوماً بعد آخر، و أصبحت الخيار الذي تتطلع إليه جميع الشعوب، وإذا كانت مصالح بعض الدول الكبرى ذات يوم تقتضي دعم الشمولية والاستبداد، فقد تغيّرت المعادلة الآن بفضل تطور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وأصبح الاستبداد عائقاً أمام الحركة.
والحديث هنا عن الديمقراطية باعتبارها آلية لتحقيق المشاركة الشعبية، وتوفير حرية التعبير، ولا اعتراض للإسلام على هذه المضامين، كما لا يحظر أي آلية مناسبة لتحقيقها، ولسنا ملزمين بحرفية تجارب الشعوب الأخرى، بل يمكننا الاستفادة من المناهج والأساليب بما لا يتعارض مع ثوابتنا الدينية.
ومن المؤسف أن تتركز حالة الممانعة للمسار الديمقراطي في العالم الاسلامي، وأن تتعنون ممارسات الإرهاب والعنف باسم الأمة والإسلام. مما أفسح المجال للحديث عن صدام الحضارات، وإظهار الإسلام كعائق لتقدم أتباعه ولاستقرار العالم، وأصبح ذلك مبرراً لكي تبحث المؤسسات الدولية والقوى العالمية واقع هذه المنطقة، وتطرح الحلول والمشاريع لتغييره وإصلاحه.
ومن أخطر القضايا المثارة في هذا السياق هو التمترس بالإسلام لتبرير التخلف السياسي أولتسويغ ممارسات الإرهاب والعنف. ومما يساعد على ترويج هذه الأقوال اتصاف المساحة الأوسع من تاريخ المسلمين بسمة الاستبداد، حيث كانت اشهر الدول الاسلامية المتعاقبة في التاريخ تحتكر السلطة بالقوة والغلبة…مما يمكننا القول معه إن هناك جذورا تاريخية للاستبداد ومدرسة فكرية لتأصيله وتشريعه.
لكن هناك ملاحظة مهمة، وهي أن الباحث الموضوعي يستطيع أن يفصل بين الواقع التاريخي السيئ للمسلمين، وبين حقيقة مفاهيم الإسلام وتشريعاته. ووجود مسارات أخرى في التاريخ الإسلامي ينتقد ما كان قائما، ويبشر بقيم العدالة والحرية وحقوق الإنسان برؤية دينية واعية، يؤكد مصداقية هذا الفرز المطلوب.
والدليل الأوثق والأصدق يتجلى في سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا كان النص الديني يحتمل أكثر من قراءة وتفسير، وإذا كان رأي الفقيه قابلاً للأخذ والردّ، فان سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وممارسته الفعلية لإدارة المجتمع الإسلامي الأول، تقدم الصورة الصحيحة الواضحة التي لا لبس فيها عن رؤية الإسلام ومنهجه في السياسة والحكم.
ولا أدري لماذا يستغرق البعض في الاهتمام ببعض القضايا الجانبية من السيرة النبوية، ويتغافل عن النهج الاساسي الذي اعتمده الرسول الكريم في إدارة المجتمع؟
إن القراءة الواعية للسيرة النبوية الشريفة في هذا السياق يمكنها أن تساعد الأمة في تجاوز آثار تاريخ الاستبداد، وفي مواجهة الآراء المحافظة المتزمتة، كما تؤصل لتوجهات التحديث والتطوير2.
- 1. الموسوعة العربية العالمية، ج11 ص258، الطبعة الثانية
- 2. الموقع الرسمي لسماحة الشيخ حسن الصفار (حفظه الله)، نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط 3 / 8 / 2004م – 5:19 م.