من حصائل الصراعات الفكرية بين حضارتنا الإسلامية و الحضارة الغربية الوافدة ، أن تطور أسلوب الدراسات النظرية الإسلامية ، و تطور نمط البحوث العلمية في المراكز و الجامعات الإسلامية ، حيث اخذ يتجاوز الأطر التقليدية في الدرس الشرعي المقصور على دراسة الكتب المقررة حوزوياً ، و الدوران في فلكها توضيحاً و تحشية و شرحاً ، إلى مس واقع حياة المسلمين الراهن ، و تحسس مشكلاتهم الاجتماعية على اختلاف ألوانها ، فكان أن امتزجت الفلسفة القديمة بالفلسفة الحديثة في خط مقارنة بينهما ناقدة و منتجة ، فقرأنا في مقدمة هذا كتاب ( فلسفتنا ) للشهيد الصدر ( قدست نفسه الزكية ) ، و كان ان طارح الفكرُ الاقتصادي الإسلامي الفكر الاقتصادي الرأسمالي و الفكر الاقتصادي الاشتراكي ، و من اضخم ما مثّل هذا و خرج بنتيجة انتصار الفكر الاقتصادي الإسلامي كتاب ( اقتصادنا ) للشهيد الصدر أيضا .
و كان ان رأينا الفقيه المرجع الذي حرّمت عليه قيود الحوزة الكلاسيكية و ضغوطها الدخيلة التطرق للسياسية حتى من خلال الكلمة الشفوية ، لان رجل الدين ـ كما يقول التخدير الاستعماري ـ لا علاقة له بالسياسية ، و لا تدخل له فيها ، يحاضر في موضوع الحكومة الإسلامية ، و تدون محاضراته و تنشر و تقرأ و يرجع إليها ، و ذلك ما كان في الكتاب الثائر ( الحكومة الإسلامية ) للإمام الخميني ( طيب الله ثراه ) .
إن هذا التطور في مجال الفكر الديني طرح و في قلب الساحات العلمية اكثر من قضية من قضايانا المعاصرة التي لم يقدر لها أن درست من قبل .
و لأنها أصبحت موضع حاجة و مما تعم به البلوى ـ كما يطلق عليها في لغة الفقه ـ يكون البحث فيها و دراستها دراسة وافية أمرا ضرورياً ، و ملحاً في ضرورته .
و من هذه القضايا مسألة الدولة و موقف الفرد المسلم مجتهداً و مقلداً تجاه ما تصدره من احكام دستورية و أنظمة أخرى تتفرع عنها .
و أيضا منها مسألة المرجعية و تحديد مفهومها تحديداً حياً يلتقي و متطلبات حياة المسلمين المعاصرة بكل ما تطورت إليه و بكل ما حدث فيها من تغيرات جذرية و هامشية .
من هنا كنت قد طرحت هاتين المسألتين في اكثر من محاضرة عامة و اكثر من ندوة فكرية عامة .
و لأني رأيت مجلة « الفكر الجديد » قد تبنت عن طريق الأقلام الواعية التي أسهمت بالكتابة فيها هذا الطرح آثرت أن اطرح حصيلة الفكرة على صفحاتها آملاً أن تكون بداية جادة لبحث هذا الموضوع الهام الذي يمس حاضر الأمّة و مستقبلها .
و بدءاً لا أراني بحاجة إلى أن أوضح أن المراد بالدولة الحكومة الشرعية في رأي الفقه الإسلامي ، و ان المراد بالمرجعية الزعامة الدينية عند الشيعة الإمامية ، لوضوح ذلك من قرائن و ملابسات الموضوع .
تحرير المسألة
و وفقاً لمنهج البحث الفقهي لابد من تحرير المسألة ، أو تنقيح الموضع ـ كما يعبر عنه في لغة الفقهاء ـ و ذلك لما يلقيه تحديد الموضع و توضيح المقصود منه من أضواء كاشفة تساعد الباحث في وضع خطوات البحث ، و السير الواعي في طريق الوصول إلى الحكم .
