بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
بحثٌ في التفسير تحت عنوان:
التغايُر بين (أصحاب الصراط) وبين (من اهتدى)
بقلم: زكريَّا بركات
قال الله العظيم في كتابه الكريم: (قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى) [سورة طه: 135] .
يأمر الله (تعالى) نبيَّه الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يُخبر المشركين بأنَّ كلَّ واحدٍ متربِّص ينتظر مصيره وما يؤول إليه أمره، فعلى المشركين أن ينتظروا مصيرهم، وسوف يأتي اليوم الذي يتَّضح فيه للجميع من هم أصحاب الصراط السويِّ المستقيم، ومنهم المهتدون.
قال السيد الطباطبائي في تفسير الميزان: “التربُّص: الانتظار”.
ثمَّ قال: “أي كلٌّ منَّا ومنكم مُتربِّص منتظر، فنحن ننتظر ما وعده الله لنا فيكم وفي تقدُّم دينه وتمام نوره، وأنتم تنتظرون بنا الدوائر لتبطلوا الدعوة الحقَّة، وكُلٌّ منَّا ومنكم يسلك سبيلاً إلى مطلوبه، فتربَّصوا وانتظروا، وفيه تهديد، فستعلمون أيّ طائفةٍ منَّا ومنكم أصحاب الطريق المستقيم الذي يوصله إلى مطلوبه، ومن الذين اهتدوا إلى المطلوب”. انتهى.
أقول: لاحظ ربط السيد الطباطبائي بين عنوان (انتظار المطلوب) وعنوان (السلوك في سبيل المطلوب) ؛ فإنَّ هذا من البحوث المهمَّة في عصر الغيبة ومعنى الانتظار وعلاقته بالعمل والسلوك، وبالسلوك الإيجابي يتبلور الانتظار عمليًّا، وبه يكون الانتظار إيجابيًّا، فتدبَّر جيِّداً.
وممَّا ينبغي الوقوف عنده في تفسير الآية الكريمة: الارتباط بين عنواني (أصحاب الصراط السوي) و(من اهتدى) ، فهل هما تعبيران عن فئة واحدة كما يُفهم من كلام المفسِّرين؟ أم إنَّ أصحاب الصراط فئةٌ ومن اهتدى فئة أخرى وبينهما اختلاف في المقام والدرجة؟
الذي يظهر من معظم المفسِّرين أنهم فهموا المعنى الأوَّل، أي إنَّها فئة واحدة تم التعبير عنها بأسلوبين.
ولكن التدبُّر في القرآن والسنَّة ينتهي بنا إلى القول بأنَّهما فئتان، أي إنَّ (أصحاب الصراط السوي) فئة، بينما (من اهتدى) تعبير عن فئة أخرى، وفيما يلي ما تيسَّر من الأدلَّة لإثبات ذلك.
الدليل الأوَّل: ظهور الآية في التغاير بين (أصحاب الصراط) و (من اهتدى) ، وهذا الظهور لسببين:
1 ـ العطف بالواو، والأصل في العطف التغاير بين المعطوف والمعطوف عليه، وحملُ العطف على الاتحاد والتفسير خلاف الظاهر.
2 ـ تكرار كلمة “مَنْ” فإنَّه يقوِّي ظهور التغاير.
وليتجلَّى هذا الظهور أكثر؛ علينا أن نتدبَّر الفرق بين التعبير بـ (من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى) ـ كما هو تعبير الآية، وبين التعبير بـ (من أصحاب الصراط السوي المهتدون) ، فالفرق واضح بأقل تدبُّر.
الدليل الثاني: بناءً على قاعدة (تفسير القرآن بالقرآن) ؛ نلاحظ أنَّ التغايُر بين الفئتين واضح في سورة الفاتحة، وذلك في قوله تعالى: (اهدِنا الصراطَ المستقيم، صراطَ الذين أنعمت عليهم) ؛ فهنا فئة تطلب الهداية إلى الصراط، وفي نفس الوقت تنسب الصراط وتضيفه إلى (الذين أنعمت عليهم) ، وهذه الإضافة تعني أنَّ الصراط هو صراط الذين أنعم الله عليهم، وهذا الفهم موافق تماماً للتعبير عنهم بـ (أصحاب الصراط) ، وحينئذٍ نفهم أنَّ الذين يطلبون الهداية (ولا يدَّعون أنهم منعَمٌ عليهم) ، إذا استُجيب دعاؤهم وحصلوا على الهداية فهم المهتدون الذين يقول عنهم: (ومن اهتدى) ، فآيات سورة الفاتحة ـ إذاً ـ تؤيِّد القول بالتغايُر بين الفئتين.
