م.د. حيدر شوكان سعيد/جامعة بابل-كلية الدراسات القرآنية
يمكن عدّ العهد أو الدستور أو الميثاق – على اختلاف التسميات- الذي بعثه الإمام علي “عليه السلام” لمالك الأشتر عندما ولاه مصر عام 37هـ لادارة شؤونها -بوصفها من أهم أقاليم “دار الإسلام”- من أجمع وأغنى النصوص التاريخية الإسلامية في علم السياسة والاجتماع والاقتصاد والإدارة، وهو يعكس عمق التجربة النفسية، والقدرة الثقافية في فهم طبيعة الشعوب.
فقدم هذا العهد برنامجًا علميًا وعمليًا في القيادة والتدبير، وهو من أطول العهود التي كتبها الإمام “عليه السلام” في حياته، كما لم يعهد تاريخ المسلمين أن حظي بعهد أو رسالة حقوقية لأحد العلماء أو القادة في مجاراته من حيث التنوع في القراءة الثقافية، والسعة والشمولية في معرفة فلسفة التاريخ والحكم والحياة.
وقد لقي هذا العهد عناية مميزة من العلماء بالشرح والتوضيح، فألف في بيانه جماعة غير قليل. وقارن البعض بينه وبين بعض المفاهيم والقوانين الأوربية الحديثة كما حصل مع الأستاذ توفيق الفكيكي بكتابه “الراعي والرعية، المثل الأعلى للحكم الديمقراطي في الإسلام”. وإذا أردنا الحديث عن التفاصيل المعرفية الدقيقة في هذا العهد بجوانبه وحقوله المتنوعة لطال البحث وعمق، إِلَّا اننا سنقف عند بيان مفاهيم الرحمة والقوة، وكيف وظفها الإمام علي وصاغها، وسيتضح للقارئ من خلال تكشيف بعض النقاط المضيئة من كلامه: إن أجهزة الدولة في هذا العهد موضوعة للشعب ومصالحه فقط، وبكافة طبقاته ولا مزية لشريحة فيه مهما كانت نبيلة إِلَّا بكونها احدا شرائح مجتمع الدولة. وللحديث عن مفهوم القوة والرحمة ينبغي أن نقف على عنوانين أساسيين:
أولًا: المهام الركينة في الدولة الإسلامية
يبدأ هذا العهد ببيان مسؤوليات الدولة الرئيسة، أو خطوطها الإستراتيجية، والتي تتمثل بقوله “عليه السلام”: “هذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللّهِ عَلِىٌّ أَمِيرُ الْمُؤمِنينَ مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الأَشْتَرَ فِي عَهْدِهِ إِلَيْهِ، حِينَ وَلاَّهُ مِصْرَ: جِبَايَةَ خَرَاجِهَا، وجِهَادَ عَدُوِّهَا، واسْتِصْلاَحَ أَهْلِهَا، وعِمَارَةَ بِلاَدِهَا.”(1)
يقدم لنا الإمام هذه العناوين الأربعة بوصفها الحجر الأساس في بناء الدولة، فتغطي وتتسع لمستوى المفارقات التي تعيشها الأمة بالجوانب المتعددة فمنها: الاقتصادية المتمثلة بالخراج، وهو العنوان الضريبي، ومنها: الجانب الأمني المتمثل في حفظ الكيان الإسلامي، ومنها: الجانب الإنساني الثقافي الموسوم في استصلاح المجتمع بتنميته والارتفاع بوعيه ومسؤوليته، ومنها: الجانب المدني في اعمار الأرض وإحيائها.
