لا معبود سوى الله
التَّوحيد في العبادة ممّا اتفق على اختصاصه بالله سبحانه جميع المسلمين بل الإِلهيّين، فلا يسجل اسم احد في سِجِلّ الموحدين أو المسلمين إلاّ أن يُخَصّص العبادة بالله وحده فلو عممها له ولغيره، لا يكون مسلماً ولا موحداً.
وهذه القاعدة الكلية لا يشك فيها أي مسلم، كيف والقرآن يصرّح بأن الغاية والهدف الأسنى من بعث الأنبياء هو الدعوة إلى التوحيد في العبادة، قال سبحانه: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّة رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾(النّحل:36). وشعار المسلمين من لدن بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى يومنا هذا هو تخصيص العبادة بالله سبحانه، كيف وهم يقرأون في صلواتهم: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾(الفاتحة:5). وكانت مكافحة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للثنويين تتركز على هذه النقطة غالباً كما هو ظاهر لمن راجع القرآن الكريم.
وبالجملة، لا تجد مسلماً ينكر أصل الضابطة والقاعدة بل الكل متفقون على صحتها قائلون بأنّ استحقاق العبادة من شؤون الربوبية، فمن كان ربّاً فهو مستحق للعبادة، وإذ لا ربّ سواه فلا معبود سواه. وإنما الكلام في تشخيص مصاديقها وجزئياتها عن غيرها، وهذه هي المشكلة الوحيدة في هذا الفصل، فإنَّ جلّ من يَعُدّون بعض الأفعال عبادة لم يتوفقوا في تحديد العبادة تحديداً منطقياً يتميز به مصداق العبادة عن غيرها. فلأجل ذلك ضربوا الكل بسهم واحد فخلطوا العبادة بغيرها، وأجروا على الكل حكم الشّرك. ومن هنا يجب على الباحث الكلامي تحديد مفهوم العبادة حتى يتميز مصداقها عن مصداق غيرها كالخضوع والتعظيم.
ما هي العبادة؟
لفظ العبادة من المفاهيم الواضحة كالماء والأرض ولكن مع وضوح مفهومها وحضور هذا المفهوم في الذهن يصعب التعبير عنه بالكلمات، فكما هي واضحة مفهوماً، كذلك واضحة مصداقاً بحيث يسهل تمييز مصاديقها عن مصاديق التعظيم والتكريم. فتقبيل العاشق دار معشوقته، أو تراب قبرها بعد موتها لا يوصف بالعبادة، كما أن ذهاب الناس إلى زيارة من يعنيهم من الشخصيات، والوفود إلى مقابرهم، أو الوقوف أمامها احتراماً لا يعد عبادة وإنْ بلغ من الخضوع ما بلغ.ولكن لكي نعطي ضابطة كلية لتمييز المصاديق نأتي بتعاريف ثلاثة تتميز بها العبادة عن التكريم والتعظيم وإليك بيانها.
التعريف الأوّل
العبادة هي: “الخضوع اللفظي أو العملي الناشئ عن الاعتقاد بألوهية المخضوع له”(سيوافيك فيما يأتي معنى الالوهية) ويتضح صدق هذا التعريف ببيان أمرين:
الأول: إن العرب الجاهليين الذين نزل القرآن في أوساطهم وبيئاتهم، بل كل الوثنيين وعبدة الشمس والكواكب والجن، كانوا يعتقدون بألُوهية معبوداتهم، ويتخذونها آلهة صغيرة، وفوقها الإِله الكبير الّذي نسميه بـ”الله” سبحانه وتعالى.
الثاني: إنَّ العبادة عبارة عن القول أو العمل الناشئين من الاعتقاد بألوهية المعبود، وأَنَّه ما لم ينشأ الفعل أو القول من هذا الاعتقاد، فلا يكون الخضوع أو التعظيم والتكريم عبادة.
أما الأمر الأول فيدل عليه آيات كثيرة نشير إلى بعضها، يقول سبحانه:
﴿الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾(الحجر:96).
﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً﴾(مريم:81).
﴿أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى﴾(الأنعام:19).
﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً﴾(الأنعام:74).
فهذه الآيات تشهد على أنَّ دعوة المشركين كانت مصحوبة بالاعتقاد بألوهية أصنامهم وقد فسّر الشرك في بعض الآيات بـ”اتخاذ الإِله مع الله”، وذلك في قوله سبحانه: ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ *إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾(الحجر:94-96). وفي آية أُخرى يفسّر حقيقة الشّرك بـ”اعتقاد أُلوهية المعبود” وذلك في قوله سبحانه: ﴿أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾(الطور:43) فجعل مِلاك الشّرك الاعتقاد بألوهية غير الله والمراد من الشّرك هنا، الشّرك في العبادة.
