وهكذا تألفّ جزيء ضئيل دقيق من جزيئات السديم الذي كان يملأ هذا الفضاء الواسع العظيم ، جزيء دقيق يحمل شحنة كهربائية موجبة تألّف مع جزيء آخر او جزيئين أو أكثر يحمل مجموعها شحنة كهربية سالبة .
وتعادلت القوة بين الشحنتين ، شد الجزيء الموجب على الجزيئات السالبة يجذبها إليه جذباً ، وحاولت هذه الإفلات من قبضته فلم تقو ، وكان من نتائج هذا التعادل أن يأخذ كل واحد من الجزيئات السالبة مداره حول الجزيء الموجب يطوف فيه ، ولا يحيد عنه ، ولا يتباطأ في حركته حوله ولا يختلف .
وقام كيان الذرّة من هذه المجموعة ، ودأب كل جزيء من جزيئاتها على عمله لا يلوي ولا يقف ، ووجّهة الحكمة ، ووجّهته اليد القديرة المدبّرة يُسهم في بناء الكون ، وفي بناء الحياة ، وفي بناء الإنسان . ويُسهم في تحقيق الغاية الكبرى التي من أجلها بني الكون وفُطِرت الحياة وخُلق الإنسان . .
وتنوّعت الذرّات ، وتعدّدت أنواعها بحب تعدد الجزيئات التي يشتمل عليه كيانها ، وكثُرت العناصر التي يتألف منها بناء الكون .
وتألفت ذرة صغيرة لا يدركها الطرف ، بل ولا يدركها المجهر من هذه الذرات التي تحمل تلك الطاقة ، وتحوي ذلك النظام وتلك القوة الكهربية المتعادلة ، تألفت إلى ذرّة مثلها أو إلى ذرتين أو كثر من عنصر واحد ، أو من عناصر متعدّدة ، وتفاعلت معها في التركيب ، واتّحدت وإياها في الخاصّة ، وقامت من هذا التركيب خليّة حياة ، أو خلية جسمٍ حي ، أو وحدة أخرى يتقوّم منها كيان موجود .
ودأبت كل ذرّة دخلت في التركيب توفيّ عملها الذي أنبط بها ، لاتني ، ولا تحيد ، ووجّهتها الفطرة كذلك ، ووجّهتها الحكمة ، ووجهتها اليد القديرة المدبّرة تُسهم في البناء وتسهم في الغاية .
تُسهم في بناء الكون والحياة والإنسان ، وتسهم في الغاية التي من اجلها خلق كل أولئك .
واجتمعت وحدة إلى وحدة أو أكثر ، من نوعها أو من نوع آخر ، وتضامّت الأجزاء ، وتضامّت الوَحَدات ، وتفاعلت إذا كان الأمر يدعو إلى التفاعل ، وتطوّرت إذا كان يستدعي التطوّر ، وقام من المجموع كيان كامل مستقل لشيء من أشياء هذا الوجود ، وساهم في البناء وساهم في الإعداد للغاية ، وساهمت كل وحدة من وحداته في تلك ، ووجّهته الفطرة ، ووجّهت كل جزء منه أن يدأب في عمله ، وفي وجهته .
وقام الكون ، بناميه و جامده ، وحيّه و ميته ، وسماواته وأرضه ، وحركاته ومداراته ، وعناصره التي تقوّمه ، وقوانينه التي تنظّمه ، ووجّهته الفطرة ، ووجّهته الحكمة ، ووجّهته اليد القديرة المدبرة ، ووجهت كل شيء فيه ، وكل جزء من أجزائه أن يسهم في البناء ، ويسهم في الغاية ، وأعدّت الحكمة كلّ ما في الكون لقيام الحياة . . ولقيام الإنسان أعلى نماذج الحياة .
