يختلف العلماء حول بداية و ظهور التشيّع، فقد قالوا: إنّه بدأ وفاة النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) و ما رافق ذلک من حوادث حول شخص الخليفة الذي سيحل محل النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) في إدارة البلاد.
وتشير الحوادث التاريخية في تلک الفترة الي وجود ثلاثة فصائل رئيسية کانت لها مواقف مصيرية حول هذه المسألة الخطيرة.
فهناك الأنصار الذين اعتبروا الخلافة حقاً طبيعيا ً لهم لإنّهم نصروا النبيّ وقاتلوا من أجله.
وهناك المهاجرون الذين ادّعوا بإنّهم شجرة النبي و أصله و إنّهم أوّلى بهذا الميراث من غيرهم، و قد سجّل التاريخ و قائع ما احتدم من جدل حول ذلک في السقيفة.
وهناك بنو هاشم و هم يمثّلون الفصيل الثالث الذي کان له رأيه و حجّته حول خلافة النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) و في رأيهم أن علي بن أبي طالب هو المؤهل الوحيد لهذا المنصب، و لا يقف بنو هاشم وحدهم بل التف حولهم وحول علي بالذات جمع من الصحابة الأجلّاء؛ کان في طليعتهم: سلمان الفارسي و أبوذر الغفاري و المقداد و عمّار بن ياسر و البراء بن عازب و آخرون.
وقد امتنع هؤلاء عن بيعة أبي بکر و وقفوا الي جانب علي في محنته تلک، ومن هنا کانت بذرة التشيّع و ظهور فريق إسلامي يساند عليّا.
ولقد تخلف عن بيعة أبي بکر جمع من المهاجرين و الأنصار و کان هواهم مع علي بن أبي طالب؛منهم: العباس بن عبد المطلب و الفضل بن عباس و الزبيربن العوام و خالدبن سعيد و المقداد و سلمان الفارسي و أبوذر الغفاري و عماربن ياسر والبراء بن عازب و ابي بن کعب1.
وقال بعضهم: ان التشيّع انما ظهر في أواخر خلافة عثمان، و با لتحديد في الفترة التي ظهرت سياسته في توزيع الثروات و تقريبه بني امية و تسلّطهم علي شؤون البلاد و رقاب العباد، فقد نجم عن سياسته التعسفية تلک تململ، و أبدي کثيرون اعتراضهم و غضبهم جرّاء ذلک، و وقفوا في تلک الفترة الي جانب علي، وبدأوا بحرکة دعائية واسعة في مختلف المدن و الحواضر الإسلامية، و کان عبدالله بن سبأ أحد الناشطين فيها، و ان تلک الحقّبة من الزمن قد شهدت ميلاد التشيّع.
ويقول آخرون: إن التشيّع بدأ مع تسنم علي (عليه السلام) منصب الخلافة.
وفي رأي ابن النديم: إن التشيع ظهر إبّان حرکة طلحة و الزبير بعد نکثهما البيعة و اشتعال حرب الجمل بذريعة الطلب بدم عثمان، حيث أطلق علي الذين وقفوا الي جانب عليّ (عليه السلام) اسم الشيعة2.
ويري البعض أن ظهور التشيع ککيان فکري، کان بعد حرب صفين وحدوث أخطر انشقاق في جيش الإمام علي (عليه السلام) والذي حمل اسم الخوارج، الذين اعلنوا آراءهم قبل مسألة التحکيم و بعدها، و تمادوا في عصيإنهم للشرعية بتکفيرهم الإمام، و قالوا بکفرکل من يحکم في أمر الله متخذين من الآية الکريمة غطاءً لحرکتهم “ان الحکم إلا لله ” و إنّه لاضرورة للخلافة و لا للإمامة، و ل اأن يکون الخليفة أو الإمام قرشيّا ً بالضرورة.
وفي مقابل هذه الآراء المتهوّرة أبدي أنصار الإمام عقائد مناهضة و أعلنوا عصمة الإمام، و أن الإمامة ضرورة دينية، و أن سيّدنامحّمدا ً(صلى الله عليه و آله وسلم) نصب عليّاً للأمامة و الخلافة، و قالوا إن الامام لابد و ان يکون من قريش ومن بني هاشم، و هذه أوّلي بذور التشيّع.