فبهذه الآيات ونظائرها يتجلى بوضوح تام أنَّ شركهم كان بسبب اعتقادهم ألوهية معبوداتهم وبسبب هذا الاعتقاد كانوا يعبدونها ويقدمون لها النذور والقرابين وغير ذلك من التقاليد والسنن العبادية.وبما أنَّ كلمة التَّوحيد تهدم عقيدتهم بألوهية غير الله سبحانه، كانوا يستكبرون عند سماعها كما قال عزّ وجل: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ﴾(الصافات:35) أي يرفضون ما قيل لهم، لأنهم يعتقدون بألوهية معبوداتهم أيضاً، ويعبدونها لأنها آلهة بحسب تصورهم.
ولأجل هذه العقيدة السخيفة كانوا إذا دُعي الله وحده كفروا به، وإذا أُشرك به آمنوا كما قال سبحانه: ﴿ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِىَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ للهِ الْعَلِي الْكَبِيرِ﴾(غافر:12).
وأما الأمر الثاني: فيدل عليه الآيات الّتي تأمر بعبادة الله وتنهى عن عبادة غيره، مدلّلة ذلك بأنَّه لا إله إلا الله كقوله سبحانه وتعالى: ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَه غَيْرُهُِ﴾(الأعراف:59) ومعنى ذلك أنَّ الّذي يستحق العبادة هو من كان إِلهاً، وليس هو إِلاَّ الله.وعندئذ فكيف تعبدون ما ليس بإله.وكيف تتركون عبادة الله وهو الإِله الّذي يجب أن يُعبد دون سواه؟ وفي هذا المضمون وردت آيات كثيرة أخرى1.
فهذه التعابير الّتي هي من قبيل تعليق الحكم على الوصف، تفيد أنّ العبادة هي الخضوع والتذلّل النابعين من الاعتقاد بألوهية المعبود، إذ نلاحظ بجلاء كيف إنَّ القرآن استنكر عبادة المشركين غير الله بأنَّ هذه المعبودات ليست بآلهة، وأنَّ العبادة من شؤون الألوهية، فإذا تحقق وصف الألوهية في شيء جازت عبادته واتخاذه معبوداً.وحيث أنَّ هذا الوصف لا يوجد إلاّ في الله سبحانه وجب عبادته دون سواه.
فإلى هنا اتضح أنَّ الحق في التعريف هو أنْ يقال:”إنَّ العبادة هي الخضوع النابع عن الإِعتقاد بألوهية المعبود“وإلى ذلك يشير العلاّمة الحجة المرحوم الشيخ محمد جواد البلاغي في تفسيره المسمى بـ”آلاء الرحمن” في معرض تفسيره وتحليله لحقيقة العبادة قال: “العبادة ما يرونه مشعراً بالخضوع لمن يتّخذه الخاضع إليهاً ليوفيه بذلك ما يراه له من حق الامتياز بالأُلوهية”2.
لقد صَبَّ العلامة البلاغي ما يدركه فطرياً للعبادة في قالب الألفاظ والبيان. والآيات المتقدمة تؤيد صحّة هذا التعريف واستقامته.
التَّعريف الثاني
العبادة هي: “الخضوع أمام من يعتقد بأنه يملك شأنا من شؤون وجود العابد وحياته وآجله وعاجله”.
توضيح ذلك: إنَّ العبودية من شؤون المملوكية ومقتضياتها، فعندما يحسّ العابد في نفسه بنوع من المملوكية، ويحسّ بالمالكية في الطرف الآخر، يُفرغ إحساسه هذا، في الخارج، في ألفاظ وأعمال خاصة، وتصير الألفاظ والأعمال تجسيداً لهذا الإِحساس، ويكون كل عمل أو لفظ مُظْهِر لهذا الإِحساس العميق، عبادة.
ولا شك أنْ ليس المقصود بالمالكية، مطلق المالكية، فالاعتقاد بالمالكية القانونية والاعتبارية لا يكون أبداً موجباً لصيرورة الخضوع عبادة. والبشر في عصور “العبوديات الفردية” بالأمس، و”العبودية الجماعية” في الحاضر، لا يعدون امتثالهم لأوامر أسيادهم عبادة. وإنما المقصود من المملوكية هنا، القائمة على أساس الخلق والتكوين والتسلّط على شأن من شؤون التكوين.فالمالكيات الحقيقية لها مناشئ مختلفة وهاك بيانها:
1- قد يوصف بالمالكية لكونه خالقاً، ومن هنا يكون الله سبحانه مالكاً حقيقياً للبشر لأنه خالقه وموجوده من العدم.ولهذا نجد القرآن الكريم يعتبر جميع الموجودات الشاعرة عبيداً لله، ويصفهم تعالى بأنه مالكهم الحقيقي وذلك لأنه خلقهم، إذ يقول سبحانه: ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّموَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِى الرَّحْمَنِ عَبْداً﴾(مريم:93).
