معنى التعرب:
التَعَرُّب هو التَخَلُّقْ بأخلاق الأعراب من سُكَّان البادية، و الأعراب جمع “الأعرابي” و هو الجاهل من العَرَب و البدوي الذي لم يتفقه في الدين، البعيد عن المَدَنيَّة و الحضارة و العلم و الثقافة، فمعنى التَّعّرُّب هو الإقامة و السُكنى مع الأعراب و التأقلم مع جاهليتهم و التخلق بأخلاقهم.
معنى الهجرة:
و أما المقصود بالهجرة هنا التحوُّل الإيجابي من حياة البداوة و الجاهلية و الكفر إلى الحياة الملتزمة بتعاليم الإسلام و في حاضرة الإسلام كما حصل بالنسبة إلى المسلمين الأوائل حيث أسلموا و هاجروا إلى المدينة المنورة حيث أقام الرسول المصطفى ( صلى الله عليه و آله ) دولة الإسلام.
معنى التعرب بعد الهجرة:
التعَرُّب بعد الهجرة مصطلح إسلامي أطلقه الشارع المقدس على ظاهرة نكوص بعض المسلمين و إبتعادهم عن المجتمع الإسلامي و إيثارهم سُكنى البادية مع الأعراب و الكفار على السُكنى مع المسلمين في ظل الدولة الإسلامية بعد هجرتهم إلى دار الإسلام و ممارستهم حياة الالتزام الديني، مما يدل على تركهم الالتزام بتعاليم الإسلام، و تخلِّيهم عن الدفاع عن الإسلام، و تقاعسهم عن نصرة مبادئه القيمة.
حكم التعرب بعد الهجرة:
تواترت الأحاديث الناهية عن التعرب بعد الهجرة و عَدَّت هذا العمل من الكبائر، فعَنْ عُبَيْدِ بْنِ زُرَارَةَ أنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ 1 ( عليه السَّلام ) عَنِ الْكَبَائِرِ؟
فَقَالَ: “هُنَّ فِي كِتَابِ عَلِيٍّ ( عليه السَّلام ) سَبْعٌ:
1. الْكُفْرُ بِاللَّهِ.
2. وَ قَتْلُ النَّفْسِ.
3. وَ عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ.
4. وَ أَكْلُ الرِّبَا بَعْدَ الْبَيِّنَةِ.
5. وَ أَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ ظُلْماً.
6. وَ الْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ.
7. وَ التَّعَرُّبُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ …” 2 .
لماذا حرَّمَ اللهُ التعرب بعد الهجرة؟
لم يُحرم الله عَزَّ و جَلَّ التعرب بعد الهجرة بسبب سُكنى البادية حيث لا حرمة ذاتية لسُكنى البادية، و إنما حرَّم التعرب بعد الهجرة لما فيه من آثار سلبية، كترك الواجبات و الفرائض، أو عدم التمكن من أدائها بصورة طبيعية، و هذا ما صرَّحَ به أئمة أهل البيت ( عليهم السلام )، فقد كَتَبَ عَلِيُّ بْنُ مُوسَى الرِّضَا ( عليه السَّلام ) إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ فِيمَا كَتَبَ مِنْ جَوَابِ مَسَائِلِهِ: “وَ حَرَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ التَّعَرُّبَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ لِلرُّجُوعِ عَنِ الدِّينِ، وَ تَرْكِ الْمُؤَازَرَةِ لِلْأَنْبِيَاءِ وَ الْحُجَجِ ( عليهم السلام )، وَ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْفَسَادِ وَ إِبْطَالِ حَقِّ كُلِّ ذِي حَقٍّ، لَا لِعِلَّةِ سُكْنَى الْبَدْوِ، وَ لِذَلِكَ لَوْ عَرَفَ الرَّجُلُ الدِّينَ كَامِلًا لَمْ يَجُزْ لَهُ مُسَاكَنَةُ أَهْلِ الْجَهْلِ، وَ الْخَوْفِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَقَعَ مِنْهُ تَرْكُ الْعِلْمِ وَ الدُّخُولُ مَعَ أَهْلِ الْجَهْلِ وَ التَّمَادِي فِي ذَلِكَ” 3 .