الحكمة في الخلق الانساني
وانذمّت خليّة إلى خلية ، خليّة حياة إلى خلية حياة ، وتلقّحت إحداهما بالأخرى ، وتطوّرت الخلية الموحّدة الملقّحة ، وانشطرت وتكاثرت ، وتدرّجت في النشوء ، وانضمّت إليها من أغذيتها وحدات واستحالت خلايا ، وتصنفت الخلايا وتساندت على بناء الهيكل ، وتوزّعت العمل ، وتوجّه كل صنف منها إلى إقامة جهازٍ ، أو إقامة عضو أو إقامة نسيج ، وانصرف إلى أداء مهمّة ، ووجّهت الفطرة ، واليد القديرة الحكيمة كّلاً منها وجهته ، وتعبّدته بالمسير إلى غايته .
وقام الموجود الحيّ العاقل السميع البصير الذي أعِدّله الكون وسخرَت له الطبيعة ، ووجّهته الفطرة ، ووجهته الحكمة أن يعمر الأرض ويحقّق الغاية .
واهتدى كل شيء بفطرته إلى مبدئه وغايته ، وخضع لقانونه ، وتعبّد بخضوعه هذا لبارئه ، لا يحيد ولا يني .
واهتدى الإنسان بالفطرة كذلك وخضع وتعبّد كسائر أشياء الكون .
ولكن الإنسان عاقل مريد ، وهذه هي أسمى ناحية فيه ، فلابدّ وأن يهتدي ، ويخضع بعقله وإرادته ، ولابدّ وان يصل إلى الغاية من هذه الناحية .
وللعقل فطرة كما لسائر الاشياء ، وفطرته كفيلةٌ بهدايته لو انفرد إليها ، ولكن الصوارف التي تزاحم هذه الفطرة بخصوصها تربو على العدّ ، ولابد وأن يُحسب لها حساب .
فلابدّ من الهداية التي تساند الفطرة ، ولابدّ من الشريعة التي تعيّن لها طريقها ، وتصونها عن المزاحمات .
الهدى الالهي و الانسان
وانضمّ إلى الإنسان إنسان ، وأضيفت إلى الأسرة أسرة ، وتشعبت عن القبيلة قبيلة ، وتألّفت مع الأمة أمة ، وارتقت معرفة الإنسان ، وامتدّت نظرته ، وتطوّرت حياته الاجتماعية ، والسماء تمدّه بالهداة التي تعضد الفطرة ، وبالشرائع التي تحدّد له الطريق ، وتعرّفه بالمعالم والغاية .
وارتقى الإنسان وتطور ، وارتقت معه أساليب الهداية ، وتطورت معه رسالات السماء ، تشقّ له الطريق وتؤهّله للغاية . .للغاية الكبرى التي من أجلها خُلق ، ومن أجلها أعد الكون ، وأعِدّت الحياة .
وتناقلته الهدايات والرسالات حتى وقفت به على الأبواب .
نعم ، وقفت الإنسانية على الأبواب ، فقد أعدّ الفرد ، وأعدّ المجتمع ، وأعدّ التاريخ .
أعدّ الفرد حتى في أدقّ ذراته ، وأبطن غرائزه ، وأمكن أشواقه .
واعدّ المجتمع بالتمهيد للصلة العامة المقدسة ، التي تنطمس فيها الحدود وتنسق السدود .
وأعدّ التاريخ بالحروب الطويلة الدامية التي أتعبت الإنسان وسحقت كبرياءه وطامنت غروره .
وتطلّع الفرد ، وتطلّع المجتمع ، وتطلّع التاريخ للنقلة الحاسمة ، والشريعة الخاتمة .
وبُعث محمد ( صلى الله عليه و آله ) ليحقّق الأمنية لكل أولئك للفرد ، وللمجتمع ، والتأريخ .
وبُعث محمد ( صلى الله عليه و آله ) ليحقق الغاية الكبرى التي أرادها الله من إحداث الكون وإيجاد الحياة ، وإنشاء الإنسان .
