نص الشبهة:
أمامنا فريقان: فريق طعن في كتاب الله مدعياً وقوع التحريف والتبديل فيه، على رأسه النوري الطبرسي ـ مؤلف كتاب المستدرك أحد الأصول الحديثية الثمانية لدى الشيعة الاثني عشرية ـ والذي ألفّ كتاباً باسم (فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب) يقول فيه عن القرآن وعن وقوع التحريف فيه ما نصه: (ومن الأدلَّة على تحريفه فصاحته في بعض الفقرات البالغة حد الإعجاز وسخافة بعضها الآخر) (فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب ص 211) ! وسيد عدنان البحراني القائل: (الأخبار التي لا تحصى كثرة وقد تجاوزت حد التواتر، ولا في نقلها كثير فائدة بعد شيوع القول بالتحريف والتغيير بين الفريقين، وكونه من المسلمات عند الصحابة والتابعين، بل وإجماع الفرقة المحقة. وكونه من ضروريات مذهبهم، وبه تضافرت أخبارهم) (مشارق الشموس الدرية ص 126). ويوسف البحراني القائل: (لا يخفى ما في هذه الأخبار من الدلالة الصريحة والمقالة الفصيحة على ما اخترناه ووضوح ما قلنا، ولو تطرق الطعن إلى هذه الأخبار على كثرتها وانتشارها لأمكن الطعن إلى أخبار الشريعة كلها، كما لا يخفى؛ إذ الأصول واحدة، وكذا الطرق والرواة والمشايخ والنقلة. ولعمري إن القول بعدم التغيير والتبديل لا يخرج من حسن الظن بأئمة الجور، وأنهم لم يخونوا في الإمامة الكبرى، مع ظهور خيانتهم في الأمانة الأخرى التي هي أشد ضرراً على الدين) (الدرر النجفية ليوسف البحراني؛ (ط مؤسسة آل البيت لإحياء التراث ص 298). طعن هذا الفريق بالقرآن بكل وضوح قائلاً بوقوع التحريف فيه ! وفريق آخر (وهم صحابة رسول الله) خطيئته التي لا يغفرها له الشيعة الاثنا عشرية هي أنه سلّم الخلافة لأبي بكر بدلاً من علي! الفريق الأول الذي طعن في كتاب الله يعتذر له علماء الشيعة الاثني عشرية، وغاية ما يقولون فيه كلمة (أخطأوا)، (اجتهدوا وتأولوا ولا نوافقهم على ما ذهبوا إليه). وليت شعري متى صارت مسألة حفظ كتاب الله أو تحريفه مناطاً للاجتهاد؟! وأي اجتهاد في قول هذا المجرم: إن (في القرآن آيات سخيفة)! والله إنها لطامة كبرى. ولنأخذ مثالاً على نظرة علماء الشيعة الاثني عشرية إلى القائلين بالتحريف: السيد علي الميلاني ـ من كبار علماء الشيعة الاثني عشرية اليوم ـ يقول في كتابه (عدم تحريف القرآن ص 34) مدافعاً عن (الميرزا نوري الطبرسي): (الميرزا نوري من كبار المحدثين، إننا نحترم الميرزا النوري، الميرزا نوري رجل من كبار علمائنا، ولا نتمكن من الاعتداء عليه بأقل شيء، ولا يجوز، وهذا حرام، إنه محدّث كبير من علمائنا)!! (ثم أبصرت الحقيقة ص 294.) فتأمل هذا التناقض.
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
وله الحمد، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد..
فإننا نجيب بما يلي:
1. النقل غير الدقيق
أولاً: نقل السائل عن المحدث النوري أنه قال: «ومن الأدلة على تحريفه فصاحته في بعض الفقرات البالغة حد الإعجاز، وسخافة بعضها الآخر».
وقال: «وأي اجتهاد في قول هذا المجرم إن (في القرآن آيات سخيفة) ! والله إنها لطامة كبرى».
