عن النبي «صلى الله عليه وآله» قال: «إنّ الرجل ليدرك بالحلم درجة الصائم القائم»1.
يعد الحلم من القيم الأخلاقيّة التي أشاد بها القرآن الكريم والسّنة الشريفة، ومدحا المتخصّلين بها، وعرّف الحلم بتعاريف عديدة ومنها: ضبط النفس2 عند هيجان وثورة الغضب، وتملك عنانها حذر الاسترسال في هيجانها، فهو التمكن من الوقوف بصلابة في وجه ثورة النفس، والتأنّي وترك الانتقام عند شدّة الغضب مع القدرة عليه.
فالحليم هو ذلك الشخص الذي لا يستفزّه الغضب فيسرع بالعقوبة، بل يضبط نفسه ويتريّث ويتعامل مع الموفق والحدث وفق ما تقتضيه الحكمة.
والحلم من صفات المؤمنين المتّقين، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ 3.
وقال تعالى في آية أخرى: ﴿ فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ *وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ﴾ 4.
فيستفاد من قوله تعالى: ﴿ … وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ … ﴾ 5 ومن قوله سبحانه: ﴿ … وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ﴾ 6أنّ المؤمنين ليس فقط يسيطرون على أنفسهم في حالة غضبهم، فيعيشون الحلم على من أغضبهم، بل يزيدون على ذلك بأن يغفروا له ويتجاوزا عن خطئه في حقّهم.
وقال تعالى: ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ 7.
فالمؤمنون من عباد الله يتعاملون مع الآخرين من موقع المسالمة، لا من موقع الخشونة والتّحدّي والرّد بالمثل، فينطلقون من موقع عدم الاعتناء واللامبالاة، وكأنهم لم يسمعوا شيئاً مما قاله أولئك الجاهلون.
وحثّ الدّين الإسلامي الحنيف المسلمين على التّحلي بخلق الحلم، وأمرهم أن يتعاملوا بالتي هي أحسن، فيتعاملون باللين واللطف والعفو والمغفرة ويبتعدون عن الطيش والتهوّر ومقابلة الإساءة بالإساءة، قال تعالى: ﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ 8.
أي لا تكون الحسنة كالسيئة ولا السيئة كالحسنة ﴿ … ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ … ﴾ 9 فإذا أساء إليك مسيء من الخلق إساءة بالقول أو الفعل فقابله بالعفو والصفح عنه والإحسان إليه ﴿ … فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ 9 أي كأنّه قريب شفيق ﴿ وَمَا يُلَقَّاهَا … ﴾ 10 فما يوفّق لهذه الخصلة الحميدة ﴿… إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا … ﴾ 10 وهم الذين عاشوا الصبر في أرفع مراتبه فملكوا زمام أنفسهم وأجبروها على ما يحبّه الله، لأنّ من الطباع السيّئة في النّفس مقابلة المسيء بالإساءة إليه وعدم العفو عنه، فكيف بالإحسان إليه؟ فإذا صبّر الإنسان نفسه وامتثل أمر ربّه، وعلم أنّ مقابلته للمسيء بجنس عمله لا ينفعه شيئاً ولا يزيد العداوة إلاّ شدّة وأنّ إحسانه إليه ليس دليلاً على ضعفه، وإنما سمة من سمات النبل وسمو الخلق ودواعي العزّة والكرامة هان عليه الأمر، فعفى عن الإساءة وقابل سيئته بالحسنة ﴿ … وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ 10 فهي خصلة رفيعة عالية لا يرتقي إليها إلاّ صاحب النفس الكبيرة والشخصيّة العالية، الذي جاهد نفسه فحملها على الأخلاق الفاضلة الحميدة.
وأمّا الرّوايات من السّنة الشريفة في الحث على الحلم وكظم الغيظ فهي كثيرة، منها:
عن النبي «صلى الله عليه وآله» قال: «إنّ الله يحب الحيي الحليم العفيف المتعفف»11.
وقال «صلى الله عليه وآله»: «إذا كان يوم القيامة جمع الله الخلائق في صعيد واحد، وينادي مناد من عند الله، يسمع آخرهم كما يسمع أولهم، يقول: أين أهل الصبر؟ فيقوم عنق من الناس12، فتستقبلهم زمرة من الملائكة فيقولون لهم: ما كان صبركم هذا الذي صبرتم؟ فيقولون: صبرنا أنفسنا على طاعة الله، وصبرناها عن معصية الله.
قال: فينادي مناد من عند الله: صدق عبادي، خلوا سبيلهم ليدخلوا الجنة بغير حساب.
