من الواضح جداً أنّ الحريّة الشخصيّة التي نادى بها عالم اليوم وصلت إلى حدود بعيدة من الإنحراف عن التوازن في معناها ومفهومها، فتحولت الحريّة بالتالي إلى فوضى وعدم إنضباط على كلّ المستويات في حياة الفرد، وأدّى هذا المسار المنحرف للحريّة إلى نتائج وخيمة جداً على المجتمعات الغربيّة وعلى كلّ التجمّعات البشريّة المتأثّرة بها والمحكومة لها، وأوّل ضحايا تلك الحريّة كانت الأسرة بما هي وحدة متماسكة يتكوّن منها المجتمع، وتفكّكت الأسرة تحت شعار الحريّة التي أعطت الأبناء حقّ الإستقلال التّامّ عن التّفاعل مع الأسرة كوحدة إجتماعيّة صغيرة، وقد كفلت قوانين الدول الغربيّة الحقّ في تلك الحريّة التي خرجت عن كلّ الضوابط الأخلاقيّة والسلوكيّة بل الإنسانيّة أيضاً، وأدّت تلك الحريّة المزعومة إلى إستغلال أصحاب النيّات السيئة والمدمّرة لذلك الجوّ المتحرّر وعملوا على الترويج للإباحيّة والجنس من دون عوائق والعلاقات غير المشروعة خارج إطار الزواج بمعناه المؤسساتي المنظَّم بحجّة أنّ الإنسان في أموره الشخصيّة هو “حرّ”، وحريّته لا ينبغي أن يقيّدها أيّ قانون أو نظام أخلاقي أو إجتماعي طالما أنّه لا يتعدّى على حقوق المجتمع أو الآخرين، وأدّى هذا المعنى المنحرف للحريّة إلى إنتشار الفساد والرذيلة والجريمة وشيوع إستعمال المخدرات والأمراض الخطيرة على مستوى الأمم والمجتمعات كالإيدز والهربس والزهري وغير ذلك ممّا يفتك بملايين البشر سنوياً وفق الإحصاءات التي تنشرها المؤسسات العالميّة المهتمّة بمثل هذه الأمور.
والأخطر من كلّ ذلك الذي حصل هو محاولة شرعنة مثل هذه الحريّة حتى على مستوى التعليم والتثقيف بحجة أنّ الأجيال الصاعدة لا بد لها من التعرّف على الخصائص الجنسيّة لكل من الذكر والأنثى حتى يعرف كلّ منهما كيف ينبغي أن يتصرّف، ومن ثم الترويج لضرورة إقامة العلاقات قبل الارتباط بالزواج الشرعي أو القانوني على الأقل من باب أن التجربة خير وسيلة للمعرفة في هذا المجال، وصار تدريس هذه المسائل وبهذه الحجة الواهية جزءاً من البرامج الدراسيّة في البلدان الغربيّة والكثير من البلدان المستضعفة والمسلوبة إرادتها وحرياتها لصالح المفهوم الاستكباري للحرية والذي قد يتنافى، بل قد يتناقض أحياناً مع ثقافات الشعوب خاصة العقائديّة منها أو الملتزمة.
وكان إدخال هذه البرامج “التربية الجنسية” في المناهج الدراسية سبباً رئيساً من أسباب إزدياد العلاقات المحرّمة، ومشاكل الإجهاض والأمومة المبكرة، والاستقلال المبكر للفتاة عن الأهل ونزولها إلى ساحة العمل ومعترك الحياة في سن مبكّرة، إلى الكثير من المشاكل الاجتماعية الكثيرة الناتجة عن ذلك المسار الذي يدعو الكثير من علماء ذلك العالم اليوم إلى ضرورة إصلاح النظام التعليمي والاجتماعي لوقف التدهور الحاصل على مستوى الأجيال والشعوب.
لهذا فنحن نرى في طرح تعليم – التربية الجنسية – لطلابنا وأبنائنا في لبنان، محاولة للقفز فوق الضّوابط والنّظم الاجتماعيّة والأعراف والتقاليد التي لا زالت حيّة بنسبة معقولة ومقبولة في مجتمعنا اللبناني بشكل عام وبين المسلمين بشكل خاص، ونرى في هذا الطرح أيضاً دعوة إلى الإباحيّة والتحلّل والخروج عن ضوابط المجتمع اللبناني، وهو خطوة على طريق التّمهيد لطرح مفاهيم لا تتلاءم مع واقع التدين العام الموجود في لبنان كالزواج المدني وغيره مما لا يمكن طرحه إلا عبر مقدمات من أهمها – التربية الجنسية – والتي عند سيطرتها على عقل الفرد أو شهواته لا تجعله يفكر في دين أو جنسية أو خلفيّة من يريد الإرتباط بها أو ما شابه ذلك.
من هنا فإنّ هذا الطرح من وجهة النّظر الإسلاميّة مرفوضٌ بالصيغة المطروحة حالياً، وأقصى ما يمكن قبوله منه مع تهذيب ومع صياغة جديدة إنما هو في مجال الإختصاصات الطبيّة ذات العلاقة بهذا الموضوع فقط ووفق ضوابط الأحكام الشرعيّة التي تحدّد الضّوابط المتوازنة حتى لا يفلت الأمر إلى غير ساحة الاختصاص وميدانه.
وبنظرة أخرى فإنّ هذا الطرح ليس بريئاً بالمطلق، خاصة في لبنان حيث نعيش حالة مقاومة نشطة وفاعلة ضد العدو الصهيوني المحتل للأرض، والمهجّر للإنسان والمدمِّر للحياة والمنتهك للقيم، ومثل هذا الطرح لا يتماشى مع مجتمع يريد أن يعلِّم أبناءه وأجياله كيف يحرّر أرضه بدلاً من تعليمهم ما يمكن أن يؤدّي إلى عكس الهدف وهو تحرير الأرض والإنسان من رجس العدوّ وإزالة آثار العدوان بالكامل.
والحمد لله رب العالمين1.
- 1. نقلا عن موقع سبل السلام لسماحة الشيخ محمد التوفيق المقداد (حفظه الله).