ولأجل ذلك أيضاً نجده سبحانه يأمرهم بعبادة نفسه معللاً بأنه هو ربّهم الّذي خلقهم دون سواه، إذ يقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾(البقرة:21)ويقول جل شأنه: ﴿ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَىْء فَاعْبُدُوهُ﴾(الأنعام:102).
2- ويوصَف بالمالكية لكونه رازقاً ومحيياً ومميتاً، ولذلك يحس كل إنسان سليم الفطرة بمملوكيته لله تعالى، لأنَّه سبحانه مالك حياته ومماته ورزقه.ومن هنا يلفت القرآن نظر البشر إلى مالكية الله تعالى لرزق الإِنسان وأنه تعالى هو الّذي يميته وهو الّذي يحييه، ليلفته من خلال ذلك إلى أنَّ الله هو الّذي يستحق العبادة فحسب، إذ يقول عزّ من قائل: ﴿اللهُ الذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾(الروم:40). ويقول سبحانه: ﴿هَلْ لَكُمْ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾(الروم:28) يقول تعالى: ﴿هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾(يونس:56).
3- ويوصَف بها لكون الشفاعة والمغفرة بيده، وحيث إنَّ الله تعالى هو المالك للشفاعة المطلقة لقوله تعالى: ﴿قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً﴾(الزُّمر:44)، ولمغفرة الذنوب لقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ﴾(آل عمران:135)، بحيث لا يملك أنْ يشفع أحد لأحد من العباد إلاَّ بإذنه، لذلك يشعر الإِنسان في قَرارَة ضميره بأنَّ الله سبحانه مالك مصيره من حيث السعادة الأُخروية، وإذا أحس إنسان بمملوكية كهذه ومالكية كتلك، ثم جَسَّد هذا الإِحساس في قالب اللفظ أو العمل، كان عابداً له بلا ريب.
وإلى ذلك يرجع ما ربما يفسّر العبادة بأنَّها خضوع أمام من يعتقد بربوبيته، فمن كان خضوعه العملي، أو القولي أمام أحد نابعاً من الاعتقاد بربوبيته، كان بذلك عابداً له.ويكون المقصود من لفظة “الرّب” في هذا التعريف هو المالك لشؤون الشيء، القائم بتدبيره وتربيته.
ويدل على ذلك أنَّ قسماً من الآيات تعلل الأمر بحصر العبادة في الله وحده بأَنه الربّ، فمن ذلك قوله سبحانه: ﴿وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ﴾(المائدة:72).وقوله سبحانه: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾(الأنبياء:92). وقوله سبحانه: ﴿إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾(آل عمران:51). وغير ذلك من الآيات الّتي تجعل العبادة دائرة مدار الربوبية3.
التعريف الثالث
ويمكننا أَنْ نصبَّ إدراكنا للعبادة في قالب ثالث فنقول:العبادة هي “الخضوع ممن يرى نفسه غير مستقل في وجوده وفعله، أمام من يكون مستقلاً فيهما”. وليس الغني المستقل إلا الله سبحانه، وقد وصف نفسه تعالى في غير موضع من كتابه بالقيوم قال عز من قائل: ﴿اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيّومُ﴾(البقرة:255، وآل عمران: 2) وقال سبحانه: ﴿وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ﴾(طه:111).ولا يراد منه سوى كونه قائماً بنفسه، ليس فيه أيّة شائبة من شوائب الفقر والحاجة إلى الغير، بل كل ما سواه قائم به.