وهذا الكلام غير صحيح، فإنه قد حرف كلام النوري بصورة فاضحة، فإن المحدث النوري كان يبين المراد من كلمة «الإختلاف» الواردة في قوله تعالى: ﴿ … وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ 1، فقال: فإن «الاختلاف فيه» كما يصدق على اختلاف المعنى وتناقضه، كنفيه مرة وإثباته أخرى كذلك. وعلى اختلاف النظم، كفصاحة بعض فقراتها البالغة حدّ الإعجاز، وسخافة بعضها الأخرى. وعلى اختلاف مراتب الفصاحة ببلوغ بعضها أعلى درجاتها، ووصول بعضها إلى أدنى مراتبها. وعلى اختلاف الأحكام كوجوب شيء فيه لحسن موجود في غيره، مع عدم وجوبها، وحرمته كذلك، كذلك يصدق على اختلاف تصاريف كلمة واحدة وهيئتها في موضوع واحد، واختلاف أجزاء آية واحدة في التلاوة والكتابة.
وهذا إطلاق شايع في العرف، صحيح في اللغة. كما يقال: نسخ هذا الحديث، أو هذا الشعر، أو هذا الكتاب مختلفة، إذا كان فيه اختلاف بأحد الوجوه السابقة. سواء اختلف المعنى بالعموم والخصوص، أو التباين، أو لم يختلف..».
إلى أن قال: «فالآية بظاهرها تنفي وقوعه فيه، فعلى مدعيه إثباته كما ثبت وجود الناسخ والمنسوخ. ويأتي ضعف ما تمسكوا به إن شاء الله تعالى..» 2.
فظهر أن مراد النوري مناقض لما نسبه السائل إليه، فإنه كان بصدد بيان وجوه الإختلاف التي نفاها الله تعالى عن كتابه في قوله: ﴿ … وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ 1، ثم حسم الأمر بتصريحه بأن ما ادعوه من وجوه اختلاف في القرآن على الأنحاء المذكورة لا يعدو كونه وجوهاً ضعيفة لا تسمن ولا تغني من جوع.
2. فصل الخطاب في الميزان
ثانياً: بالنسبة لكتاب فصل الخطاب للمحدث النوري نقول: لقد خُدع هذا المحدث ـ أو فقل انبهر ـ بروايات غير الشيعة، فقد وجدها مدونة في أصح الكتب عندهم.. وكتابه خير شاهد على ما نقول.. فإنه يتألف من اثني عشر دليلاً، عشرة منها مأخوذة من كتب أهل السنة، ولربما يورد منها نزراً يسيراً من كتب الشيعة.. ودليلان فقط مأخوذان من كتب الشيعة، ولربما يورد منها نزراً يسيراً من كتب أهل السنة.
ويمكن تلخيص أدلَّته على النحو التالي:
استدلَّ أولاً: بروايات أهل السنة، وقليل منها عن الشيعة، القائلة: بأن ما وقع في الأمم السالفة، سيقع في هذه الأمة.. قال: ومن ذلك تحريف الكتاب.
ولكن هذا الإستدلال باطل؛ لأن المقصود بهذه الروايات، هو حصول الصورة الكلية من حيث الجوهر والمضمون، وذلك في خصوص الحوادث الإجتماعية، والسنن التاريخية، بصورة كلية، وعامة.. وإلا.. فإن كثيراً من الأمور، قد حدثت في الأمم السالفة، دون هذه الأمة، وذلك مثل: عبادة العجل.. وتيه بني إسرائيل.. وغرق فرعون.. وملك سليمان.. ورفع عيسى.. وموت هارون وهو الوصي قبل موسى النبيّ.. وعذاب الإستئصال.. وولادة عيسى من غير أب.. وقصة أهل الكهف، وقصة الذي أماته الله مئة عام، ثم بعثه.. وغير ذلك..
فلو صحت الرواية.. فهي تدلُّ على وجود شبه ما بين ما يقع في هذه الأمة، وما يقع في الأمم السالفة، من بعض الوجوه.
فالتحريف الذي وقع في الأمم السالفة، قد بذلت محاولة لنظيره في هذه الأمة، ولكن عندما فشلت محاولاتهم لتحريف النص عمدوا إلى التحريف في معاني القرآن، وحدوده، وإن كانوا قد أقاموا حروفه.. والنتيجة المتوخاة من التحريفين الواقعين، في هذه الأمة، وفي الأمم الخالية، واحدة..
