هناك مفارقات معرفية ومنهجية بين مفهومين فاعلين ومتداخلين في مجالي الثقافة والسياسة، هما مفهوم الثقافة السياسية، ومفهوم السياسة الثقافية. من هذه المفارقات أن مفهوم الثقافة السياسية يرتبط بمجال علم السياسة، وهو أقدم وأكثر شهرة وتداولاً من مفهوم السياسة الثقافية، الذي أخذ يرتبط بمجال الاقتصاد والتنمية، ويعدّ من المفاهيم الحديثة، ومازال تداوله محدوداً، ويكاد ينحصر في مجال اختصاصه بصورة أساسية. هذه هي المفارقة الأولى.
المفارقة الثانية: أن مفهوم الثقافة السياسية ناظر إلى حضور الثقافة في السياسة وفي المجال السياسي، الحضور الذي يعبّر عن حاجة السياسة للثقافة. ويفسر هذا الحضور بأنه إما استدعاء من السياسة إلى الثقافة، أو تدخل من الثقافة في السياسة. في حين أن مفهوم السياسة الثقافية ناظر إلى حضور السياسة في الثقافة، وفي المجال الثقافي، الحضور الذي يعبّر أيضاً عن حاجة الثقافة للسياسة. ويفسر هذا الحضور بذات الطريقة، إما أنه استدعاء من الثقافة للسياسة، أو تدخل من السياسة في الثقافة وفي المجال الثقافي.
المفارقة الثالثة، أن مفهوم الثقافة السياسية هو مفهوم تفسيري للظواهر والنشاطات السلوكية، التي تنتمي وتصنف على المجال السياسي، أو التي لها طبيعة سياسية، وتحديداً تلك الظواهر والنشاطات التي ترتبط بعموم المجتمع، أو التي تتصل بالأنساق الثقافية في داخل المجتمع الواحد، أو التي تتعلق بالمجتمعات المختلفة. ولهذا هناك من يرى أن اكتساح مفهوم الثقافة السياسية مجال علم السياسة، في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن العشرين، كان متأثراً ببروز ما أُطلق عليه آنذاك بالثورة السلوكية.
في حين أن مفهوم السياسة الثقافية هو مفهوم التزامي، يرتبط بتطبيقات البرامج والخطط والمشاريع الثقافية. ويراد من السياسة في هذا المجال أحد أمرين، أو كلاهما معاً. الأمر الأول: التعبير عن الحاجة إلى الإرادة السياسية، التي تلتزم بتنفيذ ورعاية وتطبيق البرامج والخطط الثقافية. والأمر الثاني: أن تكون الخطط والمشاريع الثقافية قادرة على التكيّف والتناغم مع المجتمعات، وتلبي الحاجات الفعلية لهذه المجتمعات.
المفارقة الرابعة، يكشف مفهوم الثقافة السياسية، أن الثقافة لها فاعلية سياسية، وتصدر منها مثل هذه الفاعلية، وجاء هذا المفهوم ملتفتاً لتلك الفاعلية، ومصوراً ومفسراً لها. في المقابل يكشف مفهوم السياسة الثقافية أن السياسة لها فاعلية ثقافية، وتصدر منها مثل هذه الفاعلية. وهكذا يصدق القول أيضاً على أن هذا المفهوم جاء ملتفتاً لتلك الفاعلية ومصوراً ومفسراً لها.
هذا عن المفارقات، أما المشترك الأساسي بين المفهومين، فهو أن كلاً منهما ناظر إلى التنوعات الاجتماعية والتعدديات الثقافية، التي تظهر وتتشكل في المجتمعات الإنسانية. والمقصود من التنوعات الاجتماعية مجموع الشرائح والفئات التي تتشكل منها المجتمعات، والتي تقسم إلى تقسيمات عديدة، منها التقسيم على أساس النوع كالنساء والرجال، ومنها التقسيم على أساس العمر كالأطفال والشباب والشيوخ، أو التقسيم على أساس المستوى المعيشي كالفقراء والأغنياء ومتوسطي الدخل.. إلى غير ذلك من تقسيمات. والمقصود من التعدديات الثقافية مجموع التكوينات الاجتماعية المتمايزة ثقافياً، والتي تتعدد إما على أساس ديني ومذهبي، وإما على أساس قومي ولغوي، وإما على أساس محلي ومناطقي، إلى غير ذلك.
والثقافة السياسية في علاقتها بالتنوعات الاجتماعية، تحاول تفسير طبيعة السلوك السياسي الذي يصدر من تلك التنوعات الاجتماعية، وهو السلوك السياسي الذي يتعدد ويختلف حسب مكونات تلك التقسيمات الاجتماعية. فالسلوك السياسي الذي يصدر من النساء، يختلف عن السلوك السياسي الذي يصدر من الرجال. والسلوك السياسي الذي يصدر من الشباب قد يختلف عن السلوك السياسي الذي يصدر من الشيوخ.. وهكذا الاختلاف بحسب التقسيمات الأخرى.
وعلاقة الثقافة السياسة بالتعدديات الثقافية، تنطلق من أن السلوك السياسي الذي يصدر من مكونات تلك التعدديات الثقافية، قد يختلف ويتعدد ويتباين بحسب اختلاف وتعدد مكوناتها المذهبية أو القومية أو المناطقية. والثقافة السياسية تأتي في نطاق محاولة علمية منظمة لتفسير ذلك السلوك باعتبار أن مؤثراته تأتي من الثقافة، وتأتي من السياسة أيضاً.
أما علاقة السياسة الثقافية بالتنوعات الاجتماعية، فإن مفهوم السياسة الثقافية جاء أساساً لكي يلفت النظر إلى تلك التنوعات الاجتماعية، ويتوجه إلى كل أنواعها وأقسامها، ويدفع بالتنمية الاقتصادية والتنمية الثقافية لأن تلتفتا إلى حقوق ومطالب واحتياجات تلك الفئات والشرائح، مع التأكيد والاهتمام على الفئات والشرائح الضعيفة والمهمشة، أو التي تحتاج إلى مزيد من الدعم والحماية، والعمل على بلورة وصياغة برامج وخطط تتوجه بصورة أساسية إلى مثل هذه الفئات. وهكذا الحال في علاقة السياسة الثقافية بالتعدديات الثقافية، حيث يقوم مفهوم السياسة الثقافية بدور أساسي في حماية حقوق تلك التعدديات الثقافية والدفاع عنها، والعمل على تحقيقها من خلال برامج وخطط التنمية الاقتصادية والتنمية الثقافة والاجتماعية.
من هنا يتحدد فصل الخطاب بين مفهومي الثقافة السياسية والسياسة الثقافية وطبيعية مجال كل منها1.
- 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ الأربعاء / 4 مايو 2005م، العدد 14130.