وبعبارة أُخرى: العبادة نداء الله تعالى وسؤاله، والقيام بخضوع في محضره، وطلب حاجات الدنيا والآخرة منه على أَنه الفاعل المختار والمالك الحقيقي لأُمور الدنيا والآخرة كلها، والمتصرف فيها، فلو نودي موجود آخر بهذا الوصف، تماماً أو بعضاً، فالنداء عبادة له وشرك فيه، والمنادي مشركٌ بلا كلام.فالذي يجب التركيز عليه هو أَن نعرف ما هو فعل الله سبحانه ونميزه عن فعل غيره وصلاحيته، حتى لا نقع في ورطة الشرك عند طلب شيء من الأَنبياء والأَولياء وغيرهم من الناس، فنقول:
إنَّ من أَقسام الشرك هو أَنْ نطلب فعل الله تعالى من غيره، ومن المعلوم أَنَّ فعل الله تعالى ليس هو مطلق الخلق والتدبير والرزق سواء أكان عن استقلال أم بإِذن الله لأَنه سبحانه نسبها إلى غيره في القرآن، بل هو القيام بالفعل مستقلاً من دون استعانة بغيره، فلو خضع أحد أمام آخر بما أنه مستقل في فعله سواء أكان الفعل فعلاً عادياً كالمشي والتكلّم، أم غير عادي كالمعجزات الّتي كان يقوم بها سيدنا المسيح عليه السَّلام مثلاً، من خلق الطَّير من الطين وإِبراء الأَكْمَه والأَبرص وإِحياء الموتى والإِنباء بالمغيّبات، يُعَدُّ الخضوع عبادة للمخضوع له.
توضيح ذلك: إِنَّ الله سبحانه غني في فعله، كما هو غني في ذاته عما سواه، فهو يخلق ويرزق ويحيي ويميت من دون أَنْ يستعين بأَحد سواء في أَفعاله المباشرية أو التسبيبية أو يستعين في خلقه بمادة قديمة غير مخلوقة له.فلو اعتقدنا بأَن أَحداً مستغن في فعله العادي وغير العادي عمن سواه، وأَنه يقوم بما يريد من دون استمداد واحتياج إلى أحد حتى الله سبحانه، فقد أَشركناه مع الله واتخذناه نداً له تعالى.
فالمِلاك في هذا التعريف هو “استقلال الفاعل” في فعله، وعدم استقلاله.والتوحيد بهذا المعنى ممّا يشترك فيه العالم والجاهل.
نعم ما يدركه المتألّه المثالي من التفاصيل في مورد الاستقلال في المعبود، وعدمه في العابد على ضوء الأدلة العقلية والكتاب العزيز، ممَّا يدركه غيره أيضاً بفطرته الّتي خلق عليها، فلا يلزم من اختصاص فهم التفاصيل بهذه الطبقة أي المتألّهين البصيرين حرمان الجاهلين من فهم معاني العبادة ومشتقاتها الواردة في القرآن ومحاوراتهم العرفية، فالعبادة بهذا المعنى أي باعتقاد كون المعبود مستقلاً يشترك فيه العالم والجاهل، والكامل وغير الكامل، غير أنَّ كل فرد من الناس يفهمه على قدر ما أُعطي من الفهم والدرك كما قال سبحانه: ﴿فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾(الرعد:17) وحيث إنَّ الدارج في ألسِنَة المتكلمين في المقام التعبير بـ”التفويض” فلنشرح مقاصدهم.
ماذا يراد من التفويض؟
اتَّفقت كلمة الموحدين على أنَّ الاعتقاد بالتفويض موجب للشّرك، وأنَّ الخضوع النابع من ذاك الاعتقاد يُعَدّ عبادة للمخضوع له، والتفويض يتصور في أمرين:
1- تفويض الله تدبير العالم إلى خيار عباده من الملائكة والأنبياء والأولياء، ويسمى بالتفويض التكويني.
2- تفويض الشؤون الإِلهية إلى عبادة كالتقنين والتشريع، والمغفرة والشفاعة، ممّا يعد من شؤونه سبحانه ويسمى بالتفويض التشريعي.
أمَّا القسم الأول: فلا شك أنَّه موجب للشرك، فلو اعتقد أحد بأنَّ الله فوّض أمور العالم وتدبيرها من الخلق والرزق والإِماتة ونزول الثلج والمطر وغيرها من حوادث العالم إلى ملائكته أو صالحي عباده، فقد جعلهم أنداداً له سبحانه، إذ لا يعني من التفويض إلاّ كونهم مستقلين في أفعالهم، منقطعين عنه سبحانه فيما يفعلون وما يريدون.