فيما ينادي آخرون: بأنّ التشيع ظهر بعد مذبحة کربلاء ومصرع الإمام الحسين و أنصاره و أهل بيته علي شواطئ الفرات. فلم يخطر علي بال المسلمين قبلها أن يصل جهاز الخلافة في إنحرافه حدا ً يجنح فيه الي قتل سبط الرسول (صلى الله عليه و آله و سلم) علي ذلک النحو الفجيع، و أسر بنات محّمد (صلى الله عليه و آله و سلم) و اقتيادهن سبايا.
وفي تلک اللحظة الدامية أدرک المسلمون أن الملک عقيم و کان لتلک الحادثة الرهيبة الأثر العميق في انبعاث الضمير الإسلامي في أعماقهم، و تغلغل حب أهل البيت في نفوسهم و آمنوا أن الخلافة و الإمامة حق مشروع لأهل البيت دون غيرهم. وخلاصة القول ان الدم الحسيني الطاهر و دماء أهل بيته و أنصاره هو المؤسس للتشيع في التاريخ.
وهناک من يقول ان التشيع ظهرفي زمن الإمام الصادق (عليه السلام) حيث ظهرت فرقة الإمامية و تبلورت عقائدها و آراؤها الفقهية، و أصبح لها کيان خاص يميّزها عن سائر المسلمين.
وفي مقابل کلّّ ذلک، هناک من يري أن التشيع ظهرفي زمن النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) و نشأ علي يديه.
ويقولون ان الشيعة أوّلي الفرق الإسلامية و کانت تشايع عليّا منذ زمن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) و تعتقد بإمامته، و کان من بينهم صحابة أجلّاء کالمقداد و سلمان و أبي ذر و عمار، و الشيعة اصطلاح قرآني، فقد کان لنوح شيعته و لأبراهيم و موسي و عيسي3. وان کلمة (شيعة) ظهرت في زمن النبي واطلقت علي اتباع علي بن أبي طالب (عليه السلام) کسلمان و أبي ذر و المقداد و عمار4.
هذا استعراض سريع لآراء المؤرخين و العلماء حول بدء التشيع و لايسعن هنا تفصيل ذلک في تحليل حوادث التاريخ، و ما يمکن مناقشته هنا هو ما يرتبط ببحوث الکتاب: إن مسألة ظهور التشيّع يمکن بحثها في إطارين؛ الأوّل: ان الشيعة تعني اقتفاء آثار علي (عليه السلام) والبحث في بداياته الأوّلي و متي أصبح علي مثالاً يحتذي به؟
والثاني: بحث التشيّع ککيان اجتماعي يؤمن بخلافة علي ايمانا ً قاطعاً، وبعبارة آخري إن الشيعة إصلاح يطلق علي من يعتقد بخلافة علي(عليه السلام)وامامته، و يعدّ ذلک جزءاً من عقائده الخاصة.
وفي بحث المحور الأوّل ينبغي القول بأن بدء التشيع و ظهور الشيعة کان في عهد رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم)؛ذلک أن هناک ارتباطاً وثيقا ً بين اصطلاحي (الإمامة) و (التشيّع)؛ فالامام يعني(القائد)، و الشيعة يعني (الاتباع (، وفي ضوء الأحاديث التي ذکرت آنفاً کان علي (عليه السلام)إماما ً فهذا يعني وجود مأمومين.
وهناک حشد من الأحاديث التي تزخر بها کتب السنة و الشيعة تفيد بأن لفظ الشيعة انّما أطلقه النبيّ (صلى الله عليه و آله و سلم)علي أتباع علي (عليه السلام).
فعن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ﴾ 5 قال النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) (لعليّ): هم أنت و شيعتك. تأتي أنت و شيعتك يوم القيامة راضين مرضيين و يأتي عدوّکم غضبانا ً مقحمين “6.
وعن حابر بن عبد الله الأنصاري قال: کنّا عند النبي (صلى الله عليه و آله وسلم) فأقبل علي أبي طالب (عليه السلام)، فقال: قد أتاکم أخي؛ثم التفت الي الکعبة فضربها بيده، ثم قال: “والذي نفسي بيده إن هذا و شيعته هم الفائزون يوم القيامة”7.
وقال علي (عليه السلام): سمعت رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) يقول: ان الذين آمنوا و عملوا الصالحات أوّلئک هم خير البرية. ثم التفت إليّ وقال أنت يا علي و شيعتک.و ميعادک و ميعادهم الحوض.تأتون غرّا ً محجّلين”7.
وغير ذلک من الأحاديث التي تشير الي وجود طائفة من الصحابة کانوا يحبون عليا ً (عليه السلام) و يتولّونه و يعدّونه إماما ً لهم يقتدون به.