قال: ثم ينادي مناد آخر، يسمع آخرهم كما يسمع أولهم، فيقول: أين أهل الفضل؟ فيقوم عنق من الناس، فتستقبلهم زمرة من الملائكة، فيقولون: ما فضلكم هذا الذي نوديتم به؟ فيقولون: كنا يجهل علينا في الدنيا فنحتمل ويساء إلينا فنعفو.
قال: فينادي مناد من عند الله تعالى: صدق عبادي، خلوا سبيلهم ليدخلوا الجنة بغير حساب»13.
وعن الإمام علي بن الحسين «عليهما السلام» قال: «إذا كان يوم القيامة جمع الله تبارك وتعالى الأولين والآخرين في صعيد واحد، ثم ينادي مناد: أين أهل الفضل؟ قال: فيقوم عنق من الناس فتلقاهم الملائكة فيقولون: وما كان فضلكم؟ فيقولون: كنا نصل من قطعنا ونعطي من حرمنا ونعفو عمن ظلما، قال: فيقال لهم: صدقتم ادخلوا الجنة»14.
وعن النبي «صلى الله عليه وآله» قال: «ثلاث من لم تكن فيه لم يتم عمله: ورع يحجزه عن معاصي الله عزّ وجل، وخلق يداري به الناس، وحلم يرد به جهل الجاهل»15.
وقال «صلى الله عليه وآله»: «ما جرع عبد جرعة أعظم أجراً من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله عزَّ وجل»16.
وعن النبي «صلى الله عليه وآله» أنّه قال: «من أحب السبيل إلى الله عزّ وجل جرعتان: جرعة غيظ تردها بحلم وجرعة مصيبة تردها بصبر»17.
وعن الإمام الصادق «عليه السلام» قال: «ما من جرعة يتجرعها العبد أحب إلى الله عزّ وجل من جرعة غيظ يتجرعها عند ترددها في قلبه، إمّا بصبر وإمّا بحلم»18.
وعنه «عليه السلام» قال: «من كظم غيظاً ولو شاء أن يمضيه أمضاه، أملأ الله قلبه يوم القيامة رضاه»17.
وعن النبي «صلى الله عليه وآله» قال: «ألا أخبركم بأشبهكم بي؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: أحسنكم خلقاً وألينكم كنفاً، وأبركم بقرابته، وأشدّكم حبّاً لإخوانه في دينه، وأصبركم على الحق، وأكظمكم للغيظ، وأحسنكم عفواً، وأشدكم من نفسه إنصافاً في الرضا والغضب»19.
وقال «صلى الله عليه وآله»: «ما جرع عبد جرعة أعظم أجراً عند الله من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله عز وجل»20.
وقال «صلى الله عليه وآله»: «ألا أنبئكم بما يشرف الله به البنيان ويرفع به الدّرجات؟ قالوا: نعم يا رسول الله. قال: تحلم على من جهل عليك، وتعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك»21.
وينقل أنّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» سمع رجلاً يشتم مولاه قنبراً، وقد رام قنبر أن يرد عليه، فناداه أمير المؤمنين «عليه السلام»: مهلاً يا قنبر! دع شاتمك مهاناً ترضي الرحمن وتسخط الشيطان وتعاقب عدوك، فوالذي فلق الجنة وبرأ النسمة، ما أرضى المؤمن ربّه بمثل الحلم، ولا أسخط الشيطان بمثل الصمت، ولا عوقب الأحمق بمثل السكوت عنه22.
وعن الإمام الصادق «عليه السلام» قال: «مرّ رسول الله «صلى الله عليه وآله» بقوم يرفعون حجراً فقال: ما هذا؟ قالوا: نعرف بذلك أشدَّنا وأقوانا. فقال «صلى الله عليه وآله»: ألا أخبركم بأشدّكم وأقواكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: أشدُّكم وأقواكم الذي إذا رضي لم يدخله رضاه في إثم ولا باطل، وإذا سخط لم يخرجه سخطُهُ من قول الحق، وإذا قدر لم يتعاط ما ليس له بحق»23.
إنّ الشريعة الإسلامية عندما تدعو إلى التخلق بالحلم وعدم مقابلة الإساءة بالإساءة إنّما تريد بذلك وأد المشكلة وهي في مهدها لا زالت للتو قائمة، أمّا مقابلة الإساءة بالإساءة فإنّه يزيد من تفاقم المشكلة فتكبر وتزداد، وقد يتدخل أطراف آخرون سلباً في المشكلة فربما بسبب ذلك تصل الأمور إلى ما لا تحمد عقباه.
فعلى المسلم أن يقتدي بالنبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» في حلمه، فالنبي «صلى الله عليه وآله» هو قدوة حسنة لكل مسلم، قال الله تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ 24، فقد كان الحلم والعفو من أبرز أخلاقه، آذاه المشركون أيّما إيذاء، فوطئوا عنقه الشريف وهو ساجد عند الكعبة، ووضعوا على ظهره مشيمة حيوان وهو يصلّي، ورموه بالحجارة حتى أدموا جسده الشريف، ومنعوه وقومه الطعام ثلاث سنين حتى أكلوا حشائش الأرض وورق الشجر، ولم يقتصر إيذاؤهم على الرسول «صلى الله عليه وآله» وحده بل تناولوا أتباعه، فكان نصيب بعضهم التعذيب، وبعضهم القتل، ثم أخرجوهم من ديارهم وأوطانهم وأبعدوهم عن أهليهم وأبنائهم، ولم يتركوهم بعد أن هاجروا آمنين في غربتهم بل شنّوا عليهم الغارات والحروب، ولكنّه «صلى الله عليه وآله» لما أن تمكن من مشركي مكة بعد أن قويت شوكة الإسلام يوم أن فتح مكة صاح بهم قائلاً: يا أهل مكة ويا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً أخ كريم وابن أخ كريم، فما كان منه «صلى الله عليه وآله» إلاّ أن قال لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء، فكان هذا الخلق الكريم والنبيل منه «صلى الله عليه وآله» سبباً في دخول الناس في دين الله أفواجاً.
وقصص حلمه «صلى الله عليه وآله» وعفوه وصفحه عن من أساء إليه، كثيرة، من ذلك ما عن أنس بن مالك أنّه قال: «كنت أمشي مع رسول الله «صلى الله عليه وآله» وعليه رداء نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة نظرت إلى صفحة عنق رسول الله «صلى الله عليه وآله» وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله «صلى الله عليه وآله» فضحك ثم أمر له بعطاء»25.
ويستفاد من هذه الحادثة عدّة أمور
الأول
أنّ النبي «صلى الله عليه وآله» لم يظهر عليه الغضب مما فعله به الأعرابي لأنّه فعل صدر من جاهل، فالغضب في مثل هذا المورد مذموم شرعاً، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ … وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ 7.
الثاني
أنّ النبي «صلى الله عليه وآله» لم يقابل إساءة هذا الأعرابي بالإساءة إليه، وإنما قابله بالحلم ومن ثم بالعفو والصفح عنه.
الثالث
لم يقف الأمر عند النبي «صلى الله عليه وآله» في الحلم عن الأعرابي والعفو عنه وإنما أحسن إليه أيضاً بأن أمر له بعطاء.
فما فعله رسول الله «صلى الله عليه وآله» مع هذا الأعرابي هو مصداق لقوله تعالى: ﴿ … وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ 5.
إنّ الغضب الحاصل عند الإنسان من جراء استفزاز الطرف الآخر له، واستفحاله وسيطرته عليه، هو سبب عدم الحلم والصفح والعفو عن المسيء، ولذلك نجد أنّ الشريعة الإسلامية تدعو المسلم إلى عدم الغضب لأنّ الغضب مفتاح للكثير من الشرور، فلو تتبعنا أكثر المشاكل والخصومات الحاصلة بين النّاس على مستوى الأفراد والجماعات لوجدنا أنَّ للغضب أثراً كبيراً في حدوثها، فالغضب وسرعة الانفعال من السّمات البارزة عند أغلب النّاس، فتجد – ولأتفه الأسباب – أنّ الزوج يغضب على زوجته والأخ على أخيه وصاحب العمل على من يعملون عنده، والمعلم على تلامذته، والوالدين على أبنائهم، والنادرُ من النّاس من يتحمّل أخطاء الآخرين ويصبرُ على تصرفاتهم الاستفزازية، فالإنسانُ حين يغضب ويشتد به الغيظ يفقد رشده، ولا يتحكم في تصرفاته، فيصبح كالوحش الضاري لا يدري ما يفعل أو يقول، ويعد الغضب من أهمّ وسائل الشيطان لإيقاع الإنسان في أعاظم الذنوب وكبائر الجرائم، قال الإمام أمير المؤمنين «عليه السلام» ضمن رسالة وجهها إلى الحارث الهمداني: « … واحذر الغضب فإنّه جند من جنود إبليس …»26.
ومما ورد أيضاً في ذم الغضب والتحذير منه والدعوة إلى الحلم والصفح ما عن الإمام الصادق «عليه السلام» أنّه قال: «الغضب مفتاح كل شر»27.