وهذه العناوين المترابطة تلزم القيادة الماهرة التي تملك الرؤية الثقافية، والبصيرة في شؤون الحياة لتنظم وتكامل هذه الأركان بعضها مع البعض الآخر في بناء المجتمع، لذلك نجده يوصي الأشتر أن يختار الموظفين الأكفاء من أهل البيوتات الصالحة، وأن يسبغ “عَلَيْهِمُ اْلأَرْزَاقَ فَإنَّ ذلِكَ قُوَّةٌ فَإنَّ ذلِكَ قُوَّةٌ لَهُمْ عَلَى اسْتِصْلاَحِ أَنْفُسِهِمْ، وغِنًى لَهُمْ عَنْ تَنَاوُلِ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ، وحُجَّةٌ عَلَيْهِمْ إِنْ خَالَفُوا أَمْرَكَ أَوْ ثَلَمُوا أَمانَتَكَ. “(2)
. ولإيضاح أكثر أعرض لكل عنوان منها:
“جِبَايَةَ خَرَاجِهَا” (3):
تقع على عاتق الدولة مهام جسيمة، وملزمة في أدائها من الحفظ الأمني، وتقديم الخدمات الصحية والتعليمية، وعمارة البلاد بشق القنوات، وبناء المرافق الضرورية للدولة، وغيرها. وهذا يكلف الدولة أعباء مالية غير قليلة، ويلزم ذلك وجود احتياطي مالي مناسب للدولة، ولسد هذه الحاجة كانت الضرورة الاقتصادية تقتضي فتح نافذة الجباية الخراجية والتي تعني فرض الرسوم المالية على رعايا الدولة. لكن هذا الضريبة في نهج علي –وهو نهج الإسلام– لا تؤخذ بلا نوال، فاخذ الضريبة الخراجية يقابلها عمارة الأرض، فيقول في عهده: “ولْيَكُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ اْلأَرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلاَبِ الْخَرَاجِ لاِنَّ ذلِكَ لاَ يُدْرَكُ إِلاَّ بِالْعِمَارَةِ، ومَن طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَيْرِ عِمَارَة أَخْرَبَ الْبِلاَدَ وأَهْلَكَ الْعِبَادَ، ولَمْ يَسْتَقِمْ أَمْرُهُ إِلاّ قَلِيلًا” (4)
وهنا أمير المؤمنين يحث الحكومات على الاتكال إلى التجارة والإصلاح أكثر من الضريبة، وهذا ما يعانيه أصحاب الأراضي مع اغلب الحكومات. فلو طبق هذا العهد لكان الفلاح من اسعد الناس نصيبا نفسيا واقتصاديا.
ويزيد على ذلك، عنصر الرحمة في هذه الضريبة، والعفو والصفح، والتساهل مع أصحاب الأرض إذا شكوا ثقل المضروب عليهم مع عروض العلل التي تضر بزرعهم من غرق أو فساد أو تصحر بقلة ماء، ونحوها، موضحا أن هذه الرحمة ستزرع الثقة، وتبث الطمأنينة بين الحاكم ورعيته فإنها ستنعكس في عمارة البلاد بإخلاص أهلها وجدهم، فيقول (عليه السلام): “فَإِنْ شَكَوْا ثِقَلا أَوْ عِلَّةً أَوِ انْقِطَاعَ شِرْب أَوْ بَالَّة أَوْ إِحَالَةَ أَرْض اغْتَمَرَهَا غَرَقٌ أَوْ أَجْحَفَ بِهَا عَطَشٌ خَفَّفْتَ عَنْهُمْ بِمَا تَرْجُو أَنْ يَصْلُحَ بِهِ أَمْرُهُمْ. ولاَ يَثْقُلَنَّ عَلَيْكَ شَيْءٌ خَفَّفْتَ بِهِ الْمَؤونَةَ عَنْهُمْ فَإنَّهُ ذُخْرٌ يَعُودُونَ بِهِ عَلَيْكَ فِي عِمَارَةِ بِلاَدِكَ، وتَزْيِينِ وِلاَيَتِكَ، مَعَ اسْتِجْلاَبِكَ حُسْنَ ثَنَائِهِمْ، وتَبَجُّحِكَ بِاسْتِفَاضَةِ الْعَدْلِ فِيْهِمْ مُعْتَمِداً فَضْلَ قُوَّتِهِمْ بِمَا ذَخَرْتَ عِنْدَهُمْ مِنْ إِجْمَامِكَ لَهُمْ والثِّقَةَ مِنْهُمْ بِمَا عَوَّدْتَهُمْ مِنْ عَدْلِكَ عَلَيْهِمْ فِي رِفْقِكَ بِهِمْ، فَرُبَّمَا حَدَثَ مِنَ اْلأُمُورِ مَا إِذَا عَوَّلْتَ فِيْهِ عَلَيْهِمْ مِنْ بَعْدُ احْتَمَلُوهُ طِيبَةَ أَنْفُسِهِمْ بِهِ فَإِنَّ الْعُمْرَانَ مُحْتَمِلٌ مَا حَمَّلْتَهُ، وإِنَّمَا يُؤْتَى خَرَابُ اْلأَرْضِ مِنْ إِعْوَازِ أَهْلِهَا، وإِنَّمَا يُعْوِزُ أَهْلُهَا لاِشْرَافِ أَنْفُسِ الْوُلاَةِ عَلَى الْجَمْعِ وسُوءِ ظَنِّهِمْ بِالْبَقَاءِ، وقِلَّةِ انْتِفَاعِهِمْ بِالْعِبَرِ.(5)
“وجِهَادَ عَدُوِّهَا”
المعلوم أن المراد من الجهاد بالنحو الاصطلاحي هو: “بذل الوسع والطاقة لدفع العدوان الواقع أو المتوقع”(6)
فيشمل في ضوء هذا المفهوم البذل والوسع الحربي والفكري والإعلامي والدعوي والبياني والفني، الذي يحقق الغاية في حفظ الأمن الوطني والقومي ورعايته، وهو خلاف ما حاول البعض أن يقصر من خلاله الجهاد على العنوان القتالي، خالطًا -أما جهلًا أو تجاهلًا- بين الحرب والجهاد، فالحرب في أصل اللغة العربية تدور حول معنى واحد وهو القتال مع العدو.(7) وقد وردت كلمة الحرب في القرآن بمعنى القتال، قال تعالى: (كلما أوقدُوا نارًا للحربِ أطفأها الله)(8) بينما الجهاد ورد في القران الكريم بمعناه اللغوي الذي يتسع لا كثر من عنوان القتال.
فالسلطة الإسلاميَّة العليا هي من تشخص نوعية المواجهة والحفظ، فالجهاد وسيلة معتبرة في حماية الأمة بوجودها ومصالحها، وقد دل العقل على موجباته وأهميته دلالة قاطعة. فيكون الاعتناء به، لحفظه كرامة الأمة ضرورة ملحة، وهذا أيضًا يستوجب القيادة المحنكة التي وجدها أمير المؤمنين في رجل كمالك الأشتر، فيقول الإمام في مالك وهو يقدمه لأهل مصر: “أمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ عَبْداً مِنْ عِبَادِ اللَّهِ -لَا يَنَامُ أَيَّامَ الْخَوْفِ – ولَا يَنْكُلُ عَنِ الأَعْدَاءِ سَاعَاتِ الرَّوْعِ – أَشَدَّ عَلَى الْفُجَّارِ مِنْ حَرِيقِ النَّارِ – وهُوَ مَالِكُ بْنُ الْحَارِثِ أَخُو مَذْحِجٍ – فَاسْمَعُوا لَهُ وأَطِيعُوا أَمْرَهُ فِيمَا طَابَقَ الْحَقَّ – فَإِنَّهُ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ – لَا كَلِيلُ الظُّبَةِ ولَا نَابِي الضَّرِيبَةِ – فَإِنْ أَمَرَكُمْ أَنْ تَنْفِرُوا فَانْفِرُوا – وإِنْ أَمَرَكُمْ أَنْ تُقِيمُوا فَأَقِيمُوا – فَإِنَّهُ لَا يُقْدِمُ ولَا يُحْجِمُ – ولَا يُؤَخِّرُ ولَا يُقَدِّمُ إِلَّا عَنْ أَمْرِي – وقَدْ آثَرْتُكُمْ بِهِ عَلَى نَفْسِي، لِنَصِيحَتِهِ لَكُمْ – وشِدَّةِ شَكِيمَتِهِ عَلَى عَدُوِّكُمْ.”(9) وهذا النص كما هو واضح يستفاد منه اعتبار القوّة بسعة معناها في الوالي.
ومن المنطلقات والأبعاد السياسية في بناء الدولة كما جاء في العهد والتي لها صلة في الحقل الأمني، ما ورد في تأكيده على المنهج السلمي في العلاقات الخارجية، وإشاعة اللاعنف، وآثار ذلك في بناء المجتمع الأهلي، وعدم إنهاكه في حروب مستمرة، من دون أن يعني الصلح التسكين والاسترخاء والدعة، بل الحذر واليقظة هي الملازمة للقائد وجنوده، يقول الإمام عليه السلام: “وَلاَ تَدْفَعَنَّ صُلْحًا دَعَاكَ إِلَيْهِ عُدُوُّكَ وَلِلّهِ فِيهِ رِضاً; فَإِنَّ فِي الصُّلْحِ دَعَةً لِجُنُودِكَ ورَاحَةً مِنْ هُمُومِكَ، وأَمْناً لِبِلاَدِكَ، وَلكِنِ الْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ عَدُوِّكَ بَعْدَ صُلْحِهِ; فَإِنَّ الْعَدُوَّ رُبَّمَا قَارَبَ لِيَتَغَفَّلَ فَخُذْ بِالْحَزْمِ، واتَّهِمْ فِي ذلِكَ حُسْنَ الظَّنَّ.”(10)
واسْتِصْلاَحَ أَهْلِهَا
أي الأخذ بهم إلى نهج الصلاح والاستقامة الاجتماعية والأخلاقية، من خلال العمل على تعمير النفوس بتنمية المجتمع في قدراته وطاقاته، والارتفاع بمستوى وعيه. فلا يمكن الشروع في بناء الدول دون قيم تدفع المجتمع نحو مقاصد العدل والتكافل الاجتماعي، ومشاريع الخير والبناء التي يوفرها الاستصلاح. فتشمل هذه العبارة الصحة النفسية والبدنية والخدمات العامة والثقافة ونحوها من القضايا الاجتماعية.
وعِمَارَةَ بِلاَدِهَا
وهي تتسع للزراعة بإحياء الأرض وتثوير كنوزها، والصناعة باستثمار المواهب والخبرات، والتجارة والإسكان والمواصلات، وجميع الخدمات المدنية بما يتناسب وتطور حركة الحياة، والتي تنعكس بدورها في الحياة الاقتصادية والاجتماعية. فيشمل في عصرنا الحاضر –مثلا- شق الطرق، وإحداث المنتجعات السياحية، وبناء الجسور، والمستشفيات، والمدارس والجامعات، وتوفير التقنيات الحديثة وو… بما يوفر هيبة للبلد، ورفاه الشعب.
وإذا نظرنا في هذه الأركان لأدركنا أنها جاءت من أجل خدمة المجتمع فقط، وليس لخدمة الحاكم أو طبقة خاصة في الدولة.