ومما يدلُّ على صون القرآن من التحريف في حروفه: أنه أحد الثقلين اللذين يحفظان الأمة من الضلال إلى يوم القيامة، وأنه كتاب الشريعة الخاتمة، التي وعد الله أن يظهرها على الدين كله ولو كره الكافرون.. وهو أيضاً المعجزة الخالدة، والحجة الصامتة التي هي عدل الحجة الناطقة.. فلا بد ـ بعد إثبات صفتي الإعجاز، والخلود له ـ من حفظه ليبقى إعجازه..
أما الكتب السالفة، فلم تكن هي معجزة الأنبياء أصلاً، فضلاً عن أن تكون معجزة خالدة، فلا يجب تكفُّل حفظها منه تعالى..
كما لا بدّ من حفظه من التحريف في ألفاظه إلى يوم القيامة، ليكون مع العترة حافظاً للأمة من الضلال كما قلنا.
والخلاصة: إنه ليس المراد بالسنن الواردة في الروايات: السنن الكونية، إذ ليس من سنن الكون تحريف الكتب، والتلاعب فيها، بل السنة، هي بقاؤها سليمة على حالها. والتلاعب فيها، هو المخالف للسنن الكونية، الجارية على أصول وقواعد، صحيحة ودقيقة..
وعلى كل حال، لو أردنا استعراض الآيات ـ بغض النظر عن الروايات ـ التي تذكر أحوال الأمم الماضية وسيرتها المتوافقة مع ما يجري في هذه الأمة، لاحتاج الأمر إلى كثير من التوسع لا مجال له هنا.. ابتداء من التكذيب والعناد، والرفض، ومحاولات القتل، فضلاً عن التهديد والأذى، وقتل ذراري الأنبياء، والسعي إلى تحريف الكتب ولو بالمعنى، وحرقها، والكذب بادعاء ما ليس منها أنه منها، وجعل أقوال أحبارهم ورهبانهم شريعة وديناً، وترك موسى وهارون، وأهل بيت هارون.. و.. و.. كما في آية رضاع الكبير، ورجم الشيخ والشيخة، وغير ذلك ـ نعم.. لو أردنا ذلك ـ لطال بنا المقام، واحتجنا إلى تأليف مستقل، وقد حصل مثل ذلك في هذه الأمة.
واستدلَّ ثانياً: بروايات أهل السنة حول جمع القرآن، وأنه قد كان بشاهدين، مما يعني: عدم تواتر القرآن لنا، وإمكانية وقوع التحريف فيه..
والشيعة يرون عدم صحة هذه الروايات، ويثبتون: أنه قد جمع في عهد رسول الله «صلى الله عليه وآله» على يد علي بن أبي طالب «عليه السلام» كما ذكر في كتاب حقائق هامة حول القرآن.
كما أن غيره من الصحابة قد جمعه في عهد الرسول «صلى الله عليه وآله» ولو بصورة جزئية، بأن يكون قد فاته تدوين بعض سوره كما هو الحال بالنسبة لابن مسعود، والقرآن أيضاً محفوظ لدى قراء الأمة وحفاظها، ومتواتر على لسان الألوف المؤلفة، في جميع الطبقات..
واستدلَّ ثالثاً: بروايات أهل السنة التي تحدَّثت عن آيات يدعى نسخ تلاوتها ؛ فرفض نسخ التلاوة، واعتبر هذه الروايات دالَّة على تحريفهم الكتاب. ونحن نوافقه على رفضه لنسخ التلاوة.. وبالنسبة لأمثلته، نقول:
إنها إما دعاء، أو من كلام الرسول «صلى الله عليه وآله»، مع تعرضها للتصرف من قبل الناقلين لها كما يدلُّ عليه ما يظهر عليها من ركاكة في التعبير.. والحال أنه «صلى الله عليه وآله» أفصح من نطق بالضاد.. أو لعلها من كلام بعض الصحابة، أو أخبار آحاد مكذوبة، وضعها أعداء الإسلام.
ثم استدلَّ رابعاً: بروايات أهل السنة، حول اختلاف مصاحف السلف، ورواياتهم في تقديم وتأخير بعض الآيات، وحول أن ترتيب القرآن كان باجتهاد من الصحابة..
ونقول:
إن هذه الروايات لا يعتدّ بها، ومع ذلك نقول:
إن هذا المقدار ـ لو سلم ـ فهو لا يعني تحريف القرآن..
