مناسبات

الحَجّ بَراءَةُ مِنَ المُشرِكين

بَراءَةُ مِنَ المُشرِكين

﴿بَراءَةٌ مِنَ اللّهِ ورَسولِهِ إلَى الّذينَ عاهَدتُم مِنَ المُشرِكينَ * فَسيحوا فِي الأَرضِ أربَعَةَ أشهُرٍ واعلَموا أنّكُم غَيرُ مُعجِزِي اللّهِ وأنّ اللّهَ مُخزِي الكافِرينَ * وأذانٌ مِنَ اللّهِ ورَسولِهِ إلَى النّاسِ يَومَ الحَجّ الأَكبَرِ أنّ اللّهَ بَري ءٌ مِنَ المُشرِكينَ ورَسولُهُ فَإِن تُبتُم فَهُوَ خَيرٌ لَكُم وإن تَوَلّيتُم فَاعلَموا أنّكُم غَيرُ مُعجِزِي اللّهِ وبَشّرِ الّذينَ كَفَروا بِعَذابٍ أليمٍ﴾.

﴿قَد كانَت لَكُم اُسوَةٌ حَسَنَةٌ في ابراهيمَ والّذينَ مَعَهُ إذ قالوا لِقَومِهِم إنّا بُرَآءُ مِنكُم ومِمّا تَعبُدونَ مِن دونِ اللّهِ كَفَرنا بِكُم وبَدا بَينَنا وبَينَكُمُ العَداوَةُ والبَغضاءُ أبَدًا حَتّى تُؤمِنوا بِاللّهِ وَحدَهُ إلّا قَولَ إبراهيمَ لِأَبيهِ لَأَستَغفِرَنّ لَكَ وما أملِكُ لَكَ مِنَ اللّهِ مِن شَي ءٍ رَبّنا عَلَيكَ تَوَكّلنا وإلَيكَ أنَبنا وإلَيكَ المَصيرُ﴾.

العَيّاشِيّ: حَريزٌ عَن أبي عَبدِاللّهِ عليه السلام قالَ: إنّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه واله بَعَثَ أبا بَكرٍ مَعَ “بَراءَةٌ” إلَى المَوسِمِ لِيَقرَأَها عَلَى النّاسِ، فَنَزَلَ جَبرَئيلُ فَقالَ: لا يُبَلّغُ عَنكَ إلّا عَلِيّ، فَدَعا رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه واله عَلِيّا، فَأَمَرَهُ أن يَركَبَ ناقَةَ العَضباءِ، وأمَرَهُ أن يَلحَقَ أبا بَكرٍ فَيَأخُذَ مِنهُ “بَراءَةٌ” ويَقرَأَهُ عَلَى النّاسِ بِمَكّةَ. فَقالَ أبو بَكرٍ: أسَخطَةٌ؟ فَقالَ: لا، إلّا أنّهُ اُنزِلَ عَلَيهِ: لا يُبَلّغُ إلّا رَجُلٌ مِنكَ.

فَلَمّا قَدِمَ عَلى مَكّةَ وكانَ يَومُ النّحرِ بَعدَ الظّهرِ، وهُوَ يَومُ الحَجّ الأَكبَرِ قامَ، ثُمّ قالَ: إنّي رَسولُ رَسولِ اللّهِ إلَيكُم. فَقَرَأَها عَلَيهِم: ﴿بَراءَةٌ مِنَ اللّهِ ورَسولِهِ إلَى الّذينَ عاهَدتُم مِنَ المُشرِكينَ * فَسيحوا فِي الأَرضِ أربَعَةَ أشهُرٍ﴾ عِشرينَ مِن ذِي الحِجّةِ ومُحَرّمٍ وصَفَرٍ وشَهرِ رَبيعِ الأَوّلِ، وعَشرًا مِن شَهرِ رَبيعِ الآخَرِ. وقالَ: لا يَطوفُ بِالبَيتِ عُريانٌ ولا عُريانَةٌ، ولا مُشرِكٌ إلّا مَن كانَ لَهُ عَهدٌ عِندَ رَسولِ اللّهِ، فَمُدّتُهُ إلى هذِهِ الأَربَعَةِ الأَشهُرِ.
وفي خَبَرِ مُحَمّدِ بنِ مُسلِمٍ: فَقالَ: يا عَلِيّ، هَل نَزَلَ فِيّ شَي ءٌ مُنذُ فارَقتُ رَسولَ اللّهِ؟ قالَ: لا، ولكِن أبَى اللّهُ أن يُبَلّغَ عَن مُحَمّدٍ إلّا رَجُلٌ مِنهُ. فَوافَى المَوسِمَ فَبَلّغَ عَنِ اللّهِ وعَن رَسولِهِ بِعَرَفَةَ والمُزدَلِفَةِ ويَومَ النّحرِ عِندَ الجِمارِ، وفي أيّامِ التّشريقِ كُلّها يُنادي: ﴿بَراءَةٌ مِنَ اللّهِ ورَسولِهِ إلَى الّذينَ عاهَدتُم مِنَ المُشرِكينَ * فَسيحوا فِي الأَرضِ أربَعَةَ أشهُرٍ﴾ولا يَطوفَنّ بِالبَيتِ عُريانٌ.