ان أقلّ مطالعة في کتب التاريخ التي تنأوّلت حقبة صدر الإسلام تکشف بشکل جلي عن وجود فريق من الصحابة کانوا يوالون عليّا ً (عليه السلام)، ويحبّّونه، و لم يکن ذلک عن تعصّب فارغ بل عن روية و تعمق لما رأوه من وفاء علي و إخلاصه و تقواه لله و رسوله، و قد سمّاهم رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) شيعةً لعلي (عليه السلام)، و لا يمکن تأويل الأحاديث التي کانت تبشّر علياً و شيعته بإنها نوع من الإخبار عن المستقبل.
ولاينبغي أن يفسّر کلامنا هذا عن وجود التشيّع في زمن النبي، بوجود فرقة متميزة مستقلة عن سائر المسلمين.
فالمسلمون في زمن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) کانوا کتلة واحدة و لم يکن هناک وجود حزبي أو فئوي، و قصاري ما يمکن قوله: ان هناک من بين صحابة البني (صلى الله عليه و آله و سلم) فريقا ً کانوا يکنّون لعليّ (عليه السلام) حبّا ً عميقاً و يعدّونه مثالا ً يقتدي به، لإنّه کان يجسّد الدين الذي معتقدون به، وعلي هو ربيب صاحب الرسالة و رسول السماء.
أما بحث التشيّع في المحور الثاني، فيمکن القول: ان ظهور الشيعة ککيان سياسي ظهر عقب وفاة النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) و موقف فريق من الصحابة و بني هاشم في تأييدهم لحق علي و رفضهم بيعة أبي بکر.
ومن نافلة القول ان الشيعة کوجود سياسي و احصائي کان يتراوح قوّه وضعفاً متأثّراً بالحوادث.
فلم يکن عددهم بعد وفاة النبي سوي أفراد يعدّون بالأصابع، ثم تنامي عددهم بعد ممارسات الخلفاء و سياستهم، خاصّة في عهد عثمان الذي انتهج سياسة مالية کلّّها استئثار لأموال المسلمين و تسليط بني امية علي مقدرات المسلمين، مما أوجد ردود فعل عنيفة دفعت بالکثير الي الاتجاه صوب عليّ الذي ظلّ يمثّل في رأيهم امتدادا ً للرسول الکريم (صلى الله عليه و آله و سلم). و قد تصاعدت و تيرة الحوادث حتي وصلت الذورة بمصرع عثمان واتجاه الجماهير نحو علي و مبايعته.
و يمکن اعتبار فترة خلافة الإمام علي بمثابة فترة تمحيص کشفت عن نوايا الکثيرممّن وقفوا الي جانب علي لمصالح شخصية، و لما اکتشفوا ان الامام من النوع الذي لايساوم أحدا ً علي دينه تمرّدوا عليه و أثاروا فتناً داخلية أدّت الي ثلاثة حروب: هي: الجمل و صفين و النهروان.
وتأتي فاجعة کربّّّلاء بکلّّ مأساويتها لتبلور الوجود الشيعي و تجذره سياسيا ً وفکرياً و عقائديا.
ولقد کشفت “کربلاء” و بکلّّ سافر مظلّّومية أهل البيت و انحرافات الخلافة الخطيرة ثم ميلاد الضمير الشيعي الذي يمثّل الخط الإسلامي الأصيل.
ثم يأتي عهد الإمام الصادق (عليه السلام) حيث نشهد في عصره ظهور التشيّع بمظهر الفرقة الإمامية کإحدي الفرق الإسلامية التي تنهض علي قاعدة فکرية و عقائدية و فقهية لها ملامحمها الخاصة.
و إذن يمکن القول إن بذره التشيّع بدأت في زمن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) ثم نمت و ترعرعت خلال الحوادث التاريخية المتعاقبة؛ليکون للتشيع کيان يحمل ملامحه الخاصة به.
إثارة
من اللافت للنظر تاريخياً ان الجدل الذي احتدم في السقيفة بعد و وفاة النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) حول من يتولّى إدارة البلاد لم يتضمن أيّة استفاده من مصطلح (الامام) و (الامامة) و إنما دارالحديث حول شخص الخليفة فقط و ولي الأمر، فلم يقل الأنصار مثلا ً ان الإمامة فينا کما لم يقل المهاجرون إن الامامة ضرورة إسلامية و نحن أوّلي بها من غيرنا.