على أساس من هذا نقول : إن من الأحكام الشرعية ما تناط مسؤولية تشريعها و تطبيقها بالدولة ، تقوم الدولة عن طريق السلطة التشريعية المؤلفة من مجلس أو هيئة الفقهاء بتقنين مواد هذه الأحكام دستوراً و أنظمة ، ثم تقوم بتطبيقها عن طريق السلطة التنفيذية المؤلفة من الوزارات و فروعها .
و منها الأحكام الأخرى الفردية التي تخص الإنسان المسلم بصفته الفردية لا باعتباره مواطناً و عضواً في مؤسسة الدولة ، و هذه كأكثر العبادات ، و غير قليل من المعاملات .
و هنا يطرح السؤال الذي يحرر المسألة بتحديد نقطة و مرتكز البحث ، و هو : هل على المواطن في مثل هذه الحال إذا كان مجتهداً أن يعمل وفق اجتهاده حتى لو خالف اجتهاده حكماً من أحكام الدولة المشار إليها ، أو يعمل بحكم الدولة باعتباره مواطناً لان أحكام الدولة تسري على كل مواطن و تنفذ في حق جميع المواطنين دون استثناء .
وكذلك إذا كان مقلداً و اختلف رأي مرجعه في التقليد مع حكم الدولة ، هل له ان يعمل وفق تقليده أو عليه الأخذ بحكم الدولة ؟
هذا إذا كانت هناك دولة شرعية تتولى شؤون الأحكام العامة تشريعاً و تنفيذاً .
و إذا لم توجد دولة شرعية و كانت هناك مرجعية تقوم بدور القيادة العامة لكل أبناء الأُمّة الذين هم خارج حدود الدولة الشرعية .
فهل على الأفراد من مجتهدين و مقلدين الأخذ بحكم المرجعية في القضايا العامة حتى لو خالف اجتهادهم أو تقليدهم ؟
هذا هو تحرير المسألة ، و هو يتطلب منا منهجياً قبل الدخول في الخطوة التالية من خطوات البحث أن نوضح مجالاتها ، و هي :
1 ـ قد يعيش الإنسان المسلم في ظل دولة شرعية .
2 ـ قد يعيش في ظل دولة غير شرعية .
3 ـ و في الحالة الثانية قد تكون هناك مرجعية قيادية ، و قد لا تكون ، أي إنّه يعيش في كنف فقهاء مفتين لا يتمتعون بوظيفة الزعامة الدينية لافتقادهم مؤهلاتها و شروطها .
و في ضوئه يكون موضع السؤال المطروح هو فيما إذا كان الإنسان المسلم يعيش في ظل دولة شرعية ، أو في ظل زعامة دينية .
ثم يتفرع على السؤال سؤال آخر يرتبط بتحرير المسألة أيضاً ، و هو : ان الإنسان المسلم الذي يعيش خارج حدود الدولة الشرعية هل تشمله أحكام الدولة الشرعية ؟
أ ـ في حالة وجود زعامة دينية خارج حدود الدولة .
ب ـ في حالة عدم وجود زعامة دينية .
و نجلّي الموضوع أكثر ببعض الأمثلة :
* لو أصدرت الدولة قرارا بمقاطعة شركة من الشركات الأجنبية ، فهل على المسلمين الذين يقطنون خارج حدود الدولة الالتزام بهذا القرار ؟
* لو تعرضت الدولة الشرعية لاعتداء عسكري من طرف محارب . فهل يجب على المسلمين الذين يقطنون خارج حدود الدولة المبادرة و إعلان النفير لمناصرتها عسكرياً و الدفاع عنها ؟
أم يكفي المناصرة من مواقع أخرى و ذلك عن طريق الدعم المادي و الإعلامي و بعبارة أخرى هل يجب الوقوف دائماً في الخط الأول للجهاد دفاعاً عن دولة الإسلام و ان لم يكن الفرد المسلم يتمتع بالحقوق و الامتيازات في حدود تلك الدولة و لم يساهم في صياغة النظام من خلال البيعة و نحوها .
أم يكفي الوقوف في خطوط خلفية أخرى و إسناد الدولة الشرعية في معركتها ضد أعدائها .
تاريخ المسألة
لم يقدر لهذه المسألة و أمثالها إن بحثت بحثاً كافياً و وافياً يلم كل أطرافها و يشمل جميع فروعها .