أبُو الصّهباءِ البَكرِيّ: سَأَلتُ عَلِيّ بنَ أبي طالِبٍ عليه السلام عَن يَومِ الحَجّ الأَكبَرِ، فَقالَ: إنّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه واله بَعَثَ أبا بَكرِ بنِ أبي قُحافَةَ يُقيمُ لِلنّاسِ الحَجّ، وبَعَثَني مَعَهُ بِأَربَعينَ آيَةً مِن “بَراءَةٌ”، حَتّى أتى عَرَفَةَ، فَخَطَبَ النّاسَ يَومَ عَرَفَةَ، فَلَمّا قَضى خُطبَتَهُ التَفَتَ إلَيّ، فَقالَ: قُم يا عَلِيّ وأدّ رِسالَةَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه واله. فَقُمتُ، فَقَرَأتُ عَلَيهِم أربَعينَ آيَةً مِن “بَراءَةٌ”. ثُمّ صَدَرنا حَتّى أتَينا مِنى، فَرَمَيتُ الجَمرَةَ، ونَحَرتُ البُدنَةَ، ثُمّ حَلَقتُ رَأسي، وعَلِمتُ أنّ أهلَ الجَمعِ لَم يَكونوا حَضَروا خُطبَةَ أبي بَكرٍ يَومَ عَرَفَةَ، فَطَفِقتُ أتَتَبّعُ بِهَا الفَساطيطَ، أقرَؤُها عَلَيهِم.

تحقيق حول مراسم البراءة من المشركين

إعلان البراءة من المشركين في رؤية الإمام الخمينيّ أحد واجبات الحجّ السّياسيّة. وللتّعرّف على منطلقات هذه النّظريّة وعلى دور أداء هذه الفريضة المهمّة في تحقيق أهداف الإسلام ومقاصده في العالم المعاصر، ينبغي بحث عدد من النّقاط:

1- معنى الشرك والمشركين

الشّرك ضدّ التّوحيد، ومعناه الاعتقاد بالقوى الوهميّة. والموحّد هو المنقطع إلى الحقيقة وإلى التّوحيد. والمشرك عابد للوهم، ومنقاد للقوى الخياليّة والظّنّيّة.
والقوى الوهميّة الّتي يعبدها المشركون على ثلاثة أنواع، وبتعبير آخر: إنّ الأوثان في عالم الشّرك والمشركين ثلاثة أنواع: وثن النّفس، ووثن الجماد، ووثن القوى الطّاغوتيّة.

وقد تكون القدرة الوهميّة أحيانًا هي النّفس الأمّارة، كما أشار القرآن الكريم بقوله: ﴿أرَأَيتَ مَنِ اتّخَذَ إلهَهُ هَواهُ﴾، وقد تكون أحيانًا الأوثان المتّخذة من الجمادات، مثل “اللّات” و”هُبَل” اللّذين كانا يُعبدان في الحجاز قبل بعثة النّبيّ صلى الله عليه واله، وقد تكون في أحيان اُخرى وثن السّلطات غير المشروعة وحكم الطاغوت. وقد سمّى الإمام الخمينيّ قدّس سرّه القوى الاستكباريّة ب”الأوثان الجديدة”.

الموحّد منقطع إلى الحقيقة وإلى التّوحيد، وليس عابد ذاته، ولا عابد جماد، ولا عابد سلطة. بل الموحّد يرى أنّ اللّه وحده مصدر القدرة، فيعبده وحده، ويذعن له بالطّاعة. ولا يرى النّفع والضّرر إلّا بيد اللّه، فلا يستعين إلّا به، ولا يخاف غيره، ولا يركن إلى أيّة قدرة غير قدرة اللّه، ولا يخشى إلّا اللّه.
ثمّ إنّ المشرك العابد للوهم المطأطئ أمام القدرات الخياليّة ربّما يعبد ذاته، وربّما يعبد ما صنعه بيده، وربّما يعبد المتسلّطين على العالم، وربّما يعبد الثلاثة جميعًا.

