﴿ … وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا … ﴾ 1
جاء الإسلامُ و الشعوبُ متفرّقة متناکرة ، بل و متصارعة متناحرة ، و لکن سرعانَ ما حلّ التعارفُ محلّ التناکر ، و التعاونُ محلّ التخاصم ، و التواصل محلّ التدابر ، بفضل تعاليم الإسلام التوحيديّة ، فکانت المحصّلة أن ظَهرتْ إلى الوجود تلك الأُمّة الواحدةُ العظيمة التي قدّمت ذلك العطاء الحضاري العظيم ، کما و حَمَت شعوبها من کلّ غاشم و ظالم و صارت تلك الأُمّة المحترَمةُ بين شعوبِ العالَم و تلك الکتلة المُهابة في عيون الطغاة و الجبّارين .
و لم يکن ليتحقّق ذلك ـ کله ـ إلاّ بسبب وحدتها ، و تواصُل شعوبها الذي حصلتْ عليه تحت مظلّةِ الإسلام ، رغم تنوعِ الأجناس ، و اختلافِ الاجتهادات ، و تعدّدِ الثقافات و تباين الأعرافِ و التقاليد ، إذ کان يکفي الاتفاقُ في الأصول و الأسس ، و الفرائض و الواجبات ، فالوحدةُ قوّة ، و الفُرقة ضَعف .
و جرى الأمر على هذا المنوال حتّى انقلب التعارفُ إلى تناکر ، و التفاهم إلى تنافر ، و کفّرتِ الجماعاتُ بعضها بعضاً ، و ضربتِ الفصائل بعضها بعضاً فزالتِ العزّةُ و تحطّمت الشّوکة و سقطت الهيبةُ و استخفّت الطغاة بتلك الأُمّة الرائدة القائدة حتّى جالت في ربوعها الثعالبُ و الذؤبان ، و جاست خلال ديارها شذّاذُ الآفاق و ملاعين الله و مغضوبو البشريّة ، فثرواتُها منهوبة ، و مقدّساتها مُهانة ، و أعراضها تحت رحمة الفجّار ، و سقوطات تلو سقوطات ، و هزائمُ اثر هزائم ، و انتکاسات في الأندلس و بخارى و سمرقند و طاشقند و بغداد ، قديماً و حديثاً و فلسطين و أفغانستان .
و إذا هي تدعو فلا تُجاب ، و تستغيثُ فلا تُغاث ، کيفَ و الدّاء شيء آخر ، کما و انّ الدواء شيء آخر کذلك ، و قد أبى الله أن يجرى الأُمور إلا بأسبابها ، و لا يصلُحُ آخر أمرِ هذه الأُمّة إلا بما صَلُح به أوّلها ؟
و اليومَ إذ تتعرّض الأُمّة الإسلامية لأبشع حملة ضدّ کيانها ، و عقيدتها و لأشرس هجمة ضدّ وحدتها ، من خلال إيجاد الخلل في تعايشها المذهبي ، و الاجتهادي ، و تکاد هذه الحملة تؤتي ثمارَها و تُعطي نتائجها ، أليسَ من الحَريّ بها بأن تزيد من رصّ الصفوف و تمتين العلاقات ، و هي رغم تنوّعها المذهبي تشترك في الکتاب و السنّة مصدراً ، و في التوحيد و النبوّة و الإيمان بالآخرة عقيدةً ، و في الصلاة و الصيام و الحجّ و الزکاة و الجهاد و الحلال و الحرام شريعةً ، و في مودّة النبي الأطهر و أهل بيته صلوات الله عليهم سهم وِلاء ، و من أعدائهم بَراء ، و قد تتباين بعض الشيء في هذا الأمر شدّةً و ضعفاً ؟ فهي کأصابع اليد الواحدة في الانتهاء إلى مفصل واحد ، و ان اختلفت طولا و عرضاً و شَکلا بعضَ الشيء ، أو هي کالجَسَد الواحد في تعدّد جوارحِه من جهة و تعاونها في تفعيل الدّورِ الجَسَدانيّ في الکيان البشرىّ من جهة أخرى مع وجودِ الاختلاف في أشکالها .
و لا يبعدُ أن تکونَ الحکمة في تشبيه الأُمّة الإسلامية باليد الواحدة تارةً ، و بالجسد الواحد تارة أخرى ، هي الإشارة إلى هذه الحقيقة .
لقد کان العلماء من مختلف الفرق و المذاهب الإسلامية سابقاً ، يعيشون جنباً إلى جنب من غير تنازع أو صدام ، بل لطالما تعاونوا فيما بينهم ، فشَرح بعضهم کتاب الآخر کلاميّاً کان أو فقهيّاً ، و تلمّذ بعضهم على بعض و أشاد البعضُ بالآخر ، و أيّد بعضهم رأى الآخر ، و أعطى بعضهم إجازة الرواية للبعض الآخر ، و استجاز بعضهم البعض لنقل الرواية من کتب مذهبه و طائفته ، و صلّى بعضهم خلفَ الآخر ، و ائتمَّ به ، و زکّى بعضهم الآخر ، و اعترف بعضُهم بمذهب الآخر ، بل و کانت هذه الطوائف ، في مستوى جماهيرها تعيش جنباً إلى جنب في وداد و وئام ، حتّى يبدو و کأنّهم لا خلافَ بينهم و لا تباين ، و ان کان يَتَخلّل کلّ ذلك بعضُ النقد و الردّ ، إلاّ أنّه کان على الأغلب نقداً مؤدّباً ، و مهذّباً ، و ردّاً علمياً ، و موضوعياً .
و ثمة أدلّة حيّة و تاريخيّة عديدة على هذا التعاون العميق و العريض ، و قد أثرى العلماء المسلمون بهذا التعاون التراث و الثقافة الإسلامية ، کما ضربوا بذل أروع الأمثلة في الحريّة المذهبيّة ، هذا بالإضافة إلى أنّهم استقطبوا من خلال هذا التعاون اهتمام العالم بهم و کسبوا احترامهم .
انّه ليس من الصعب أن تجتمع علماء الأمّة و يتناقشوا بهدوء و موضوعيّة ، و بإخلاص و صدق نيّة ، في ما اختلفت فيه الطوائفُ و للتعرّف على أدلّة کلّ طائفة و ما تقيمه من برهان .
کما أنّه من الجيّد و المعقول أن تقومَ کل طائفة و جماعة بعرضِ عقائدها ، و مواقفها الفکريّة و الفقهيّة في جو من الحريّة و الصراحة ، ليتّضح بطلان ما يُثار ضدّها من اتّهامات و شبهات ، کما و يعرف الجميع : الجوامع و الفوارق ، و يعرفون أنّ ما يجمع المسلمين أکثر ممّا يفرقهم ، و بذلك يذوب الجليد بين المسلمين .2
- 1. القران الكريم : سورة الحجرات ( 49 ) ، الآية : 13 ، الصفحة : 517 .
- 2. هذه الكلمة هي مقدمة لكتاب ” الحقيقة كما هي ” للعلامة الشيخ جعفر الهادي .