ثانيًا: دلالات الرحمة في منهاج العهد
وينتقل الإمام علي “عليه السلام” بعد بيان الخطوط الإستراتيجية في الدولة إلى تفصيلات عهده ومسارات حكمه الرشيد، فيوضح مفاهيم ودلالات لا غنى لأي حاكم أراد الخير لأهله وملكه عنها، ومن أبرز هذه المضامين والدلالات:
أولًا: “إن الدولة وان كانت في الأصل مؤسسة اجتماعية، لأنَّ طبيعة الاجتماع تقتضيها لكنها في الإسلام تتخذ بالإضافة إلى صفتها الاجتماعية، طابعًا دينيًا أيضا، وذلك لأنَّ المجتمع الإسلاميّ مجتمع دينيّ في الدرجة الأولى، أي أن الذي يستلم في التنظيم: الاقتصادي والسياسي والعسكري هو الدين وحده”.(11)
بعبارة بديلة: أن هذه الدولة التي فرضتها طبيعة الاجتماع الإنساني، ذات بعد وصلة بالسماء، بالغيب. فهي وان كانت دينية تسير وفق قوانين السماء المتمثلة بالوحي غير أنها ليست ثيوقراطية تحكم باسم الدين، بعيدة عن مقاصد العدل والحرية. فلا تصادر الحريات ولا تكمم الأفواه، وتعمل من أجل خدمة الإنسان وسعادته، بمحبة وعدل، ويتضح هذا المفهوم من قول الإمام “عليه السلام”: “أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللّهِ، وإيثَارِ طَاعَتِهِ، وإتباع مَا أَمَرَ بِهِ فِي كِتَابِهِ: مِنْ فَرائِضِهِ، وسُنَنِهِ، الَّتِي لاَ يَسْعَدُ أَحَدٌ إلاّ بِاتِّبَاعِهَا، ولاَ يَشْقَى إِلاّ مَعَ جُحُودِهَا وإِضَاعَتِهَا; وَأَنْ يَنْصُرَ اللّهَ سُبْحَانَهُ بِقَلْبِهِ ويَدِهِ ولِسَانِهِ; فَإنَّهُ، جَلَّ اسْمُهُ، قَدْ تَكَفَّلَ بِنَصْرِ مَنْ نَصَرَهُ، إِعْزَازَ مَنْ أَعَزَّهُ. وَأَمَرَهُ أَنْ يَكْسِرَ نَفْسَهُ مِنَ الشَّهَوَاتِ ويَزَعَهَا عِنْدَ الْجَمَحَاتِ; فَإِنَّ النَّفْسَ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ، إلاَّ مَا رَحِمَ اللّهُ.”(12)
ثانيًا: يقول أمير المؤمنين عليه السلام: “يَا مَالِكُ أَنِّي قَدْ وَجَّهْتُكَ إِلَى بِلاَد قَدْ جَرَتْ عَلَيْهَا دُوَلٌ قَبْلَكَ مِنْ عَدْل وجَوْر، وَأَنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ مِنْ أُمورِكَ فِي مِثْلِ مَا كُنْتَ تَنْظُرُ فِيهِ مِنْ أُمُورِ الْولاَةِ قَبْلَكَ، ويَقُولُونَ فِيكَ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِيهِمْ.” (13)
وفي هذا النص حقيقة نفسية يستفيد منها جمع العاملين في وظائف الدولة بما فيهم الحاكم، “فهذا الحاكم أو المسؤول قبل أن يكون في ذلك المنصب كان ربما أخذ بعض المآخذ على ذلك الشخص الذي كان قبله. فإذا كان في منصبه وجب أن يلحظ تلك المآخذ فيرفعها عن نفسه، ثم يبسط نفسه للناس ليسمع المآخذ عليه من قبلهم فيطهر نفسه منها. وكم كان حظ الأمة سعيدًا لو تم الاستماع لنصيحة الإمام في هذا العهد.” (14)
ثالثًا: ” من ضرورات الحكم الصالح محبة الحاكم لرعيته وأن يشعرهم بذلك بعيدًا عن التكلف والتعالي، ” فهي ضرورة تمامًا كالعدل، وأي حاكم يلزم نفسه بالمحبة والعدل – فإنّه يجعل من رعيته أصدقاء له، وأحباء حتى ولو كان على غير دينهم، وبهذا تستقيم له الأمور، ويعم الأمن والهدوء بلا جيوش وجنود، لأن كل واحد من رعية السائس العادل هو قوة له وعدة، وجندي يحافظ ويدافع ” (15)
