نص الشبهة:
نجد في نهج البلاغة رسالة عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) إلى معاوية، جاء فيها «إنّه بايعني الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد…». وفي هذا دليل على أُمور:
- أنّ الإمام يُختار من قبل المهاجرين والأنصار.
- أنّ عليّاً (عليه السلام) بُويع بنفس الطريقة التي بُويع بها أبو بكر وعمر وعثمان.
- أنّ الشورى للمهاجرين والأنصار، وهذا يدلّ على فضلهم.
- أنّ قبول المهاجرين والأنصار ورضاهم ومبايعتهم لإمام لهم يكون من رضا الله.
- أنّ الشيعة يلعنون معاوية ولم نجد عليّاً (عليه السلام) يلعنه في رسالته.
الجواب:
إنّ القرآن الكريم يعلِّم المسلمين كيفية مخاطبة مخالفيهم باتّباع إحدى الأساليب التالية:
- إمّا بالبرهان والاستدلال العقلي.
- أو بالموعظة الحسنة.
- أو بالجدل، ومعناه إقامة الدليل على الخصم اعتماداً على ما يعتقده من مسلّمات ومعتقدات 1.
وهنا نجد أنّ أمير المؤمنين عليّاً (عليه السلام) ومن خلال كلامه في هذه الرسالة قد اعتمد الأُسلوب الثالث مع خصمه اللدود، وهو الأُسلوب الجدلي; حيث احتجّ على معاوية بنفس منطقه ومعتقده، فقال له: إنّ الذين بايعوا الخلفاء الثلاثة ـ الذين تدّعي إيمانك بخلافتهم ـ هم أنفسهم الذين بايعوني، فلِمَ تقبل بيعة هؤلاء الناس للخلفاء الثلاثة وتمتنع عن قبول بيعتهم لي؟
فهذا النوع من الخطاب الجدلي لا يدلّ على أنّ الإمام عليّاً (عليه السلام) يقبل منطق معاوية.
وإذا أردنا أن نتوسّع قليلاً في هذا المطلب ونبيّن أصل الاختلاف فيه، نقول:
إنّ أمير المؤمنين عليّاً (عليه السلام) قد أمسك بزمام الخلافة بعدما بايعه المهاجرون والأنصار، وبعد إصرار كبير منهم، ولعلمه أنّ معاوية لم يكن رجلاً صالحاً يُؤتَمن على إمارة الشام، فقد قام (عليه السلام) بعزله عن الإمارة مباشرةً، على رغم ما اقترحه بعض المسلمين بإمهال معاوية حتّى يتمكّن الإمام (عليه السلام) من السيطرة على شؤون الدولة، وتستتب له الأُمور، ثم يعزله بعد ذلك، لكنّه (عليه السلام) رفض هذا الاقتراح وعزل معاوية ولم يدعه في منصبه يوماً واحداً.
وهنا قام معاوية ـ طالب الدُّنيا ـ بالتمرّد على الإمام (عليه السلام) بدعوى المطالبة بدم عثمان، وحاول اتّهام الإمام (عليه السلام) بالمشاركة في قتله.
هذه هي الظروف التي كتب فيها الإمام (عليه السلام) تلك الرسالة لمعاوية، لخّص له فيها سبب تمرّده وبيَّن له فيها أنّه على علم بما يدور في خَلده، وهو أنّ قيامك وتمرّدك يعود إلى أمرين:
الأوّل: أنّك تدّعي أنّ خلافتي غير مشروعة، في حين أنّ خلافتي تتّصف بنفس مواصفات خلافة مَنْ سبقني من جهة الكمّ والكيف; فالأشخاص الذين بايعوني هم نفس الأشخاص الذين بايعوا الخلفاء الثلاثة.
الثاني: إن كنت تعتمد على اتّهامي بقتل عثمان فأنت تعلم أنّني بريءٌ من ذلك ولذلك كتب في ذيل رسالته: «لَئِنْ نَظَرْتَ بِعَقْلِكَ دُونَ هَوَاكَ لَتَجِدَنِّي أَبْرَأَ النَّاسِ مِنْ دَمِ عُثْمانَ » 2.
من هنا يتبيّن لنا أنّ الإمام علياً (عليه السلام) لم يكن في مقام بيان مسألة كلاميّة وعقائديّة، بل كان في مقام قطع الطريق أمام معاوية الذي تمرّد عليه، وفَضْح دعواه الزائفة عن طريق سلوك الأُسلوب الجدلي المنطقي.
وكان هذا ديدنه (عليه السلام) مع كثيرين، فقد واجه طلحة والزبير وكذلك الخوارج بنفس ذلك الاُسلوب المنطقي تفادياً لوقوع الحروب وإراقة الدِّماء.
والنتيجة: أنّ كلّ ما استخلصه السائل من نتائج خمسة، هو استنتاج واه وبلا أساس.
وأمّا القول بعدم تعرّض عليّ (عليه السلام) إلى لعن معاوية في الرسالة، فلأجل أنّ الإمام يهدف في هذه الرسالة إلى احتواء معاوية وإعادته إلى جادّة الصواب، لا إلى مزيد من الإبعاد والنفرة، فلم يكن اللّعن منسجماً مع هدفه (عليه السلام).
ثم لماذا يتغافل جامع الأسئلة عن مواقف الإمام (عليه السلام) مع معاوية المذكورة في نفس نهج البلاغة حيث يصفه بالغدر والفجر ومنها: مَا مُعَاوِيَةُ بِأَدْهَى مِنِّي، وَلكِنَّهُ يَغْدِرُ وَيَفْجُرُ …؟! 3 4 .
- 1. قال تعالى: ﴿ ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾
- 2. نهج البلاغة: 3 / 7، الكتاب رقم 6 .
- 3. نهج البلاغة: 2 / 180، من كلامه له برقم 200 .
- 4. هذه الإجابة نُشرت على الموقع الالكتروني الرسمي لسماحة آية الله العظمى الشيخ جعفر السبحاني دامت بركاته .