وبعث محمد ( صلى الله عليه و آله ) ليكون أعظم رسول بأعظم رسالة ، وأكبر داعٍ إلى اكبر دعوة .
وبعث محمد ( صلى الله عليه و آله ) ليَصل الأرض بالسماء ، وليتوّج إماماً للأنبياء .
وبعث الإنسان الأعلى لتتفيأ الإنسانية ظلاله ، وتترسم مثاله .
وأنزل القرآن دستوراً للدولة ، وقانوناً للحكم ، ونظاماً للإجتماع ومنهجاً للاقتصاد ، وقاعدة للتربية ، وسَنناً للأخلاق ، وشريعة للعمل ، وحدّاً للحقوق ، ولساناً للهداية ، وبرهاناً للدعوة .
الإنسان وهدى محمد ( صلى الله عليه و آله ) .
ونظرت الفطرة فلم تشكّ ، وفكّر العقل فلم يمتر ، وشهد البرهان فلم يرتب ، وأبصر العلم فلم يتردد ، وآمنت الفطرة ، وآمن العقل ، وآمن البرهان ، وآمن العلم .
ووقفت الأهواء فلم تُبصر ، وتبلّدت الغباوات فلم تهتد .
ورفع محمد ( صلى الله عليه و آله ) قَبَاً بعد قبس من أشعة القرآن لِيُنير هذي النفوس التي طُبعت عليها الأهواء ، ويحيي هذي الأذهان التي أماتها الغباء .
وكافح بالحجّة ، وكافح بالموعظة ، وكافح بالنصيحة ، وكافح بالخلق الكريم والقلب الرّحيم .
وطمِعت بعض هذه النفوس في غير مَطمع ، وجهدت أن توصِد الأبواب في وجه الدعوة ، وأن تقطع السبل ، ولم يجد معها البرهان شيئاً ، ولم تنفع الذكرى فتيلا .
واضطر محمد ( صلى الله عليه و آله ) أن يحتكم مع هذه الفئة إلى القوة لِفتح الأبواب وتخلي السبيل ، فناضل بالسيف وناضل بالعزيمة ، وهي أمضى حدّاً من السيف ، وناضل بمدد الله ونصره ، وهي القوة التي تمدّ السيف والعزيمة والجند بالمضاء والصرامة .
ولم يزايل البرهنة في مواقفه تلك ، ولم يترك النصيحة ، ولم يفارق الحخلق الكريم والقلب الرّحيم ، وظهر أمر الله وهم كارهون ، وعلت كلمة الله وهم راغمون .
ودار الزمان ، ودارت القرون . .
وتراكمت الأهواء ، وتكدّس الغباء . .
واتخذت الأهواء في دورتها هذه صبغة الحضارة ، وألبِس الغباء لباس المدنية .
ودعوة محمد ( صلى الله عليه و آله ) لا تزال هي دعوته ، وبيّناته هي بيناته .
هي تلك التي آمنت بها الفطرة ، وآمن بها العقل ، وآمن البرهان ، وآمن العلم .
ووقفت الأهواء فلم تُبصر ، وتبلّد الغباء فلم يَهتد .
ومُدّت الأيدي لتوصد الأبواب والسبل في وجه الدعوة . .لتصدّ الأذهان عن إدراكها ، بل ولتوقر الآذان عن سماعها ، ولتكمّ الأفواه عن الجهر بها .
فهل لنا أن نرفع القبس الذي رفعه محمد ( صلى الله عليه و آله ) لنضيء للسادرين طرقهم وننقذ هالكهم ؟ .
وهل هي أمنية أو تساؤل ، أو هي فريضة محتومة سريعة لا مجال فيها للاماني ، ولا وقت معها للإبطاء ؟! 1 .
- 1. كتاب من أشعة القرآن القسم الثالث العنوان رقم (20) للشيخ محمد أمين زين الدين .