أما دليله الخامس، فهو: اختلاف مصاحف الصحابة في ذكر بعض الكلمات، والآيات والسور.. مثل سورتي الخلع والحفد، ونحوها..
ونقول:
أما بالنسبة للروايات حول بعض الكلمات، فهي: إما تفسير، أو تأويل، أو دعاء، وما إلى ذلك..
وأما بالنسبة لبعض الآيات والسور، فلا شك في عدم صحة تلك الروايات فيها.
واستدلَّ سادساً: بأن أبي بن كعب، وهو أقرأ الأمة كما يقول غير الشيعة، قد زاد في مصحفه سورتي: الخلع والحفد..
أما الشيعة، فيقولون: إن علياً وأهل بيته «عليهم السلام» هم أقرأ الأمة.
ولكننا نقول:
إنه لو صحت رواية ذلك عن أبي بن كعب، فلعله كتبهما في مصحفه على انهما دعاء، ولم يكتبهما على أنهما قرآن..
ودليله السابع هو: ما رواه أهل السنة من إحراق عثمان للمصاحف، وحمله الناس على قراءة واحدة..
ونقول:
إن أمير المؤمنين علياً «عليه السلام»، قد أيّد عثمان في جمع الناس على قراءة واحدة، لكثرة ما ظهر في الناس من اللحن في القراءة، والقراءة باللهجات المختلفة وغير ذلك.. فهذا عمل صواب، هدفه حفظ القرآن من التحريف، وليس العكس.
ولكن علياً «عليه السلام» لم يرتض إحراقه المصاحف، فإن ذلك منهي عنه.
ودليله الثامن: هو روايات أهل السنة حول نقص القرآن، وذهاب كثير من آياته وسوره.
ونقول:
قد بحث الشيعة في هذه الروايات، وأوضحوا أنها لا تصلح للإستدلال بها، فراجع كتاب حقائق هامة حول القرآن في فصوله المختلفة.
واستدلَّ تاسعاً: بما ورد في كتب الشيعة: من أن أسماء الأئمة «عليهم السلام» قد وردت في الكتب السماوية فلا بد وأن تكون قد وردت في القرآن أيضاً، ثم حذفت.
وأجابه الشيعة: بأنه لا ملازمة بين تحريف الكتب السالفة في ألفاظه، وتحريف القرآن في ألفاظه، ولا بين ذكرها فيها، وذكرها فيه. إلا إن كان المراد: أن تحريف المعاني الذي حصل في هذه الأمة، فإنه يشبه تحريف النصوص الذي حصل في الكتب المنزلة على الأمم السابقة.
وقد ورد في الروايات عن الأئمة «عليهم السلام» ما يدلُّ على أن عدم ذكر اسم علي «عليه السلام» في القرآن، إنما هو لئلا يتعرض القرآن للتحريف.
واستدلَّ عاشراً: بروايات أهل السنة حول اختلاف القراءات، ويدعمون ذلك بما ورد من أن القرآن قد نزل على سبعة أحرف.
ونقول:
إن كتاب حقائق هامة حول القرآن الكريم قد بين أن القراءات التي تتضمن تبديلاً أو تحريفاً أو زيادة أو نقيصة في الكلمات لا يصح، وأن حديث نزول القرآن على سبعة أحرف، لا يصح أيضاً.. فراجع ذلك الكتاب..
ودليله الحادي عشر: هو روايات منسوبة إلى الشيعة حول وقوع التحريف في القرآن.
وقد ردّه الشيعة ـ كما في كتاب: حقائق هامة حول القرآن بأنه استدلال فاسد ؛ لأنها روايات ظاهرة التأويل، لأن المراد بها تحريف المعنى لا اللفظ.
كما أن بعض الأحاديث النادرة الأخرى إنما رواها الغلاة والضعفاء، والمنحرفون عن مدرسة أهل البيت «عليهم السلام»، وهي مخالفة للضرورة القطعيّة، فلا يلتفت إليها، ولا يعتد بها.. وتقدم أن بعضها يقصد به ذكر التأويل والتفسير المنزل، وليس ذلك من القرآن في شيء..