وعنه «عليه السلام» قال: «إنّ في التوراة مكتوباً: يا ابن آدم اذكرني حين تغضب أذكرك عند غضبي، فلا أمحقك فيمن أمحق، وإذا ظُلمت بمظلمة فارض بانتصاري لك فإن انتصاري لك خير من انتصارك لنفسك»28.
وعنه «عليه السلام»: «إنّما المؤمن الذي إذا سخط لم يخرجه سخطه من الحق، والمؤمن إذا رضي لم يدخله رضاه في باطل، والمؤمن الذي إذا قدر لم يتعاط ما ليس له»29.
والغضب ليس بمذموم دائماً، بل يمكننا القول بأنّ الغضب في حدّ ذاته ليس بانفعال سيء، ولا بمستقبح، لأن الخالق سبحانه هو من جعل في الإنسان الغرائز وركّب فيه المشاعر والأحاسيس والانفعالات، وما ذلك إلاّ لمصلحة وحكمة، فهناك من الغضب ما هو ممدوح في الشريعة الإسلامية كالغضب لله تعالى وللدين وللوطن والعرض والكرامة، ومنه غضب نبي الله موسى «عليه السلام» على قومه لما أن عبدوا العجل، قال الله تبارك وتعالى: ﴿ فَرَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي ﴾ 30، فالغضب في مثل هذه الموارد كلّها من الغضب المحمود، أما المذموم فهو ذلك الغضب غير المبرر، الغضب الذي يتعدى فيه الإنسان الحدود، ويحطم الحواجز، ذلك الغضب الذي لا فائدة مرجوّة منه سوى زيادة في الخصومة والعداوة والحقد بين المسلم وأخيه.
إنّ ضبط النّفس عند الغضب من الصعوبة بمكان بحيث أنّه يحتاج إلى إرادة قويّة لا يملكها إلاّ المؤمنون أقوياء الإيمان، فليس من السهل إذا ما استفزّ الإنسان وتملّك منه الغضب واشتدّ به الغيظ أن يضبط نفسه ويكظم غيظه، ويكفّ عن الإساءة والانتقام ممن أغضبه وأغاضه.. فقد ورد عن النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» أنّه قال: «ليس الشديد بالصرعة، إنّما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب»31.
ويستفاد ذلك أيضاً من حديث النبي «صلى الله عليه وآله»: «ما جرع عبد جرعة أعظم أجراً عند الله من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله عز وجل»20، وحديث الإمام الصادق «عليه السلام»: «ما من جرعة يتجرعها العبد أحب إلى الله عزّ وجل من جرعة غيظ يتجرعها عند ترددها في قلبه، إمّا بصبر وإمّا بحلم»18، فالتعبير بلفظة «جرع» يفيد معنى المعاناة التي تحصل للإنسان من جراء كظم الغيظ، يقول الراغب الأصفهاني: «جَرِعَ الماء يجرع، وقيل: جَرَعَ وتجرّعه إذا تكلّف جرعه»32.
فدّل ذلك على أنّ كظم الغيظ يحتاج إلى جهد ومشقّة ومقاومة، والمأمول من المؤمن أن يجتنب أسباب الغضب ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وأن لا يطيع الشيطان فيما يوسوس إليه من الاستجابة لداعي الغضب، فلا يتهوّر ولا يندفع، وهناك مجموعة من الأمور والإجراءات التي يمكن بواسطتها التهدئة من الغضب والتخفيف من شدّة الغيظ، ومن أهمّها:
أنْ يذكر الله سبحانه وتعالى، فعن النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» أنّه قال: «إنّ الله عزّ وجل يقول: ابن آدم أذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب ولا أمحقك حين أمحق»33.
أنْ يجلس إذا كان قائماً، ويضطجع إذا كان جالساً أو ليقم فعن النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» قال: «إنّ الغضب جمرة تتوقّد في القلب، ألم تر إلى انتفاخ أوداجه وحمرة عينه، فإذا وجد أحدكم من ذلك شيئاً، فإن كان قائماً فليجلس وإن كان جالساً فلينم …»34.
وعن الإمام الباقر «عليه السلام» قال: «إنّ هذا الغضب جمرة من الشيطان توقد في قلب ابن آدم، وإن أحدكم إذا غضب احمرت عيناه، وانتفخت أوداجه، ودخل الشيطان فيه، فإذا خاف أحدكم ذلك من نفسه فليلزم الأرض، فإن رجز الشيطان ليذهب عنه عند ذلك»35.
وعنه «عليه السلام» أيضاً قال: «إنّ الرّجل ليغضب حتّى ما يرى أبداً، ويدخل بذلك النّار، فأيّما رجلٌ غضب وهو قائم فليجلس فإنّه يذهب عنه رجز الشيطان، وإن كان جالساً فليقم…»36.