الدليل الثالث: إنَّ التدبُّر في آيات الذكر الحكيم، ينتهي بنا إلى القول بأنَّ الهداية ذات مراحل، وبعض مراحل الهداية هي ما قبل الاهتداء إلى الصراط، ثم تحصل الهداية الخاصة التي هي هداية إلى الصراط، ونذكر للتدليل على ذلك أربع آيات:
1 ـ الأولى قوله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) [النساء: 175] .
2 ـ والثانية قوله تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ…) [الإسراء: 9] .
3 ـ والثالثة قوله تعالى: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة: 2] .
4 ـ والرابعة قوله تعالى: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) [طه: 82] .
فمن خلال التدبُّر في هذه الآيات نفهم ـ بوضوح ـ أنَّ هناك هداية تتحقَّق تحت عناوين (التوبة والإيمان والاعتصام والعمل الصالح والتقوى) ، فإذا تحقَّقت هذه العناوين، تحصل الهداية ـ ببركة القرآن الكريم ودلالته ـ إلى الصراط المستقيم السويِّ الأقوم.
ومن خلال هذا الفهم للعلاقة بين مراحل الهداية وانتهائها إلى مرحلة الاهتداء إلى الصراط المستقيم؛ يمكننا أن نفهم أنَّ قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة: 119] ، يتحدَّث عن مرحلتين متعاقبتين أيضاً، وأنَّ المقصود بالصادقين هم أصحاب الصراط؛ لأنَّ معيتهم تعبير آخر عن الاهتداء إلى الصراط، بينما عنوان (التقوى) يلخِّص جميع العناوين الآخرى السابقة والممهِّدة لهذه المعيَّة.
وهذا الفهم لمراحل الهداية يؤكِّد التغاير بين عنواني (أصحاب الصراط) و(من اهتدى) ؛ إذ المهتدون هم المهتدون إلى الصراط، أي الذين طووا مراحل التقوى، بينما أصحاب الصراط هم أناس يمثِّلون كعبة الإيمان والأسوة التي يتحرَّك المهتدون باتِّجاههم، لذلك فأصحاب الصراط هم السابقون حقًّا.
وفي ضوء هذا الفهم نستطيع التفريق بدقَّة بين الهادي والمهتدي، من غير أن يكون هناك أيُّ تداخُلٍ بين العنوانين بما يجعل الهادي عنواناً نسبيًّا، وهذا يجعلنا نفهم ـ بعمق أكبر ـ منزلة الهداية التي يتصدَّى لها الأنبياء والأوصياء ويصفهم بها القرآن الكريم.
الدليل الرابع الذي يثبت وجود تغاير بين عُنوانَي (أصحاب الصراط) و (من اهتدى) ، ما ورد في تفسير آيات الصراط في القرآن الكريم من أحاديث عن النبيِّ (ص) وأهل البيت (ع) والصحابة.. وهي أحاديث كثيرة يصعب حصرها لتفرُّقها في العديد من المصادر، ولكن نذكر منها ما تيسَّر لنا من باب المثال فيما يلي.
1 ـ منها ما رواه الكليني (ت 329 هـ) في “الكافي” (1/216) برقم 2 ، بسند معتبر، عن الإمام جعفر الصادق (ع) ، في قوله تعالى: (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء: 9] ، قَالَ (ع) : “يَهْدِي إِلَى الْإِمَامِ”. انتهى.
2 ـ ومنها ما رواه العياشي (ت 320 هـ) في تفسيره (2/283) برقم 25 ، بسنده عن الفضيل بن يسار، عن الإمام محمد الباقر (ع) ، في قوله تعالى: (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء: 9] ، قال (ع) : “يهدي إلى الولاية”. انتهى.