هذا ولكنّ الخطر الكبير الّذي يهدّد المجتمعات الموحّدة في هذا اليوم هو الشّرك العمليّ بثالث معانيه، أي عبادة الأوثان الجديدة والقوى الاستكباريّة والخضوع لها. وغاية البراءة من المشركين مجاهدة هذه القوى الطّاغية المتسلّطة على رقاب المسلمين، وتحقيق الاستقلال والعزّة والاقتدار لمسلمي العالم.

2- الأديان الإلهيّة والبراءة من المشركين

كان إبراهيم خليل الرحمن على نبيّنا وآله وعليه السّلام أوّل الأنبياء جهرًا بالبراءة من الشّرك والمشركين بحيث دعا القرآن المسلمين إلى الاقتداء بهذا النّبي العظيم بقوله: ﴿قَد كانَت لَكُم اُسوَةٌ حَسَنَةٌ في إبراهيمَ والّذينَ مَعَهُ إذ قالوا لِقَومِهِم إنّا بُرَآءُ مِنكُم ومِمّا تَعبُدونَ مِن دونِ اللّهِ﴾ واحتذت الاُمّة الإسلاميّة في إعلان البراءة من المشركين حذو هذه الاُسوة النّبويّة في التّاريخ، والنّاظر في القرآن الكريم يجد فيه أنّ البراءة من المشركين أحد ركنَى غ التّوحيد الأصيلَين؛ حيث قرن دعوة الأنبياء إلى التّبرّي من الطّاغوت إلى جوار دعوتهم إلى عبادة اللّه ﴿ولَقَد بَعَثنا في كُلّ اُمّةٍ رَسولًا أنِ اعبُدُوا اللّهَ واجتَنِبُوا الطّاغوت﴾.

و”الطّاغوت” لا ينحصر بالأوثان والأنصاب الّتي اصطُنِعت واتّخذت في عصر الجاهليّة، بل إنّ أجلى مظاهر الطّاغوت هو تلك السّلطات المشركة الّتي تسوق المجتمع إلى وجهة مغايرة لوجهة أنبياء اللّه تعالى. وهذا قول الصّادق عليه السلام في بيان معنى الطّاغوت في الآية السّابعة عشرة من سورة الزّمر: ﴿والّذينَ اجتَنَبُوا الطّاغوتَ أن يَعبُدوها﴾: من أطاع جبّارًا فقد عَبَده.

والمهمّة الأساسيّة هو التّعرّف على المؤامرة المعقّدة الّتي حيكت في تاريخ المسلمين للتّستّر على أجلى مظاهر الطّاغوت والشّرك، لئلّا تشعر المجتمعات الإسلاميّة الخطر من هذه النّاحية، فتظلّ نظرتها إلى البراءة من المشركين حبيسة في نطاق البراءة من أصنام عصر الجاهليّة الاُولى. وقد كشف الإمام الصّادق عليه السلام في عصره عن هذه المؤامرة الخطرة، وأعلن بصوتٍ جهير:”إنّ بَني اُمَيّةَ أطلَقوا لِلنّاسِ تَعليمَ الإيمانِ ولَم يُطلِقوا تَعليمَ الشّركِ؛ لِكَي إذا حَمَلوهُم عَلَيهِ لَم يَعرِفوهُ”.

3- زمان البراءة من المشركين ومكانها

ممّا لا ريب فيه أنّ البراءة من المشركين ليست محدودة بزمان أو مكان معيّنين بل يجب على المسلمين، في كلّ زمان ومكان حيثما تقتضي الضرورة إعلان براءتهم الفرديّة والجماعيّة من المشركين. ولا مراء أنّه إذا حدّد وليّ أمر المسلمين زمانًا ومكانًا واُسلوبًا معيّنًا لأداء هذه الفريضة فإنّ إطاعة وليّ الأمر هنا تكون واجبة.