أنْ يمس رحمه إذا كان الغضب على ذي رحم، فعن الإمام الباقر «عليه السلام» أنّه قال: «… وأيّما رجل غضب على ذي رحم فليدن منه فليمسه، فإن الرحم إذا مست سكنت»37.
أنْ يتوضأ، ففي الرّواية عن النبي «صلى الله عليه وآله»: «إذا غضب أحدكم فليتوضّأ بالماء البارد فإنّ الغضب من النّار»38.
وعنه «صلى الله عليه وآله»: «إنّ الغضب من الشيطان، وإنّ الشيطان خلق من نار، وإنّما تطفأُ النارُ بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ»39.
أنْ يذكر الغاضب الآثار السلبية للغضب، وأنّه من أهم أسلحة الشيطان لإيقاع الإنسان في العظائم والجرائم، قال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: «ما لإبليس جند أعظم من النساء والغضب»40، ويتذكر ما للحلم وكظم الغيط من الأجر والثواب عند الله «سبحانه وتعالى» وأنّه من صفات وسمات المؤمنين الأتقياء من أنبياء وأوصياء وأولياء والصالحين من عباد الله عزّ وجل.
التعوّذ بالله من الشيطان، بأن يقول أعوذ بالله من الشيطان الرّجيم، فعن سليمان بن صرد قال: «كنت جالساً مع النبي «صلى الله عليه وآله» ورجلان يستبان، فأحدهما احمر وجهه وانتفخت أوداجه، فقال النبي «صلى الله عليه وآله»: إنّي لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد، لو قال أعوذ بالله من الشيطان ذهب عنه ما يجد …»4142.
- 1. مستدرك الوسائل 11/261، برقم: 13058.
- 2. قال الإمام أمير المؤمنين «عليه السلام» لابنه الإمام الحسن «عليه السلام»: «يا بني ما الحلم؟ قال: كظم الغيظ وملك النّفس» «موسوعة أحاديث أهل البيت 3/212، برقم: 2974».
- 3. القران الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 133 و 134، الصفحة: 67.
- 4. القران الكريم: سورة الشورى (42)، الآية: 36 و 37، الصفحة: 487.
- 5. a. b. القران الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 134، الصفحة: 67.
- 6. القران الكريم: سورة الشورى (42)، الآية: 37، الصفحة: 487.
- 7. a. b. القران الكريم: سورة الفرقان (25)، الآية: 63، الصفحة: 365.
- 8. القران الكريم: سورة فصلت (41)، الآية: 34 و 35، الصفحة: 480.
- 9. a. b. القران الكريم: سورة فصلت (41)، الآية: 34، الصفحة: 480.
- 10. a. b. c. القران الكريم: سورة فصلت (41)، الآية: 35، الصفحة: 480.
- 11. الكافي 2/112.
- 12. أي جماعة من النّاس.
- 13. الأمالي للطوسي، صفحة 103.
- 14. الكافي 2/108.
- 15. مكارم الأخلاق، صفحة 437.
- 16. تنبيه الخواطر «مجموعة ورّام» صفحة 132.
- 17. a. b. الكافي 2/110.
- 18. a. b. الكافي 2/111.
- 19. الكافي 2/241.
- 20. a. b. شعب الإيمان 6/314.
- 21. الترغيب والترهيب 3/419.
- 22. بحار الأنوار 68/424.
- 23. الأمالي للشيخ الصدوق صفحة 72.
- 24. القران الكريم: سورة الأحزاب (33)، الآية: 21، الصفحة: 420.
- 25. صحيح مسلم 3/103.
- 26. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٨/٤٢.
- 27. الكافي 2/303.
- 28. الكافي 3/304.
- 29. الخصال، صفحة 105.
- 30. القران الكريم: سورة طه (20)، الآية: 86، الصفحة: 317.
- 31. جامع السعادات 1/261.
- 32. مفردات ألفاظ القرآن، صفحة 191.
- 33. مستدرك الوسائل 12/15.
- 34. المحجة البيضاء في تهذيب الأحياء 5/307.
- 35. الكافي 2/305.
- 36. بحار الأنوار ٧٠/٢٦٤.
- 37. الكافي 2/302.
- 38. المحجة البيضاء 5/307.
- 39. ميزان الحكمة ٣/٢٢٦٩.
- 40. موسوعة أحاديث أهل البيت 8/124.
- 41. صحيح البخاري 4/93.
- 42. المصدر كتاب “دروس من وحي الإسلام” للشيخ حسن عبد الله العجمي حفظه الله.