الثاني عشر: استدلَّ بروايات كثيرة، لربما تصل إلى الألف رواية، ذكرت فيها موارد مخصوصة من الآيات المحرَّفة..
يلاحظ: أن أكثرها يدخل في الأقسام التي تقدمت، أو ترجع إلى التفسير، وشأن النزول أو التأويل، كما أن التكرار فيها كثير وظاهر.. كما أن أكثرها من باب تكثير الأسانيد لا أكثر.. كما يظهر من الحصيلة الروائية التالية:
حصيلة روائية
قد لاحظنا كتاب فصل الخطاب، فوجدنا أن أكثر من 320 رواية منها تنتهي إلى السياري، الفاسد المذهب والمنحرف، والغالي الملعون على لسان الصادق «عليه السلام»، والمطعون فيه من قبل جميع الرجاليين.
وأكثر من 600 من مجموع الألف عبارة عن مكرَّرات، والفرق بينها، إما من جهة نقلها من كتاب آخر، مع وحدة السند، أو من طريق آخر..
وغير هذين القسمين ؛ فإن أكثر من مئة حديث منها عبارة عن قراءات مختلفة، أكثرها عن الطبرسي في مجمع البيان الذي يستقي من كتب أهل السنة غالباً.. كما أن أكثرها مشترك نقله بين السنة والشيعة، ولا سيما بملاحظة: أن الطبرسي كان مهتماً جداً بالرواية عن رجال أهل السنة، كقتادة، ومجاهد، وعكرمة، وكثير غيرهم.
وما تبقَّى ؛ فإنما هو روايات قليلة جداً لا تستحق الذكر والإلتفات 3.
هذا كله.. عدا عن أن قسماً من أخبار التحريف، منقول عن علي بن أحمد الكوفي، الذي وصفه علماء الرجال بأنه كذاب، فاسد المذهب 4..
وقسم آخر منقول عن آخرين ممن يوصف بالضعف، أو بالإنحراف، كيونس بن ظبيان، الذي ضعفه النجاشي، ووصفه ابن الغضائري بأنه: «غالٍ، كذاب، وضاع للحديث» 5.
ومثل منخل بن جميل الكوفي، الذي يقولون فيه: إنه غال، منحرف، ضعيف، فاسد الرواية.
ومثل محمد بن حسن بن جمهور، الذي هو غال، فاسد المذهب، ضعيف الحديث.
وأمثال هؤلاء، لا يصح الاعتماد على رواياتهم في أبسط المسائل الفرعية، فكيف بما يروونه في هذه المسألة، التي هي من أعظم المسائل، وأشدها خطراً، وعليها يتوقف أمر الإيمان، ومصير الإسلام.
ولا بد من دراسة وافية لمعرفة السبب، الذي دعا الغلاة وفاسدي المذهب للقيام بهذا الدور الهدَّام، في مجال إلصاق هذه الفرية بالقرآن الكريم.
ولا شك أن ذلك مما تقرّ به عيون الزنادقة، ويبتهج له مردة اليهود والنصارى، ويشجعونه، ويُشِيعونه، ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً..
وبديهي أن الغلاة ليسوا من الشيعة، ويتجنبهم الشيعة، ويكفّرونهم، فلا يصح نسبة بدع الغلاة وترَّهاتهم إلى الشيعة، كما ذكره الزرقاني 6، ورحمة الله الهندي «رحمه الله» في كتابه: إظهار الحق.
3. الأصول الحديثية عند الشيعة
ثالثاً: أما ما قاله السائل، من أن كتاب المستدرك للشيخ النوري هو أحد الأصول الحديثية الثمانية عند الشيعة، فيلاحظ عليه:
ألف: إن الشيخ النوري ليس من رجال القرون الأولى، ولا الوسطى بل هو من المتأخرين جداً، فقد توفي سنة 1320 للهجرة.. فكيف يكون كتابه من الأصول الثمانية للحديث للشيعة؟!
وحتى كتاب الوسائل، فإنه ليس من أصول الحديث، لأن مؤلفه قد توفي في مطلع القرن الثاني عشر للهجرة، وهو إنما ينقل ما في كتب الحديث الأربعة: الكافي، والتهذيب، والإستبصار، ومن لا يحضره الفقيه، وقد ينقل بعضاً من غيرها..