3 ـ ومنها ما رواه الصفَّار (ت 290 هـ) في “بصائر الدرجات” (ص78) برقم 6 ، بسند صحيح عن الإمام جعفر الصادق (ع) ، أنه سُئل عن قوله تعالى: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) [طه: 82] ، فقال: “ومن تاب من ظُلم، وآمن مِن كُفر، وعمِلَ صالحاً، ثمَّ اهتدى إلى ولايتنا”. وأومأ بيده إلى صدره. انتهى. فالرواية دالَّة على أنَّ أهل البيت (ع) هم أصحاب الصراط، وأنَّ المهتدين هم الذي ينتهون إلى ولايتهم، ومعنى ذلك أنَّ الصراط هو الولاية، فالرواية واضحة في التفريق والتغاير بين أصحاب الصراط وبين المهتدين.
4 ـ ومنها ما رواه الحاكم الحسكاني (ت 490 هـ) في “شواهد التنزيل” (1/499) برقم 527 ، بسنده عن ابن عبَّاس، قال: “أصحابُ الصِّراط السويِّ هو والله محمَّد وأهل بيته. والصِّراط: الطريق الواضح الذي لا عِوَج فيه، وَ مَنِ اهْتَدى فهم أصحاب محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم”. انتهى. وأوردها ابن شهر آشوب (ت 588 هـ) في “المناقب” (3/73) . والرواية صريحة في التغاير بين العنوانين. والمقصود أنَّ الصحابة (رض) إنَّما يكتسبون الفضيلة بشرف الهداية إلى صراط محمد وآل محمد صلوات الله عليهم.
5 ـ ومنها ما رواه الثعلبي (ت 427 هـ) في تفسيره (1/120) ، والحاكم الحسكاني (ت 490 هـ) في “شواهد التنزيل” (1/74) ، بسندهما عن أبي بريدة، في قول الله تعالى (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) قال: “صراط محمَّد وآله”. انتهى. أقول: في بعض المصادر: بريدة.
6 ـ ومنها ما رواه الحاكم الحسكاني (ت 490 هـ) في “شواهد التنزيل” (1/75) برقم 87 ، بسنده عن ابن عباس “في قول الله تعالى: (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) ، قال: يقول: قولوا معاشر العباد: اهدنا إلى حُبِّ النِّبيِّ وأهل بيته”. انتهى.
7 ـ ومنها ما رواه الكليني (ت 329 هـ) في “الكافي” (1/184) برقم 9 ، بسنده عن الإمام علي (ع) ، أنه قال: “إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَوْ شَاءَ لَعَرَّفَ الْعِبَادَ نَفْسَهُ، وَلَكِنْ جَعَلَنَا أَبْوَابَهُ وَصِرَاطَهُ وَسَبِيلَهُ وَالْوَجْهَ الَّذِي يُؤْتَى مِنْهُ، فَمَنْ عَدَلَ عَنْ وَلَايَتِنَا أَوْ فَضَّلَ عَلَيْنَا غَيْرَنَا فَإِنَّهُمْ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُون…”. الحديث.
8 ـ ومنها ما رواه الحاكم الحسكاني (ت 490 هـ) في “شواهد التنزيل” (1/524) برقم 558 ، بسنده عن الإمام عليٍّ (ع) ، في قوله تعالى: (وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ) [المؤمنون: 74] ، قال (ع) : “عن ولايتي”. انتهى.
9 ـ وانظر ما رُوي بأسانيد متعدِّدة يقوِّي بعضها بعضاً في قوله تعالى: (قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقيمٌ) [الحجر: 41] ، فقد ورد أنَّ المراد به صراطُ الإمامِ عليٍّ (ع) . انظر: الكافي (1/424) برقم 63 ، وبصائر الدرجات (ص512) الباب18 برقم 25 ، وتفسير العياشي (2/242) برقم 15 ، وشواهد التنزيل (1/78 برقم 92 ، والمناقب (3/107) .. وغيرها.
ولنكتفِ بهذا القدر من الروايات.. وقد تحصَّل أنَّ الصراط هو اسم آخر لولاية أهل البيت عليهم السلام، وبناءً عليه فإنَّ معرفةَ أهل البيت (ع) واجبةٌ، وبمعيَّتهم يتحقَّقُ الاستقرار على الصراط.
والأحاديث الشريفة في إمامة أهل البيت (ع) كثيرة متواترة، نسأل الله تعالى أن يجعلنا معهم في الدنيا والآخرة.
والحمدُ لله ربِّ العالمين.