فالأمر دائر بين كون العبد ذا فعل بالاستقلال والانقطاع عن الله سبحانه (وهو قسمان استقلال العبد في الأفعال الراجعة إلى تدبير العالم والحوادث الواقعة فيه وهو محل البحث. واستقلاله في أفعال نفسه كمَشْيِه وتكلمه وهو ما يأتي البحث عنه في الجبر والتفويض وهو الفصل السَّادس من الكتاب) أو كونه إذا شأن بأمره تعالى وإذنه ومشيئته ولا قسم ثالث. والأول منهما هو التفويض. وأما الثاني وهو الاعتقاد بأنَّ القديسين من الملائكة والجنّ أو الأنبياء أو الأولياء مدبرون للعالَم بإذنه ومشيئته وأمره وقدرته من دون أنْ يكونوا مستقلين فيما يفعلون، أو مفوّضين فيما يعملون، فليس موجباً للشرك، بل أمره دائر حينئذ بين كونه صحيحاً مطابقاً للواقع كما في الملائكة أو غَلَطاً مخالفاً له، كما في الأنبياء والأولياء، فإنهم غير واقعين في سلسلة العلل والأسباب بل هم كسائر الناس يستفيدون من النظام الطبيعي بحيث يختل عيشهم وحياتهم عند اختلال تلك النُّظم.ومعلوم أنه ليس كل مخالف للواقع يعتبر شركاً، إذ عند ذاك يحتل الولي مكان العلّة الطبيعية والنظم المادية، وليس الاعتقاد بوجود هذا النوع من العلل والأسباب مكان النظم المادية للظاهرة شركاً.
وقد مرَّ أنَّ مشركي عهد الرسالة كانوا يعتقدون لآلهتهم نوعاً من الاستقلال في الفعل وكانوا يتوجهون إليها على هذا الأساس.وقد جاء في السيرة أنه لما أصاب المسلمين مطر في الحديبية لم يبلّ أسفل نعالهم أي ليلاً، فنادى منادي رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ مناديه أنْ ينادي ألا صَلّوا في رحالكم.وقال صلى الله عليه وآله وسلم صبيحة ليلة الحديبية لما صلّى بهم: “أتدرون ما قال ربّكم”.قالوا: الله ورسوله أعلم.قال: قال الله عز وجل:”صَبَّحَ بي مِنْ عِبادِي مُْؤمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فأمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنا بِرَحْمَةِ الله وَفَضْلِه، فهو مُْؤمِنٌ بالله وكافِرٌ بالكَواكِب، وَمَنْ قَالَ: مُطِرْنا بِنَجْم كِذَا وفي رواية: بِنَوْءِ كذا وكذا فهو مُْؤمِنٌ بالكَواكِبِ وكافرٌ بِي”4.
وأمَّا القسم الثاني
وهو الاعتقاد بأنَّ الله سبحانه فوضّ إلى أحد مخلوقاته بعض شؤونه كالتقنين والتشريع والشفاعة والمغفرة، فلا ريب أنه شرك بالله، واتخاذ ندّ له كما يقول سبحانه: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ﴾(البقرة:165) والموجود لا يكون ندّاً لله سبحانه، إلاَّ إذا كان قائماً بفعل أو شأن من أفعال الله وشؤونه سبحانه مستقلاً، لا ما إذا قام به بإذن الله وأمره، فلا يكون عندها ندّاً، بل عبداً مطيعاً له مؤتمراً بأمره، منفذاً لمشيئته تعالى، هذا.
وقد كان أخف ألوان الشرك وأنواعه بين اليهود والنصارى والعرب الجاهليين اعتقاد فريق منهم بأنَّ الله سبحانه فوّض حقّ التقنين والتشريع إلى الرُّهبان والأحبار كما يقول القرآن الكريم: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ﴾(التوبة:31)، وأنَّ الله فوّض حقّ الشفاعة والمغفرة اللّذيْن هما من حقوقه المختصة به إلى أصنامهم ومعبوداتهم، وأن هذه الأصنام والمعبودات “مستقلة” في التصرف في هذه الشؤون، فهي شفعاؤهم عند الله، ولأجل ذلك كانوا يعبدونها، كما يقول عزّ مِنْ قائل: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ﴾(يونس:18). ولذلك أصرّت الآيات القرآنية على القول بأنَّه لا يشفع أحد إلاَّ بإذن الله، فلو كان المشركون يعتقدون بأنَّ معبوداتهم تشفع لهم بإذن الله لما كان لهذا الإِصرار على مسألة متفق عليها بين المشركين، أيّ مبرر.على أن ذلك الفريق من الجاهليين إنما كانوا يعبدون الأصنام لكونها تملك شفاعتهم، وأنَّ عبادتها توجب التقرب إلى الله، لا لكونها خالقة أو مدبرة للكون، وفي هذا يقول القرآن الكريم حاكياً مقالتهم: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى﴾(الزمر:3).