ب: لو فرضنا: أن كتاب النوري في الحديث مقبول ومعتمد عند الشيعة، فإن ملاك هذا الإعتماد هو وثاقته، وأمانته ودقته في النقل، ولا يطلب في الحديث أكثر من ذلك..
ج: حبذا لو أن هذا السائل قد ذكر لنا بقية الأصول الثمانية للحديث عند الشيعة، فإننا لا نعرف غير تلك الأربعة، ولعله يريد أن يضيف إليها كتابي: وسائل الشيعة، ومستدرك الوسائل فتصير ستة.. ويبقى لنا في ذمته اثنان.. ونحن نشك في أن يكون لهما قيمة علمية تجيز عدّها من الأصول الحديثية!!
4. أهل السنة وتحريف القرآن
رابعاً: لا ندري كيف سوّغ هذا السائل لنفسه أن ينسب القول بعدم التحريف إلى أهل السنة بصورة عامة. مع أن فيهم من يقول بتحريف القرآن أيضاً؟!
فقد ذكر بعض العلماء: أن بعض أخباريي الشيعة، وقوماً من حشوية العامة قد قالوا بتحريف القرآن 7.
وقد ألف الشريف أبو القاسم علي بن أحمد الكوفي العلوي كتاب: التبديل والتحريف وهو رد على الحشوية وأصحاب الحديث العاملين بمضامين الأخبار الآحاد 8.
وقال صاحب الذريعة «رحمه الله»: ولم يحكم أحد منهم بصحة ضده الأخبار الآحاد الحاوية لذكر هذه الآيات التي ألصقها بعض الحشوية من الأوائل بكرامة القرآن كما حققناه في «النقد اللطيف في نفي التحريف» 9.
ويفهم أيضاً من كلام محمد بن القاسم الأنباري وجود قائل بذلك في زمانه 10.
هذا عدا أولئك الذين طعنوا على عثمان لجمعه الناس على مصحف واحد، وقرأوا بالمنسوخ على حد زعمهم 11.
وقال الشعراني: «لولا ما يسبق للقلوب الضعيفة، ووضع الحكمة في غير أهلها، لبيّنت جميع ما سقط من مصحف عثمان» 12.
كما أن الإمام الحسن «عليه السلام» قد اتهم معاوية بأنه هو الذي يزعم أن القرآن قد كتب بشهادة شاهدين، ويشيع دعوى تحريف القرآن 13.
أما ابن شاذان، فقد عدّ القول بتحريف القرآن من المطاعن على العامة ـ أي أهل السنة ـ وشنع عليهم بذلك 14.
وهذا يدلُّ على أن بعض أخباريي الشيعة الذين نسب إليهم القول بتحريف القرآن هم من المتأخرين عن زمان ابن شاذان.. أما حشوية العامة القائلون بذلك، فهم من المتقدمين عليه..
قد ألف مؤخراً أحد الكُتَّاب المصريين كتاباً باسم الفرقان، زعم فيه: أن هذا القرآن يختلف عن القرآن الذي أنزله الله على رسوله، وقد صادر الأزهر هذا الكتاب.
5. مقارنة.. غير موفقة
خامساً: إن المقارنة التي أجراها هذا السائل بين الصحابة وبين الشيعة في موضوع تحريف القرآن غير ظاهرة الوجه، إذ لماذا لا يقارن بين الشيعة وبين أهل السنة ؟!
أو بينهم وبين طائفة من طوائف أهل السنة؟!
ألا ترى معي: أن الهدف هو التحريض، وإثارة العواطف ضد الشيعة.
6. الصحابة.. وتحريف القرآن
سادساً: لو أردنا حصر الكلام بين الشيعة وبين الصحابة، فسنجد بين الصحابة من يعتقد بتحريف القرآن أيضاً، وعلى رأسهم الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، الذي كان يريد أن يكتب آية رجم الشيخ والشيخة إذا زنيا في حاشية المصحف بيده..
ومنهم ابن مسعود، الذي أسقط المعوذتين من مصحفه.
ومنهم عائشة التي تقول: إن الداجن قد أكلت قسماً من المصحف كان تحت سريرها وفي مصحفها.