فالمخالطة الوجدانية تدفع الحاكم نحو معرفة حاجات الشعب وخلجاته، فيعمل لآمالهم، وهذه المخالطة لها أبعاد نفسية مهمة، وهي: إذا أحس المجتمع وتلمس عطف الحاكم ولطفه اتجاهه كان أسرع في استجاباته لأوامر الحاكم. يقول الإمام عليه السلام: ” وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، واَلْمَحَبَّةَ لَهُمْ، واللُّطْفَ بِهِمْ، ولاَ تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكلَهُمْ فَإنَّهُمْ صِنْفانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، أَوْ نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ.” (16)
ولكي تحصل هذه المخالطة، والمشاركة الوجدانية ينبغي للوالي أن يندمج في الأمة، وينفتح عليها ؛ ليبدد من الأذهان كل ما يتوهم فيه الظلم والحيف، فيبين للرعية خطته، ويشرح لهم منهاجه، ليؤيدوا سياسته عن قناعة ومعرفة؛ لأنَّ احتجابه عنها سبب لجهله بأحوالها، وسبب لانصراف القلوب عنه، والثقة به، يقول الإمام عليه السلام: ” فَلا يطَوِّلَنَّ احْتِجَابَكَ عَنْ رَعِيَّتِكَ; فَإنَّ احْتِجَابَ الْوَلاةِ عَنِ الرَّعِيَّةِ شُعْبَةٌ مِنَ الضِّيقِ، وقِلَّةُ عِلْم بِاْلأُمورِ، والإحْتِجَابُ مِنْهُم يَقْطَعُ عَنْهُمْ عِلْمَ مَا آحْتَجَبُوا دُونَهُ فَيَصْغُرُ عِنْدَهُمُ الْكَبِيرُ، ويَعْظُمُ الصَّغِيرُ، ويَقْبُحُ الْحَسَنُ ويَحْسُنُ الْقَبِيحُ، ويُشَابُ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ; إنَّمَا الْوَالِي بَشَرٌ لاَ يَعْرِفُ مَا تَوَارَى عَنْهُ النَّاسُ بِهِ مِنَ الأُمُورِ، ولَيْسَتْ عَلَى الْحَقِّ سِمَاتٌ تُعْرَفُ بِهَا ضُرُوبُ الصِّدْقِ مِنَ الْكَذِبِ.” (17)
رابعًا: “ان الدولة في فلسفة العهد تحترم شخصية الأمة وتسمح لها بمراقبة برامجها ومشاريعها الثقافية، والسياسية، والاجتماعية، ولها الحق في التعبير عن قضاياها ومشاكلها عبر وسائل الاحتجاج المشروعة، والتظاهر السلمي، والنقد البناء في وسائل الإعلام، ضمن الحدود الشرعية والقانونية، وعلى الحاكم أن ينفتح على مطالب الأمة وما يعانوه من مشاكل ومصاعب(18)، يقول”عليه السلام”: “وَإِنْ ظَنَّتِ الرَّعِيَّةُ بِكَ حَيْفًا فَأَصْحِرْ لَهُمْ بِغُذْرِكَ، واعْدِلْ عَنْكَ ظُنُونَهُمْ بِإصْحَارِكَ; فَإِنَّ فِي ذلِكَ رِيَاضَةً مِنكَ لِنَفْسِكَ ورِفْقاً بِرَعِيَّتِكَ، وإِعْذَارًا تَبلُغُ بِهِ حَاجَتَكَ مِنْ تَقْوِيمِهِمْ عَلَى الْحَقِّ.” (19)
خامسًا: ان جهاز الدولة من أجل أن يحقق أهدافه الموسومة بخدمة رعاياه، عليه أن ينتخب ويلتصق بالقيادة القوية والكفوءة، فالنزاهة والأمانة والقدرة من شروط رجالات الدولة، والإمام “عليه السلام” يشير في عهده لهذا العنوان بقوله أيضًا: “ثُمَّ الْصَقْ بِذَوِي “الْمُروءَاتِ” اْلأَحْسَابِ وأَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ والسَّوَابِقِ الْحَسَنَةِ، ثُمَّ أَهْلِ النَّجْدَةِ والشَّجَاعَةِ والسَّخَاءِ والسَّمَاحَةِ; فَاِنَّهُمْ جِمَاعٌ مِنَ الْكَرَمِ، وشُعَبٌ مِنَ الْعُرْفِ ” (20)