زبْدَة المقال
خلاصة القول في المقام، إنَّ أي عمل ينبع من الاعتقاد بأنَّ الله سبحانه إله العالم أو ربّه أو غني في فعله، ويكون كاشفاً عن هذا النوع من التسليم المطلق، يعد عبادة له، ويكون صاحبه مشركاً إذا فعل ذلك لغير الله.
ويقابل ذلك، القول والفعل والخضوع غير النابع من هذا الاعتقاد. فخضوع أحد أمام موجود وتكريمه مبالغاً في ذلك من دون أن ينبع من الإِعتقاد بألوهيته، لا يكون شركاً ولا عبادة لهذا الموجود، وإن كان من الممكن أن يكون حراماً.مثل سجود العاشق للمعشوقة أو المرأة لزوجها، فإنه وإن كان حراماً في الشريعة الإِسلامية لكنه ليس عبادة بل حرمته لوجه آخر فالعبادة والتحريم شيئان.
ومن هذا البيان يتضح جواب سؤال يطرح نفسه في هذا المقام وهو: إذا كان الاعتقاد بالألوهية أو الربوبية أو التفويض، شرطاً في تحقق العبادة فيلزم من ذلك جواز السجود لأي شخص من دون ضمّ هذه النية.
ويجاب عليه: بأنَّ السجود حيث إنَّه وسيلة عامة للعبادة، وحيث إنَّ الله تعالى يُعبد بها عند جميع الأقوام والملل والشعوب، وصار بحيث لا يراد منه إلاّ العبادة، لذلك لم يسمح الإِسلام بأنْ يستفاد من هذه الوسيلة العالمية حتى في الموارد الّتي لا تكون عبادة.وهذا التحريم إنما هو من خصائص الإسلام إذ لم يكن حراماً قبله، وإلاّ لما سجد يعقوب وأبناؤه ليوسف عليه السَّلام إذ يقول عز وجل: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدا﴾(يوسف:100).ومن هذا القبيل سجود الملائكة لآدم كما يقول سبحانه: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدمَ …﴾(البقرة34) فإنه لم يكن إلاّ سجود تكريم واحترام.
قال الجصاص: “قد كان السجود جائزاً في شريعة آدم عليه السَّلام للمخلوقين ويشبه أنْ يكون قد كان باقياً إلى زمان يوسف عليه السَّلام فكان فيما بينهم لمن يستحق ضرباً من التعظيم ويراد إكرامه وتبجيله، بمنزلة المصافحة والمعانقة فيما بيننا، وبمنزلة تقبيل اليد، وقد روي عن النبي عليه السَّلام في إباحة تقبيل اليد أخبار، وقد روي الكراهة إلاَّ أنَّ السجود لغير الله على وجه التكرمة والتحية منسوخ بما روت عائشة وجابر وأنس إنَّ النبي قال: “ما ينبغي لبشر أنْ يسجد لبشر، ولو صَلُح لبشر أنْ يسجد لبشر لأمَرْتُ المرأة أنْ تسجد لزوجها من عظم حقه عليها”5.
والحاصل: إنَّ خضوع أحد أمام آخرين لا باعتقاد أنهم “آلهة” أو “أرباب”أو “مصادر للأفعال والشؤون الإِلهية” بل لأن المخصوع لهم مستوجبون للتعظيم لأنهم: ﴿عِبَادٌ مُكْرَمُونَ *لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ ِوَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾(الأنبياء:26-27)، ليس هذا الخضوع والتعظيم والتواضع والتكريم عبادة قطعاً. وقد مدح الله تعالى فريقاً من عباده بصفات تستحق التعظيم عندما قال: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾(آل عمران:33).وقال في اصطفاء إبراهيم: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾(البقرة:124).فهذه الأوصاف العظيمة توجب نفوذ محبتهم في القلوب والأفئدة وتستوجب احترامهم في حياتهم وبعد مماتهم.بل إنَّ بعض الأولياء عليهم السَّلام فُرضت على المسلمين محبتهم بنصّ القرآن إذ يقول سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى﴾(الشورى:23).
وعلى ما ذكرنا لا يكون تقبيل يد النبي، أو الإِمام، أو المعلم، أو الوالدين، أو تقبيل القرآن أو الكتب الدينية، أو أضرحة الأولياء وما يتعلق بهم من آثار، إلا تعظيماً وتكريماً، لا عبادة.
إلى هنا تبينت واتضحت حقيقة العبادة بالتعريفات الثلاثة الّتي ذكرناها وأسهبنا في توضيحها ويمكنك بعد ذلك أنْ تعرف مدى وهن التعريفات الأُخرى الّتي تُذكر للعبادة ونذكر منها التعريفين التاليين:
تعريفان ناقصان للعبادة
أ- العبادة: “خضوع وتذلّل”.
