في عقدي الستينات والسبعينات كان الإسلام بمعناه الذي نراه اليوم غير موجود، بل إن التدين لم يكن حالة عامة خصوصاً بين الشباب الذين كانوا ينظرون إلى الدين والإسلام على أنه عودة إلى الوراء والتخلف وعدم إرادة التطور نحو اللحاق بركب العصر الحديث –عصر العلم والحضارة والتقدم-.
في تلك المرحلة ظهر سماحة الإمام السيد موسى الصدر من بين كل هذا الكم الهائل من الفكر التغريبي ليمارس الإسلام بطريقة مغايرة لما كان عليه ديدن رجال الدين في لبنان الذين كانوا قد ركنوا واستكانوا بحيث بدا كأنهم لم يعد لهم الدور الريادي كما كانوا عليه في الأزمنة السابقة والعهود الغابرة، وكما في لبنان كان الأمر كذلك على مستوى العالمين العربي والإسلامي، بحيث إن جلَّ اهتمامات رجال الدين كانت تكاد تنحصر في العبادات وبعض أحكام التجارة والمواريث والأحوال الشخصية، بينما الأجواء الطاغية على المجتمعات الإسلامية هي الابتعاد عن الدين ومفاهيمه الأصيلة والصحيحة، خصوصاً على مستوى الأنظمة الحاكمة.
ونتج عن ذلك المسار الذي سلكته الغالبية من رجال الدين الابتعاد عن التدخل في المسائل السياسية المتعلقة بإدارة أمور الدول الإسلامية وتركوا ذلك للقادة السياسيين غير الدينيين الذين خلت لهم الساحة لإدارة أمور دولهم عبر الارتباط بقوى الاستكبار الغربي تارة، أو بالقوة التي كانت لدى الإتحاد السوفياتي سابقاً.
وعندما وجد السيد موسى الصدر هذا الواقع لم يستسلم له، بل واجهه بقوة وعمل على كسر الطوق الذي حبس رجال الدين أنفسهم فيه وقال كلمته المشهورة: (إنني أعتبر العمل السياسي والإجتماعي جزءاً من مسؤوليتي الدينية) وانخرط في العمل السياسي الداخلي في لبنان وعلى مستوى القضايا العربية والإسلامية العامة وعلى رأسها “قضية فلسطين” وجعلها جزءاً لا يتجزأ من نشاطه وتحركه السياسي، وقال الكلمة المشهورة لأبي عمار في احتفال الأونيسكو الحاشد: (إعلم يا أبا عمار “أن شرف القدس يأبى أن يتحرر إلا على أيدي المؤمنين)، وهذا ما شكّل إعادة الصراع مع العدو الصهيوني إلى جذوره الدينية العميقة، وكذلك أدرك الإمام الصدر أخطار الكيان الصهيوني على لبنان والمنطقة العربية والإسلامية بشكل عام، وأطلق شعاره بأن “التعامل مع إسرائيل حرام” و”بأنها شر مطلق” لا يمكن القبول به ولا التعايش معه، ولذا عمل على تأسيس حركة مقاومة للعدو الصهيوني لحماية لبنان وجنوبه من اعتداءات إسرائيل وتجاوزاتها ومن هنا كانت “أفواج المقاومة اللبنانية”
– أمل – الحركة التي أنشأها لتكون الذراع العسكرية للدفاع والمواجهة.
وهذا كله هو جزء من المهام التي قام بها السيد موسى الصدر، ومن الأعمال الجليلة التي قام بها هي العمل على بناء المؤسسات ذات التوجه الإسلامي ونشر حالة الوعي الديني الإسلامي الصحيح، وأن التدين ليس حالة معارضة للعصر الحديث بل تتوافق معه وتتماشى، لأن الإسلام هو دين الإنسانية كلها، ومن هنا كان لسعيه الدؤوب الذي أثمر عن تأسيس “المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى” لكي يكون المرجعية الدينية للشيعة في لبنان على مستوى الأمور الدينية وليكون الإطار الذي يحتضن ضمنه رجال الدين الذين شجعهم الإمام الصدر على الخروج من المساجد إلى الميادين الاجتماعية والسياسية العامة.
كما كان للسيد موسى دور مهم في مسار الثورة الإسلامية في إيران، وكان همزة وصل مهمة بين الداخل في إيران وبين أبناء الثورة في الخارج، وكان إلى جانبه في لبنان شخصيات لعبت دوراً بارزاً بعد انتصار الثورة ومن أبرزهم الدكتور الشهيد مصطفى شمران رحمة الله عليه، وقد كان الإمام الصدر مورد مدح الإمام الخميني (قدس سره) واعتباره من رجالات الثورة، من هنا لم يكن مستغرباً أبداً أن تنتشر الحالة الإسلامية في لبنان والعالمين العربي والإسلامي بعد انتصار الثورة في إيران، لأن عمل السيد موسى الصدر وجهاده على مستوى لبنان والعالمين العربي والإسلامي كان قد مهد الطريق من خلال الأعمال التي قام بها وأشار للناس أن الإسلام هو دين الحياة في كل عصر، وجاء انتصار الثورة ليؤكد ذلك التوجه ويقويه.
ولهذا نسأل الله أن يعيد هذا الإمام الكبير مع رفيقيه اللذين غابا معه بطريقة لا زالت لغزاً محيراً إلى اليوم رغم مرور أربع وعشرين سنة كاملة على ذلك الاختفاء غير المبرر والذي هو حالة فريدة ليس لها نظير في العصر الحاضر.1
- 1. نُشرت هذه المقالة على الموقع الالكتروني الرسمي لسماحة الشيخ محمد توفيق المقداد بتاريخ:السبت, 15 شباط/فبراير.