ومنهم حفصة: التي كان في مصحفها آية حافظوا عل الصلوات والصلاة الوسطى بزيادة عبارة: «وصلاة العصر»..
وفيهم غير هؤلاء ممن كانوا يرون أن هذا المصحف غير تام، حسبما رواه لنا صحيح البخاري، ومسلم، وأحمد في مسنده، وسائر المصادر..
فراجع كتاب: «حقائق هامة حول القرآن الكريم»، تجد صدق ذلك..
7. التفسير المنزل
سابعاً: وأخيراً.. فإن هناك عدداً من الأحاديث التي رويت بأسانيد معتبرة عند الشيعة، قد بيّنت أن تفسير بعض آيات القرآن قد نزل من عند الله تعالى على شكل حديث قدسي، أو أنها من قبيل بعض البيانات التي يبلغها جبرئيل إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله»، مما عرفه من قبل الله، كما تعرف الملائكة كثيراً من الأمور، وتحدَّث بها بعض الناس، دون أن تكون معارفها هذه جزءاً من القرآن.
ومن الأمثلة التي يمكن أن تكون مفيدة في تقريب المعنى إلى الأذهان: حديث رسول الله «صلى الله عليه وآله»: إن أول ما خلق الله العقل، فقال له: أقبل فأقبل، ثم قال: أدبر فأدبر، فقال:
وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحب إلي منك، بك آخذ، وبك أثيب وبك أعاقب 15.
والأحاديث القدسية كثيرة في كتب الحديث والرواية.
والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى محمد وآله.. 16.
- 1. a. b. القران الكريم: سورة النساء (4)، الآية: 82، الصفحة: 91.
- 2. فصل الخطاب ص 211 ـ 212.
- 3. هذه الإحصائية استخرجها لنا الأخ الشيخ رسول جعفريان، وهي بالإضافة إلى كثير مما ذكرناه حول فصل الخطاب، مذكورة في أكذوبة تحريف القرآن ص 6871.
- 4. البيان لآية الله الخوئي (ط دار الزهراء سنة 1395 هـ) ص 226.
- 5. راجع: رجال النجاشي ص265 ورجال ابن الغضائري ص101 وخلاصة الأقوال ص419 ورجال ابن داود ص285 وقاموس الرجال للتستري ج11 ص167.
- 6. مناهل العرفان ج1 ص273 و 274.
- 7. راجع: مجمع البيان ج1 ص15 وراجع: الميزان في تفسير القرآن ج12 ص108 وأجوبة مسائل موسى جار الله ص30.
- 8. راجع الذريعة ج3 ص311.
- 9. راجع الذريعة ج20 ص189.
- 10. الجامع لأحكام القرآن ج1 ص81 و 82 و 83 و 84.
- 11. الجامع لأحكام القرآن ج1 ص84.
- 12. الشعراني في كتاب: اليواقيت والجواهر، وراجع: تفسير القمي (ط دار الكتاب للطباعة والنشر ـ قم) مقدمة المصحح ج1 ص22 عن الكبريت الأحمر (على هامش اليواقيت والجواهر) ص143.
- 13. الإحتجاج ج2 ص7 وكتاب سليم بن قيس ص369 وبحار الأنوار ج33 ص271 وج44 ص101 وج89 ص47 و 48.
- 14. الإيضاح لابن شاذان ص209 ـ 229.
- 15. من لا يحضره الفقيه ج4 ص369 وكنز الفوائد ص14 ومكارم الأخلاق للطبرسي ص442 ومستطرفات السرائر ص621 والجواهر السنية للحر العاملي ص145 وبحار الأنوار ج74 ص59 وجامع أحاديث الشيعة ج1 ص343 ومستدرك سفينة البحار ج7 ص316 ونهج السعادة ج8 ص185 وراجع: كشف الخفاء ج1 ص263 والوافي بالوفيات ج6 ص187 وسبل الهدى والرشاد ج7 ص5 وأعلام الدين في صفات المؤمنين للديلمي ص172 والملل والنحل للشهرستاني ج1 ص63.
- 16. ميزان الحق.. (شبهات.. وردود)، السيد جعفر مرتضى العاملي، المركز الإسلامي للدراسات، الطبعة الأولى، 1431 هـ. ـ 2010 م، الجزء الرابع، السؤال رقم (176).