فهل حدث ذلک مصادفة أوّلعلّة ما؟ هل کانت للإمامة شروطها التي لم تتوفرفيهم ؟ أم ان الإمامة کانت تتجسد في شخص واحد هو علي بن أبي طالب، و لم يکن بالإمکان منازعته في ذلک؟
وفي کلّّ الأحوال فإن ما دار في السقيفة من جدل و ما أسفر عنها من حوادث و نتائج، کانت حول الرئاسة و الحکم و من سيخلف النبي في الحکم؟ فيما تمّ إغفال مسألة الإمامة بشکل نهائي.
ولکننا نجد و بعد أن تعاقب الخلفاء علي الحکم نجد موضوع الإمامة يطرح شيئا ً فشيئا. حتي وصل الأمر ان نجد أفراداً مثل معاوية يتحدّث عن نفسه کإمام.
ولقد ذکّر الأمام علي في احدي رسائله معاوية بإنّه من الطلقاء الذين لا يصلحون للخلافة:
“واعلم يا معاوية انّک من الطلقاء الذين لا تحلّ لهم الخلافة و لا تعقد معهم الامامة و لا تعرض فيهم الشوري”8.
ومن اللافت للنظرأيضاً أننا نجد کتب التاريخ تتحدث عن الخلافة و الخلفاء سواء الراشدين منهم أو خلفاء بني امية أو بني العباس؛ في الوقت الذي نجد فيه إغفالا ً للإمامة و الإمام، فلم يستخدم هذا الاصطلاح إلا في نطاق ضيّق، بينما نجد مسألة الامامة تتصدر البحوث الکلّّامية، إذ نجد الشيعة يطلقون علي عليّ (عليه السلام) وقادتهم من أوّلاده مصطلح الأئمة، و لم يکونوا يستخدمون مصطلح الخليفة إلّا في ما يخص علي و علي نطاق ضيّق فقط؛ وحين يکون الحديث عن الخلفاء الذين سبقوه.
و في مقابل هذا نجد اهتمام السنة منصبا ً علي مسألة الحکم و خلافة النبي في الحکم و الإدارة، اما الإمامة فلم تحظ باهتمام يذکر.
وبينما نجد الشيعة يتحدثون عن فضائل و کمالات شخص الإمام و مدي ضرورتها عقائدياً و إنّه المؤهل الوحيد لخلافة النبي في القيادة، نجد صمتا ً مطبقا ً في الجانب السنّي عن ذلک. وبذلک سجّل الشيعة تقدّما في هذا الموضوع.
فقد ذکر ابن النديم ان علي بن اسماعيل بن ميثم التمار هو أوّل من ألّف وبحث في الإمامة9.
و قال في هشام بن الحکم: إنّه من أصحاب الامام جعفر الصادق (عليه السلام) و إنّه من متکلمي الشيعة، بَحَثَ في الإمامة و فتح الباب في ذلک علي مصراعيه، و کتب في المذهب مؤلفات عديدة؛ منها: کتاب في الإمامة7.
واذن فإن الإمامة لدي الشيعة تحتل منزلة سامية و هي مقام شامخ رفيع، فيما تبقي الخلافة لديهم مسألة ثانوية و يبقي الخلفاء في رأيهم أفراداً شغلوا مناصب ليست من شإنّهم ولا هم أهل لها.
وقد ظلّّّ مصطلح الخليفة فاقدا ً لقيمته لديهم، فلم يتسنم أي من أئمة الشيعة باستثناء علي (عليه السلام) هذا المنصب و کان ذلک لمدّة قصيرة، فظلّّوا محرومين منها طوال القرون المتعاقبة مع التأکيد علي ان خلافة الرسول (صلى الله عليه و آله و سلم) هي من حق الإمام و إنّه الفرد الوحيد المؤهل لقيادة الامّة10
- 1. تاريخ اليعقوبي: ج2ص124.
- 2. فهرست ابن النديم: ص263.
- 3. المقالات و الفرق: ص25-فرق الشيعة: ص39.
- 4. حاضرالعالم الإسلامي: ج1ص188.
- 5. القران الكريم: سورة البينة (98)، الآية: 7، الصفحة: 598.
- 6. غاية المرام: ص327.
- 7. a. b. c. المصدر السابق.
- 8. الامامة و السياسة: ج1ص93.
- 9. فهرست ابن النديم طبعة مصرص 263.
- 10. من کتاب دراسة عامة في الامامة.