اللهم إلا ما ذكر استطراداً أو بشكل مقتضب حول نفوذ حكم المجتهد على غير مقلديه من مجتهدين و مقلديهم .
و يرجع هذا إلى أن هذه المسألة لم تكن ـ سابقاً ـ مما تعم به البلوى .
و سبب كونها من المسائل غير المبتلى بها يعود إلى :
1 ـ عدم وجود دولة شرعية بالمعنى الخاص ، و عدم وضوح المرجعية لأن أمر تحديد وظائف المرجع كانت مرتبطة باجتهاده و رؤيته لواقع الحياة حوله .
2 ـ الثقافة الغربية و دور الإعلام في طمس معالم أمثال هذه الأفكار و المفاهيم في ذهنيات أبناء المسلمين .
أما الآن فالوضع يختلف تماماً عما سلف ، و ذلك لوجود الدولة الشرعية ، و تبلور مفهوم المرجعية إلى ما يتمش و متطلبات الحياة المعاصرة في أذهان الفئات المثقفة و الواعية بتأثير الصحوة الإسلامية المعاشة .
و من هنا كان على البحث الفقهي أن يثيرها و يعالجها استدلالاً و فتوى ، و على الدرس الفقهي أن يدرجها ضمن مواده العلمية و مقرراته الدراسية .
منظور المسألة
و أنا هنا لا أروم الإفتاء لأنه من شأن و اختصاص المعنيين به و المسؤولين عنه .
و إنّما أحاول ـ و محاولة متواضعة ـ أن أثير الحوار و النقاش في المسألة و حولها ، ليكون هذا نقطة الانطلاق في محاولة الوصول إلى النتيجة .
والقضية لا تنتهي ـ فيما أرى ـ في فتوى يصدرها فقيه وفق ما يصوره المستفتي له من واقع ، لانها اوسع و اعمق من هذا ، فهي تفتقر ـ و بكل إصرار ـ إلى دراسة علمية متأنية و شاملة .
وقد نفيد في بحثها من :
* مبدأ تقديم المصلحة العليا للإسلام و المصلحة العامة للمسلمين على المصلحة الخارجية .
هذا المبدأ المستفاد من مجموعة حوادث متفرقة هنا و هناك في التاريخ و الفقه ، و اعطت بتجميعها هذا المبدأ العام .
* مبدأ سيرة العقلاء .
ذلك أن تاريخ الأنظمة على مختلف مديات الحياة البشرية يعطي أن أحكام الدولة نافذة على الجميع ، و ان حكم الحاكم العادل الذي لم يجانب الصواب و العدل الاجتماعي جائز في حق الكل .
و عليه نقول :
1 ـ في ظل وجود دولة شرعية لا نحتاج إلى مرجعية قيادية ، و ذلك لان الدولة تقوم بمهمة القيادة .
و ان حكم الدولة نافذ على الجميع مجتهدين و غير مجتهدين .
و ان هذا لا يمنع من وجود مراجع تقليد يرجع إليهم في الأحكام التي لا تتعارض و أحكام الدولة ، كأكثر العبادات و غير قليل من المعاملات ـ كما ألمحت آنفاً .
2 ـ خارج حدود الدولة الشرعية لابد من وجود مرجعية قيادية «زعامة دينية» تتمثل :
أ ـ أما في شخص مجتهد واحد يتمتع بمؤهلات القيادة ، يتولى إصدار الفتاوى في الشؤون العامة ، و تنفذ فتاواه في حق الآخرين مجتهدين و غير مجتهدين .
و في غير الشؤون العامة يرجع إلى المجتهدين الآخرين الذين هم مراجع تقليد فقط أن كان لهم مقلدون .
ب ـ و أمّا في شخصية مؤسسة تتألف من اكثر من مجتهد و خبير و مستشار ، تتولى إصدار الأحكام في الشؤون العامة و متابعة قضايا المسلمين الفكرية و الاجتماعية و السياسية .
و بهذا ـ إن تم علمياً ـ تتحقق للمسلمين ، و بخاصة اتباع مدرسة أهل البيت ( عليهم السلام ) منهم وحدتهم و مصلحتهم في الحق و الحكم .
و الله تعالى ولي التوفيق و هو الغاية .