التعرب بعد الهجرة في العصر الحاضر:
و من مصاديق التعرب بعد الهجرة في عصرنا الحاضر ـ كما صرح بذلك الفقهاء ـ إختيار المسلم بلاد الكفر لإقامته و سكناه إذا لم يتمكن من أداء فرائضه و واجباته أو الحفاظ على ثقافته الإسلامية في ذلك البلد بسبب التأثيرات أو المضايقات بحيث يؤثر سلباً على إلتزامه الديني، و في مثل هذه الحالة يجب على المسلم التحوّل من ذلك البلد إلى بلدٍ آخر يتمكن فيه من أداء واجباته الدينية و حفظ كرامته، و يستثنى من ذلك المضطر، و من يقوم بدور إيجابي أو نشاط ديني فلا يُعدُّ آثماً بل يؤجر على ذلك، فقد رُوِيَ عَنْ حَمَّادٍ السَّمَنْدَرِيِّ أنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ ( عليه السَّلام ): إِنِّي أَدْخُلُ بِلَادَ الشِّرْكِ وَ إِنَّ مَنْ عِنْدَنَا يَقُولُونَ إِنْ مِتَّ ثَمَّ حُشِرْتَ مَعَهُمْ؟!
قَالَ: فَقَالَ لِي: “يَا حَمَّادُ، إِذَا كُنْتَ ثَمَّ تَذْكُرُ أَمْرَنَا وَ تَدْعُو إِلَيْهِ”؟
قَالَ، قُلْتُ: نَعَمْ.
قَالَ: “فَإِذَا كُنْتَ فِي هَذِهِ الْمُدُنِ مُدُنِ الْإِسْلَامِ تَذْكُرُ أَمْرَنَا وَ تَدْعُو إِلَيْهِ”؟
قَالَ، قُلْتُ: لَا.
فَقَالَ لِي: “إِنَّكَ إِنْ تَمُتْ ثَمَّ تُحْشَرْ أُمَّةً وَحْدَكَ، وَ يَسْعَى نُورُكَ بَيْنَ يَدَيْكَ” 4 .
القومية العربية:
و لعل التعصُّب إلى القومية العربية الجاهلية في مواجهة الإسلام و الإسلامية هو أيضاً من أبرز مصاديق التعرب بعد الهجرة في العصر الحاضر، حيث نهى الإسلام عن ذلك ، فقد رُوِيَ عن الإمام محمد بن علي الباقر ( عليه السَّلام ) أنهُ قَالَ : صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه و آله ) الْمِنْبَرَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ.
فَقَالَ: “أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ نَخْوَةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَ تَفَاخُرَهَا بِآبَائِهَا.
أَلَا إِنَّكُمْ مِنْ آدَمَ ( عليه السَّلام )، وَ آدَمُ مِنْ طِينٍ.
أَلَا إِنَّ خَيْرَ عِبَادِ اللَّهِ عَبْدٌ اتَّقَاهُ.
إِنَّ الْعَرَبِيَّةَ لَيْسَتْ بِأَبٍ وَالِدٍ وَ لَكِنَّهَا لِسَانٌ نَاطِقٌ، فَمَنْ قَصَرَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُبْلِغْهُ حَسَبُهُ.
أَلَا إِنَّ كُلَّ دَمٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، أَوْ إِحْنَةٍ ـ وَ الْإِحْنَةُ الشَّحْنَاءُ ـ فَهِيَ تَحْتَ قَدَمِي هَذِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ” 5 .
- 1. أي الإمام جعفر بن محمد الصَّادق ( عليه السَّلام ) ، سادس أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) .
- 2. الكافي : 2 / 278 ، للشيخ أبي جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الكُليني ، المُلَقَّب بثقة الإسلام ، المتوفى سنة : 329 هجرية ، طبعة دار الكتب الإسلامية ، سنة : 1365 هجرية / شمسية ، طهران / إيران .
- 3. من لا يحضره الفقيه : 3 / 565 ، للشيخ أبي جعفر محمد بن علي بن حسين بن بابويه القمي المعروف بالشيخ الصدوق ، المولود سنة : 305 هجرية بقم ، و المتوفى سنة : 381 هجرية ، طبعة انتشارات إسلامي التابعة لجماعة المدرسين ، الطبعة الثالثة ، سنة : 1413 هجرية ، قم / إيران .
- 4. وسائل الشيعة ( تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة ) : 15 / 101 ، للشيخ محمد بن الحسن بن علي ، المعروف بالحُر العاملي ، المولود سنة : 1033 هجرية بجبل عامل لبنان ، و المتوفى سنة : 1104 هجرية بمشهد الإمام الرضا ( عليه السَّلام ) و المدفون بها ، طبعة : مؤسسة آل البيت ، سنة : 1409 هجرية ، قم / إيران .
- 5. الكافي : 8 / 246 .