وهكذا نجده في جهاز القضاء – بوصفه من أبرز عناوين الدولة الثلاث- يشدد على المواصفات الدقيقة التي يلزم أن تتوفر في القاضي، فيقول: ” ثُمَّ آخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ مِمَّنْ لاَ تَضِيقُ بِهِ اْلأُمُورُ ولاَ تُمْحِكُهُ الْخُصُومُ ولاَ يَتَمَادَى فِي الزَّلَّةِ، ولاَ يَحْصَرُ مِنَ الْفَيءِ إِلَى الْحَقِّ إِذا عَرَفَةُ، لاَ تُشْرِفُ نَفْسُهُ عَلَى طَمَع ولاَ يَكْتَفِي بِأَدْنَى فَهْم دُونَ أَقْصَاهُ; وأَوْقَفَهُمْ فِي الشُّبُهَاتِ وآخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ، وأَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُرَاجِعَةِ الْخَصْمِ، وأَصْبَرَهُمْ عَلَى تَكَشُّفِ اْلأُمُورِ، وأَصَرَمَهُمْ عِنْدَ اتَّضَاحِ الْحُكْمِ; مِمَّنْ لاَ يَزْدَهِيهِ إِطْرَاءٌ، ولاَ يَسْتَمِيلُهُ إِغْرَاءٌ.” (21)
وما يميز الدولة في العهد أنها تقرب العلماء لتستفيد من آرائهم ومعارفهم في معالجة معضلات الدولة، فيقول عليه السلام: ” وَأَكْثِرْ مُدَارَسَةَ العُلَمَاءِ، ومُنَافَثَةَ الْحُكَمَاءِ فِي تَثْبِيتِ مَا صَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ بِلاَدِكَ، وإِقَامَةِ مَا اسْتَقَامَ بِهِ النَّاسُ قَبْلَكَ.” (22)
سابعًا: من مزايا هذا العهد الموازنة بين اللين والرحمة من جهة، وبين القوة والشدة بوجه المخالفين والمفسدين من جهة أخرى. ففي جانب من هذا العهد شاهدنا كيف تم تصوير الرحمة والعطف، وفي جانب آخر نجد أن التشريعات الجنائية، أو جرائم الفساد المالي في العقوبات واضحة وبينة، وهي تصب في مصلحة المجتمع أيضًا، حفظًا للنظام. فمثلًا يقول “عليه السلام” في لزوم تأديب المحتكرين: “ولْيَكُنِ الْبَيْعُ بَيْعًا سَمْحًا: بِمَوازِينِ عَدْل، وأَسْعَار لاَ تُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْبَائِعِ والْمُبْتَاعِ فَمَنْ قَارَفَ حُكْرَةً بَعْدَ نَهْيِكَ إِيَّاهُ فَنَكِّلْ بِهِ; وعَاقِبْهُ فِي غَيْرِ إِسْرَاف.”(23)
ومما تقدم اتضح لنا من خلال بعض ما اقتطفناه من هذا العهد أنه امتاز بالآتي:
أولًا: امتاز بالسعة والشمولية التي تعالج المفارقات التي يعيشها الإنسان المسلم والأمة المسلمة بمختلف المستويات الحياتية.
ثانيًا: ان الحكم إنما قام لصالح الأمة، ولا مزية لشريحة، أو طبقة خاصة دون أخرى أمام قانون وتشريع الدولة. فالإنسان هو العنوان الحضاري القيميَّ في المنظور الإلهي.
ثالثًا: عالج هذا العهد أبرز قضية شغلت الإنسان وأتعبته، وهي قضية استبداد الحكام وعلوهم في الأرض مفسدين، فكشف سبل الحل، والتعامل الحسن عندما يريد الحاكم إصلاح مجتمعه، ودوام الاستقرار.
رابعًا: أكد على لزوم انتقاء الكفاءات التي تتولى المفاصل الأساسية في أجهزة الدولة ممن تتمتع بالقوة والأمانة والسمعة الحسنة، ولا يشوب تاريخها العيب.
خامسًا: امتاز بالتوازن الهادئ والهادف بين الرحمة والعطف الوجداني، وبين القوة والصرامة في تنفيذ النظم القانونية، بلا محاباة لأي فرد أو جماعة.
المصدر: http://shrsc.com