في جاهلية هذا العالم الذي نعيش حيث تغيب الشروط الموضوعية لحياة تحقق غاية الوجود الإنساني. وفي ظل اختلال المعايير والموازين إلا ما يتطابق منها مع المصالح والفوائد التي يسعى لها أصحابها.
تبقى الثقافة الإسلاميةالموئل لمواجهة الإنحطاط والتردي والقلق الذي تتخبط به معظم المجتمعات البعيدة في سلوكها عن التوجهات الإسلامية الأصيلة.
والثقافة الإسلامية التي ندعو لها تتميز في كونها ثقافة رسالية، أي انها تحمل رؤية واضحة الى الحياة والهدف منها، فلا تحلق في فضاء الأفكار والتصورات وتقف عندها، وإنما تتحدث بلسان الواقع، وتقترب منه الى المستوى الذي يحقق الإنسجام بين النظرية وملابساتها، وبين الواقع وحركيته. يضاف الى أن هذه الثقافة تشتمل على كل العناصر والمفردات التي تقع في طريق إشباع حاجات الفرد الروحية والتربوية والمادية، وما يوجه علاقاته الإجتماعية من غير أن يغترب عن العصر ومتطلباته، بل يسعى للإنخراط فيه والتكيّف مع متغيراته.
والثقافة الإسلامية الموصوفة بالرسالية تتقوم من خلال إدراك كل الجوانب التي تحفظ للإنسان كرامته وحريته وتقدمه المستمر. فهي إذاً ثقافة (المبادرة) والدينامية والحيوية في إطار القيم والتوجيه الإلهي المتمثلة في العديد من الشعائر التعبدية والشرائع الإعتقادية والمسلكية.
من هنا يتضح أن البناء الثقافي الإسلامي يستند الى رؤية نظرية شاملة والى فلسفة عملية منفتحة على مختلف الوسائل الحديثة، والتجارب الإنسانية العميقة، لبلوغ مرحلة النضج والوعي الكامل في التعرف على سر وجود الإنسان ودوره ومساره في هذه الحياة.
ومن جملة الأمور التي تتحرك في دائرة أصالة هذه الثقافة، هي فكرة التعارف كحقيقة على إنسانية العقيدة الإسلامية، وانفتاحها على الشعوب والحضارات بروح التفهم والتفاهم، مما يعطي انطباعاً ايجابياً عن طبيعة المنهج المعتدل والمتسامح، وإيمانه بالإتصال والتواصل والمحاورة، الأمر الذي يستدعي شرطاً إنسانياً إضافياً يقوم على حرية المعتقد والرأي والإنتماء التي تعتبر من أبرز ملامح العصر الحديث.
مما يعني ان الثقافة الإسلامية لا تؤمن بالعزلة والتقوقع ضمن سياقات فكرية محددة، او بيئات مجتمعية مغلقة، بل على العكس من ذلك فهي تتقوم وتتجدد كلما ذهبت بعيداً في دنيا الإنسان حينما تقدر خصائصه وظروفه النفسية والاجتماعية والحضارية. وحينما توائم بين دوافع فطرته وبين حركته الظاهرية وفق الأهداف الكلية للسماء.
فالثقافة الإسلامية تؤكد رساليتها عندما يصبح الآخر (المختلف) وكيفية التعامل معه محوراً من محاور الإيمان والإلتزام الديني الواعي. وعندما يغدو التعايش بين الأفراد والأديان والقوميات مبدأً إيمانياً، وأحد صور العبادة عند الفرد المسلم.
وعندما تستهدي بالنظرة الموضوعية الشاملة لأحداث الحياة اليومية، ولمسيرة التاريخ المديد بكل ما يحفل به من تطورات في حقول البناء الأخلاقي والسياسي والمعرفي. على أن واحدة من المحددات التي على أساسها تنبي قواعد الثقافة الإسلامية الرسالية تكمن في موضوعة تهذيب النفس ومعالجة سلوك الفرد، والوقوف على الكليات والجزئيات فيما يتعلق بطبيعة مقاربته للعادات والفنون والأزياء والتقنيات الحديثة، وأيها أقرب الى الرشد، ومصلحته في محاكاته لظواهر العصر وأوضاعه.
من هنا يتركز الهم على (أسلمة التقاليد والعادات) بما ينسجم مع خط الإسلام ونظرته الى الإبداعات والإبتكارات والمنتجات الإنسانية، سواء في المجال القيمي أو السياسي أو الإقتصادي أو غيرها من مجالات الحياة الإنسانية العامة. فكل فعل من الأفعال، أو فكرة من الأفكار، أو ظاهرة من الظواهر، تحيد عن ما رسمه الإسلام يعتبر جزءاً من مهمة الثقافة الإسلامية الرسالية في مقاومتها للفساد والجاهليات الجديدة. وهذا يتطلب منها أن تكون ثقافة إصلاحية تتخذ الحق منهجاً في تقويم الإعوجاج في الأخلاق والعادات والمظاهر المجتمعية كافة.
وما من شك أن الثقافة الإسلامية تتطلع من وراء ذلك الى تحقيق المقتضيات المدنية لاستقرار الأفراد والمجتمعات، وتستهدف إصلاح الإنسان وسلوكه امام هجمة الحضارة المادية وقدراتها وإمكانياتها الهائلة، مما يتطلب أن تكون الثقافة الإسلامية الرسالية – وهذا ما نعتقده – ثقافة ثورية منطلقة من أصالة البيئة الإسلامية لمعالجة المشاكل والصعوبات التي تعترض المسارات الإنسانية، وتعطي الإنسان البصيرة في الحياة، وتفتح أمامه الخيارات لإدراك الأهداف من منطلق حرية الإنسان وكرامته1.
- 1. المصدر: اللواء الجمعة 19/8/2005 العدد 11464 السنة 43 / جريدةالنهار الأحد 21 آب السنة 73 العدد 22402، سماحة الشيخ عفيف النابلسي حفظه الله.