لعل أصدق وصف يصدق على أحوالنا وأوضاعنا العربية والإسلامية، ويشكل مدخلاً أساسياً لفهم مشكلتنا في التقدم والتحضر، هو أننا كأفراد وجماعات ومجتمعات مشكلتنا أننا نتصادم مع أنفسنا، بطريقة كما لو أننا في ساحة معركة نتحارب فيما بيننا، كل واحد يرى في الآخر خصماً له، وهكذا ترى كل جماعة منا الجماعة الأخرى، ويرى كل مجتمع منا المجتمع الآخر. وهذا ما يدركه ويكتشفه كل من يمارس عملاً وعطاء في أي جانب كان، وبغض النظر عن نوعية هذا العمل وحجمه وتأثيره. الأمر الذي يعني أننا في حياتنا العامة وفي نشاطاتنا المتعددة نمارس الهدم على بعضنا أكثر من ممارسة البناء وبشكل لا يقارن. في حين أن معادلة التقدم والتحضر تشترط ارتفاع مؤشرات البناء بدرجة تتفوق فيها على مؤشرات الهدم.
وحين نتصادم مع أنفسنا فإن كل فرد أو جماعة أو مجتمع لا يريد أن يرى في الآخر تقدما ونجاحا وتفوقا، لأن كل فرد في مثل هذه الحالة سوف يقيس ذلك على ذاته فقط، وكأنه تقدم ونجاح وتفوق عليه بشكل لا يقبل به ولا يرضى عنه، فيدفعه هذا الإحساس لأن يصادم ذلك التقدم والنجاح، وهكذا كل جماعة في نظرتها إلى الجماعة الأخرى، وكل مجتمع في نظرته إلى المجتمعات الأخرى. وهذا يعني أن يشترك الجميع في مواجهة وتحطيم كل تقدم ونجاح وتفوق برغبته أو بدون رغب، فتتغلب حالة الهدم، وتتوقف أو تتراجع حالة البناء، لأننا نتصادم مع أنفسنا. الصدام الذي نحوله إلى عراقيل وعقبات ومعضلات نصنعها ونضعها في طريق بعضنا البعض، فنحاصر بها أنفسنا، حيث تستنزف قوانا، وتهدر طاقاتنا، وتضيع قدراتنا التي هي أثمن ما نملك، ونحن بأمس الحاجة إليها لتوجيهها في طريق البناء وصنع التقدم.
لذلك فإن بيئاتنا ومجتمعاتنا هي خصبة لتقبل ونشوء الصدامات والنزاعات، لأن الجميع يغذي هذه الحالات، ويكرسها بالسلوك والممارسة. الوضع الذي هو من أشد ما يتهدد بقاء وتماسك واستمرارية المؤسسات والأنشطة المشتركة التي هي معرضة دائماً للتفتت والإنشطار، ولأننا لا نحسن طرائق إدارة الاختلاف في الرأي وتعدد وجهات النظر التي سرعان ما تتحول إلى نوع من التباين والتصادم الذي قد يدار بطريقة ترفع من وتيرته وتضاعف من حجمه وتوسع في زمنه. وهذا ما يفسر سهولة الانقسامات الكثيرة والسريعة التي تتعرض لها المؤسسات والأنشطة المشتركة، فالجماعة الواحدة قد تتصادم مع نفسها، وفي داخلها إلى درجة الإنهاك والتفتت، حيث تنقلب معها الأهداف والمقاصد والغايات، وتفقد تجلياتها وزخمها وعظمتها.
وتتضاعف هذه الحالة في المجتمعات التي تنغلق على نفسها حيث تضيق بها الآفاق، فلا يرى الناس إلا أنفسهم، كما لو أنهم في مكان يضيق بهم، ولا يحتكون إلا ببعضهم، ولا يرون العالم إلا في هذه الحدود الضيقة، فتنشأ التصادمات بينهم لأبسط الأسباب الجزئية والهامشية. لدرجة أصبح من الصعب على المؤسسات والأنشطة المشتركة أن تحمي نفسها من التفتت والانهيار في ظل أوضاع تدفع نحو الانشغال بمعارك وهمية وبقضايا جزئية، فتختل عندئذٍ الأولويات وتنقلب الخيارات. وهل هناك ما هو أخطر في أن يرى المجتمع نفسه في صدام مع نفسه بإدراك منه أو بدون إدراك.
والصورة المعاكسة لهذه الحالة حين يرى المجتمع نفسه في بناء مع نفسه، حيث يشترك الجميع في عمليات البناء والإنماء والعطاء، وينظرون إلى كل تقدم على أنه تقدم للجميع، وهكذا كل نجاح وتفوق. والفرق هنا هو بين ذهنيتين ومنهجيتين ونظامين في التفكير، والفاصل بينهما هو معادلة التخلف والتحضر. والتحدي الذي بحاجة إلى استجابة هو في القدرة على العبور من ذهنية الانقسام إلى ذهنية التكامل، ومن منهجية الهدم إلى منهجية البناء، ومن نظام التصادم إلى نظام التضامن. وهذا العبور يتطلب من الأمة أن تعي ذاته، وتنظر إلى مستقبلها بمسؤولية وأفق بعيد، وأن يرفع العقلاء أصواتهم نقداً وإصلاحاً لأوضاع ينبغي أن تتغير..1
- 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ الأربعاء 10 ديسمبر 2003م، العدد 13619.