وقد ورد هذا التعريف في كتب اللّغة، ولكنه لا يعكس المعنى الحقيقي للعبادة الّذي نردده في قولنا: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾. وإنما هو معنى مجازي لمناسبة ما يلازم العبادة الحقيقية عادة من إظهار الخضوع والتذلّل.وقد استعملت العبادة في هذا المعنى المجازي في القرآن الكريم في حكايته قول موسى عليه السَّلام: ﴿وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾(الشعراء:22)ويدلنا على أنَّ هذا المعنى ليس حقيقياً للعبادة أمران:
الأول: لو كانت العبادة مرادفة في المعنى للخضوع والتذلّل، لما أمكننا أنْ نعتبر أي إنسان موحداً لله لأن البشر بفطرته يخضع لمن يتفوق عليه، معنوياً أو مادياً، كالتلميذ يخضع لأُستاذه، والولد لوالديه، والمحب لحبيبه، والمستعطي لمعطيه.
الثاني:إنَّ القرآن الكريم يأمر الإِنسان بأنْ يتذلّل لوالديه فيقول: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جُنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً﴾(الإسراء:24) فلو كان الخضوع والتذلّل معناه عبادة مَنْ تَذَلّلت له، لاستلزم الحكم بكفر من يَبرّ والديه، والحكم بتوحيد من يَعق والديه.
ب- العبادةُ “نهاية الخضوع”.
لقد حاول بعض المفسرين بعد أن أدركوا نقصان تعريف اللغويين للعبادة ترميم هذا النقص وإصلاحه فقالوا: “العبادة:نهاية الخضوع بين يدي من تدرك عظمته وكماله”. وهذا التعريف يشترك مع سابقه في النقص والإِشكال وذلك:
1- لأنَّ الله تعالى يأمر الملائكة بالسجود لآدم فيقول: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ﴾(البقرة:34) والسجود هو نهاية التذلّل والخضوع للمسجود له، فإذا كان معنى العبادة هو نهاية الخضوع فإنه يستلزم القول بكفر الملائكة الذين سجدوا لآدم امتثالاً لأمره تعالى مع ما رواه فيه من الاختصاص بعلم الأسماء كلها.
2- إنَّ إخوة يوسف ووالديه سجدوا جميعاً ليوسف بعد استوائه على عرش الملك والسلطنة كما يقول تعالى: ﴿وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا﴾(يوسف: 100).
والرؤيا الّتي أشار إليها يوسف في الآية هي ما أشار إليه تعالى بقوله: ﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾(يوسف: 4).
3- إنَّ كل المسلمين اقتداء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُقَبّلون الحجر الأسود المستقر في زاوية الكعبة المُشَرَّفة، ويتبركون به، ونفس العمل هذا يقوم به عُبَّاد الأصنام تجاه أصنامهم مع العلم أَنَّ عملهم ذلك شرك قطعاً، وعمل المسلمين توحيد قطعاً.
إذن ليس معنى العبادة نهاية الخضوع والتذلّل، وإن كان ذلك من أركانها، ولكنه ليس الركن الوحيد لأن العبادة كما عرفت هي الخضوع والتذلّل المقرون بالاعتقاد الخاص “وهو الاعتقاد بألوهية المعبود” على ما عرفت ذلك مفصلاً.
نتائج البحث
إلى هنا خرجنا بهذه النتيجة وهي:إنَّ العبادة ليست سوى إظهار الخضوع أمام موجود يعتقد بأنَّه إله أو ربّ أو مُفَوَّض إليه الأفعال الإِلهية، فلو كان الخضوع خالياً عن هذا الإِعتقاد فلا يعد عبادة ولا شركاً فيها. وأمَّا كونه جائزاً أولا، نافعاً أوْلا، فالكل خارج عن إطار البحث.وبذلك يتضح أنَّ كثيراً من الموضوعات الّتي تُعَرّفها فرقة الوَهابية عبادة لغير الله وشركاً به، ليس صحيحاً على إطلاقه، وإنما هو شرك وعبادة على وجه، وخضوع عقلائي على وجه آخر.ولا يكون شركاً إلاَّ إذا كان المخضوع له معنوناً بأحد العناوين الثلاثة الآتية:
أـ إنَّه إله.
ب- إنه رب
ج- إنه مفوَّض إليه فعل الإِله.
ومن تلك الموضوعات
1- التوسل بأولياء الله.
2- الإِستعانة بأولياء الله في حياتهم.
3- الإِستعانة بأرواحهم بعد مماتهم.