بيد أنّ المسألة المهمّة هي: أيّ مكان وأيّ زمان أنسب وأجدر لإظهار مسلمي العالم براءتهم العامّة من المشركين؟ يمكن القول إنّ بيت التّوحيد هو المكان الأنسب، وإنّ موسم الحجّ خير زمان لإظهار مسلمي العالم براءتهم من الشّرك والمشركين. يقول الإمام الخمينيّ رضوان اللّه تعالى عليه في هذا السّياق:
“أيّ بيت أجدر من الكعبة وبيت الأمن والطّهر والناس لمجانبة العدوان والظلم والاستغلال والاسترقاق والضّعة واللّاانسانيّة، في القول والعمل، ولتجديد ميثاق (ألَستُ بِرَبّكُم، ولتحطيم الآلهة والأرباب المتفرّقين، ولإحياء واستذكار أهمّ وأعظم حركة سياسيّة للنبيّ صلى الله عليه واله في ذلك أنّ سنّة النّبيّ صلى الله عليه واله وإعلان البراءة لا تَبلى. وليس إعلان البراءة مقصورًا على أيّام ومراسم بعينها، بل ينبغي على المسلمين أن يملؤوا آفاق العالم كلّها بمحبّة ذات اللّه وبعشقه، وبالنّفرة والبغض العمليّ لأعداء اللّه…

وعلى أيّ حال، إنّ إعلان البراءة في الحجّ هو تجديد ميثاق المكافحة وتدريب على تشكيل المجاهدين لاستمرار محاربة الكفر والشّرك وعبادة الأوثان. وهذا لا يتلخّص بالشّعار وحده، بل هو بداية إعلان منشور المقارعة والتّنظيم لجند اللّه في قبالة إبليس وجنوده، وهو من الاُصول الأوّليّة للتّوحيد. وإذا لم يُظهر المسلمون البراءة في بيت النّاس وبيت اللّه… فأين يمكن أن يظهروها؟! وإذا لم يكن الحرم والكعبة والمسجد والمحراب خندقًا ومأمنًا لجنود اللّه وللمدافعين عن حِمى الأنبياء وحرمتهم… فأين يكون إذن مأمنهم وملجؤهم؟!

وزبدة المقال: إنّ إعلان البراءة هي المرحلة الاُولى للمقارعة، وإنّ تواصلها مرحلة اُخرى، وهو تكليفنا. إنّ البراءة في كلّ عصر و زمان تتطلّب منّا مظاهر وأساليب ومناهج متناسبة، وينبغي أن نرى ماذا علينا أن نعمل في عصر مثل عصرنا الّذي ألقى فيه رؤوس الكفر والشّرك كلّ ما للتّوحيد في المخاطر واتّخذوا من كلّ المظاهر الوطنيّة والثّقافيّة والدّينيّة والسّياسيّة لعبة لأهوائهم وشهواتهم؟

أعلينا أن نقعد في بيوتنا ساكتين عن التّحليلات الغالطة وعن إهانة مقام الإنسان ومنزلته، وعن بثّ روح العجز والضّعف بين المسلمين، ممّا يقوم به الشّيطان وأبناء الشّيطان، ونمنع المجتمع من الوصول الى الخلوص الّذي هو غاية الكمال ونهاية الآمال… متصوّرين أنّ مجاهدة الأنبياء للأوثان وعبَدة الأوثان لا يتعدّى مجاهدة الحجارة والأخشاب المجرّدة من الرّوح، وأنّ الأنبياء، من مثل إبراهيم، قد عمدوا إلى تحطيم الأوثان، لكنّهم نعوذ باللّه وقفوا إلى جانب الظّالمين متخلّين عن ساحة الجهاد؟! والحال أنّ كلّ ما قام به إبراهيم من تحطيم الأصنام ومن المقارعة والمحاربة للنّمروديّين وعبَدة القمر والشّمس والنّجوم… إنّما هي مقدّمة لهجرة كبرى. وكلّ ما صنعه من هجرة، والتّحمّل للمشاقّ، والسّكن في وادٍ غير ذي زرع، وبناء البيت، والتّضحية بإسماعيل… إنّما هي مقدّمة للبعثة والرّسالة الّتي كرّر فيها خاتم الأنبياء خطاب أوّل وآخر بُناة الكعبة ومشيّديها، وأبلغ رسالته الأبديّة بكلمات أبديّة: ﴿إنّني بَري ءٌ مِمّا تُشرِكون﴾.

وإذا فسّرنا البراءة بغير هذا فلا أوثان في زماننا المعاصر أصلاً. تُرى أيّ إنسان عاقل لم يتعرّف على الوثنيّة الجديدة في أشكالها وتزويرها ومكائدها، ولا علم له بسلطة بيت الأوثان كما هو البيت الأسود (في واشنطن) تتحكّم على البلدان الإسلاميّة، وعلى دماء المسلمين وأعراضهم، وعلى العالم الثّالث؟!  1
1-الحج والعمرة في الكتاب والسنة / العلامة محمد الريشهري.
المصدر:شبكة المعارف الإسلامية
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى