اللحظة التي تجيء فيها ذكرى عاشوراء كل عام، هي لحظة تفجُّر إنساني محموم، وحراك إيماني متوَهج، لا تُستنفد ولا تتناهى بتقاوم الذكرى، لأن عاشوراء ليست نصاً مكروراً ولا (بورتريه للنسيان)، بل هي دفقٌ فكري وقيمي وثوري لا ينضب. ولا الذي ينفخ فيها ينفخ في رماد، وإنما في جمر ملتهب ومتأجج بعطر الشهادة ودم الشهداء.
في عاشوراء لا يُتحدث عن “رجل بعيد” يحاول المحبون له افتعال حضوره فيهم، ولا عن قربان يجري في مجرى الخيال والفانتازيا والميثولوجيا أو في حركة العصبيات الدينية، ولا عن رائعة روائية يكمن نابض إبداعيتها في الفجائعية والبكائية.
في عاشوراء يُتحدث عن الجناية التي ارتكبت بحق الإنسان كل الإنسان، بوجوده وضميره ومصيره، وعن الحق الذي لا يعمل به والباطل الذي لا يتناهى عنه. وعن الشهادة التي تحولت إلى مدرسة إحياء وحركة وإنهاض، وعن ثورة أولدت الإسلام من جديد وأعطته معنى إضافياً في طريق التجذّر والإستمرار والإنتشار، وعن تضحية بلغت ذروتها في السموّ والتعالي والإيثار من أجل أن تبقى كلمة الله هي العليا.
في الواقع، عندما يقارب أي فرد هذه الذكرى وحين يلج في أبسط أشكالها، سيجد أنه يكتشف ذاته ويبحث في نفسه عند أقضيتها ومنازلها المتعددة، وأنه قضى حياته منفياً عن معرفة قضية قصد أعداء الحسين والإسلام والحريّة والإنسان أن تبقى مجهّلة ومجهولة، وخافية ومخفية، ومسّورة بشتى ألوان التعتيم والتزييف.
فإذا كان النبي محمد صلى الله عليه وآله قد قاد ثورة ضد الباطل تستهدف الإطاحة بكل معالم الشرك، فإن الحسين(ع) قاد ثورة من ذات روحية جده، ونفس منطلق مدرسته تستهدف أيضاً الإطاحة بكل معالم الشرك التي تلونت بألوان أخرى مختلفة. وإذا كان النبي محمد صلى الله عليه وآله قد أوجد الإسلام حقيقة ظاهرة بيّنة وملموسة، فإن الحسين (ع) بشهادته وثورته أتم عملية الإستمرار هذه وصان ديموميته وبقاءه.
من هنا نعرف مدى أهمية قيامه بعد أن ساد الفساد، وتحوّل إلى واقع ما كان بالإمكان استئصاله إلا بسنابك الخيل وحد السيف. والتي تعني أيضا أن السكوت عن الباطل والظلم هو موت الإسلام في الصميم، وأن القبول بالوضع القائم يعني الرضوخ والاستسلام للمنكر، والخضوع لبغي الظالمين وجور الجائرين.
في تلك الظروف الرهيبة كانت الأمة الإسلامية غارقة في الخوف والحرص، تجنح نحو الحياد السلبي والخلاص الدنيوي. تحتاج إلى من يمسك بذاكرتها القصيرة مع رسول الله صلى الله عليه وآله والإسلام حتى لا تصبح مجهولة المصير والقيم فتعود إلى جاهلية الأصنام ووأد البنات.
فقام الحسين وريث رسول الله صلى الله عليه وآله إلى الإنسانية، ووارث حركة الأنبياء وجهادهم وعلمهم وتوحيدهم وعدلهم ويقينهم، صارخاً في بريّة التاريخ والزمن الآتي “وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، أسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب (ع) فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد علي هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين.”
وفي صحراء كربلاء الأرض الغريبة المعزولة بالنار واللهب والحقد، كان التحدي الأكبر وكان الوقوف الأكبر وكان الاستشهاد الأكبر في تاريخ البشريّة. في مقابل الحسين وأولاده وأصحابه كان هناك “مسلمون” من أولئك الذين ينطبق عليهم قول القرآن الكريم: ﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ﴾ 1
حيث لا يمكن أن تأتمنهم على دين أو مال أوأنفس. كانوا يريدون إلحاق الهزيمة بالحسين وكان هو يريد إحياء الدين. كانوا يريدون الإستيلاء على الحكم والسلطة وكان هو يسعى للقاء ربه وبلوغ الشهادة. كانوا هم بكامل جهلهم وغرائزيتهم، وكان هو بكامل وعيه وإيمانه ويقينه. كانوا هم عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم، وكان هو أبو عبد الله الذي يعمل بالآية القرآنية ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ … ﴾ 2.
كان الحسين في هذا المنعطف التاريخي الخطير يعلم أنه هو محور الإنسانية، هو محور التوحيد، هو محور العدل، هو محور الإستقامة والصلاح والحق. وكان عليه أن يكون مسؤولاً أمام الله أولاً وأما الضمير الإنساني والتاريخ الإنساني والمصير الإنساني وأن يفني وجوده كله ويمنحه لله من أجل الإنسان والعقيدة والقيم والمبادىء.
لم يكن في عقله تردد وفي قلبه تزلزل وخوف وضعف. كان قادراً أن يقوم بهذه المهمة بجرأة كبيرة وشجاعة عظيمة، وأن ينتقد ويوبخ ويواجه أي سلطة وقوة دنيوية مهما علا شأنها، وأن يمزق ستائرها الكاذبة ويفضح شعاراتها الخادعة.
إن سلسة الأحدااث التي عايشها الإمام الحسين تكاد لا تتوقف وكلامه في حضور دائم مع الزمن الآتي. لذلك اختار أن يعتلي منبر التاريخ شارحاً أهداف ثورته ومبادئها ومنطلقاتها وحركتها، ومبيناً ما يتصل براهن تلك الأيام وقادمها. فأدلى بشهادة حيّة، الهدف منها رفع مستوى الوعي والإيمان بحيث يتحول الناس إلى أفراد واعين ومسؤولين وأحرار وأعزاء ولديهم الإرادة للخروج من واقع الجور والجبن والاستسلام. وعندما نسمع إلى صرخته في بيداء كربلاء “هل من ناصر ينصرني” فإننا نعلم أنه كان يتوجه بسؤاله هذا إلى الأجيال القادمة، وكان ينتظر منهم الإجابة لمن يريد أن يكون مع الإسلام ومع رسول الله صلى الله عليه وآله ومع دينه وعقيدته ورسالته. كان يريد لجهور الإنسانية أن تتحدى الروتين والتفاهة والضعة والأفكار الباطلة، وتدافع عن قيم السماء وأن ترفع راية الجهاد حتى تنتصر لنبيها وللإنسان الذي يهجم عليه الظلم بكل أشكاله وصوره.
صحيح أن الإمام الحسين(ع) قد هزم مادياً وجسدياً ولكنه انتصر بشهادته وقيمه وأفكاره ورسالته. وهو اختار الشهادة العزيزة على العيش الذليل فكان التاريخي والإستثنائي الذي حمى الدين حتى تكون أمة محمد (ص) الأمة الشاهدة والأمة القدوة والأمة النموذج فهل من يسمع اليوم صوت الحسين ويعيه! هذا الصوت الذي دوّى في أعماق التاريخ وما زال صداه يتردد “إن الدعيَّ ابن الدعيَّ قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة”3.
- 1. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 18، الصفحة: 4.
- 2. القران الكريم: سورة الأنفال (8)، الآية: 24، الصفحة: 179.
- 3. المصدر: جريدة الثبات الجمعة 8 محرم1431- 25كانون الاول 2009 السنة الثانية العدد 95، سماحة الشيخ صادق النابلسي حفظه الله.