4- طلب الشفاعة منهم في الحياة والممات.
5- استحلاف الله سبحانه بحق الأولياء.
6- الاستغاثة بأولياء الله
7- الحلف بغير الله.
8- الاعتقاد بالقدرة الغيبية لأولياء الله.
9- التبرك والاستشفاء بآثارهم.
10- النذر لأهل القُبور.
وغير ذلك ما أوجد به الوهابيّون صخباً وهياجاً بين السطحيين من المسلمين المتأثرين بأفكارهم.
فإن الكلمة الحاسمة في هذه الموضوعات من وجهة التوحيد والشرك هي محاسبة عقيدة القائم بهذه الأفعال والدقة فيما يعتقد به. فلو قام بها على أنَّ أولياء الله آلهة (آلهة صغيرة وإن كان فوقها إله كبير)، أو أنهم أرباب مدبرون ومديرون للكون كله أو بعضه، أو أنهم مُفَوّض إليهم أفعال الله سبحانه، فلا شك أنَّ أقل عمل صادر من أي شخص بهذه النية، حتى ولو كان كتقبيل الضريح ولمس القبر، يتصف بالعبادة، ويكون العامل مشركاً غير موحد في العبادة.
وأمَّا إذا قام بها مجردة عن تلك العقيدة، بل بما أنهم عباد مُخْلَصون مكرّمون، كرّسوا حياتهم في طريق رضا الله سبحانه، وقاموا ببذل النفس والنفيس في سبيله فلا يعد عبادة حتى ولو ركعوا وسجدوا لهم. وقد عرفت أنّ سجود الملائكة لآدم ويعقوب وأبناءه ليوسف كان مجسداً لأعظم خضوع وتعظيم، ولم يكن شركاً في العبادة. وأنَّ العرب الجاهليين كانوا واقعين في حبائل الشرك لا لأجل الخضوع المجرد للأصنام والأوثان، بل لأجل اعتقاد الألوهية والربوبية في حقهم واعتقادهم باستقلالهم بالنفع ونفوذ المشيئة.يقول سبحانه موبخاً إيَّاهم يوم القيامة على ما اعتقدوه للأصنام من الاستقلال في إيصال النفع ودفع الضرر: ﴿أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ﴾(الشعراء:92-93). ويقول حاكياً اختصامهم يوم القيامة إنهم يخاطِبون من اعتقدوا فيهم الربوبية وخصائصها: ﴿تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلاَل مُبِين * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾(الشعراء:97ـ 98)فانظر إلى هذه التسوية الّتي اعترفوا بها حيث يصدق الكذوب ويندم المجرم حين لا ينفعه ندم.فالتسوية المذكورة هي الّتي صيّرتهم مشركين، سواء أكانت تسوية في جميع الصفات أو في بعضها.
وممَّا يدل على اعتقادهم الربوبية في معبوداتهم، قوله سبحانه: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله﴾(البقرة:165)، وغير ذلك من الآيات الدّالة على أنهم كانوا يعتقدون في الأوثان والأصنام شيئاً من الأُلوهية والربوبية ولمعة من التفويض.فلولا هذا الاعتقاد لما اصطبغ العمل بالشرك بل صار بين كونه أمراً عقلائياً مفيداً كما إذا كان الخضوع عن حق كالخضوع للأنبياء والأولياء والعلماء والصلحاء والآباء والمُرَبّين، وكونه عملاً لاغياً غير مفيد إذا وقع في غير محله على ما عرفت.
فأنت بعدما وقفت على تحديد العبادة تقدر على القضاء في المسائل المطروحة من جانب الوهابية.
*الإلهيات، آية الله جعفر السبحاني، مؤسسة الامام الصادق عليه السلام.ج2، ص85-103
1- قد ورد هذا المضمون في عشرة موارد أو أكثر في القرآن الحكيم ويمكن للقارئ الكريم أنْ يراجع لذلك الآيات التالية:الأعراف-65 و73 و85، هود-50 و61 و84، الأنبياء /25، المؤمنون-23 و24، طه -14.
2- آلاء الرحمن، ص 57، طبعة صيدا. وقد طبع من هذا التفسير جزءان فقط.
3- لا حظ الآيات الكريمات التاليات:يونس:الآية 3، الحجر:الآية 99، مريم 36 و65، الزخرف:الآية 64.
4- السيرة الحلبية، ج 3، ص 29.
5- أحكام القرآن، ج 1، ص 32 لأبي بكر أحمد بن علي الرازي المعروف بالجصَّاص المتوفّى عام (370 هـ ق).