حالة الاُمّة قبل الصلح مع معاوية
لم يكن تفتّتُ أركان المجتمع الإسلامي -الذي كان يؤمن بأقدس رسالة سماوية وأعظمها وأشملها- في ظلّ حكم معاوية بن أبي سفيان وليد جهود آنيّة؛ فقد بدأ الانحراف من يوم السقيفة، إذ تولّى زمام اُمور الاُمّة مَنْ كان لا يملك الكفاءة والقدرة المطلوبة، وإنّما تصدّى لها مَنْ تصدّى على أساس العصبية القبلية1، ويشهد لذلك قول أبي بكر: وُلّيت أمركم ولست بخيركم2.
وانحدرت الاُمّة في واد آخر يوم ميّز عمر بن الخطاب في العطاء بين المسلمين، مخالفاً سنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ومبتدعاً نظاماً طبقياً جديداً، حتّى إذا حكم عثمان بن عفّان استفحل الفساد، واستشرى في جهاز الحكم والإدارة حين سيطر فسّاق النّاس وشرارهم على اُمور النّاس؛ فراحوا يعيثون في الاُمّة فساداً، كالوليد بن عقبة والحكم بن العاص، وعقبة بن أبي معيط وسعيد بن العاص وعبد الله بن سعد بن أبي سرح3.
وأصبحت العائلة الاُمويّة التي لم تنفتح على الإسلام لتشكل قوّة اقتصادية جرّاء نهبهم لثروات الاُمّة، وعطايا عثمان لهم بغير حق، وتغلغلوا في أجهزة الحكم، وتمكّن معاوية بن أبي سفيان خلال ولايته على الشام منذ عهد عمر أن يُنشئ مجتمعاً وفق ما تهوى نفسه الحاقدة على الإسلام والنبيّ (صلّى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السّلام)؛ فقد دخل هو وأبوه الإسلام مقهورين موتورين يوم فتح مكة، ودخل في عداد الطلقاء، بعد أن كان قد فقد جدّه وخاله وأخاه في الصّراع ضدّ الإسلام قبل فتح مكّة.
على أنّ طوال هذه الفترة -منذ وفاة الرّسول (صلّى الله عليه وآله) إلى نهاية حكم عثمان- لم يعتنِ النظام الحاكم بالدعوة الإسلاميّة ونشرها وترسيخها في النفوس، ولم يسعَ لاجتثاث العقد والأمراض والعادات القبلية، بل كان همّ الحاكمين هو الاندفاع في الفتوحات طمعاً في توسعة الدولة وزيادة الأموال.
وقد عمل الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام) منذ وفاة الرّسول (صلّى الله عليه وآله) جاهداً على أن لا تفقد الاُمّة شخصيتها الإسلاميّة وحاول تقليل انحرافها، فكان يتدخّل ويُعِين الفئة الحاكمة تارةً باللين واُخرى بالشدّة متجنّباً الصدام المباشر معهم؛ لأجل استرداد حقّه الشرعي في الخلافة، مؤثراً مصلحة الإسلام العامّة على ما سواها من المصالح4.
لقد فُجعت الاُمّة بمصلحها الكبير -يوم استشهد الإمام علي (عليه السّلام)- وانهارت بين يدي الإمام الحسن بن عليّ (عليهما السّلام) بعد أن أنهكتها حروب الإصلاح ضدّ الناكثين والقاسطين والمارقين ؛ إذ أسرعت القوى النفعية والمنافقة والحاقدة على الإسلام إلى الوقوف في وجه الإمام عليّ (عليه السّلام) متنكرة لأوامر الله سبحانه ورسوله (صلّى الله عليه وآله) غير مبالية بمصلحة الاُمّة، بالرغم من تجسيده للزعامة الحقيقية التي تقود إلى منهج الحقّ والعدل الإلهي، وهم يعلمون بشرعيته التي اكتسبها من الرسالة والرسول (صلّى الله عليه وآله).
وهذا ما كان يشكّل خطراً حقيقياً من شأنه أن يلغي وجودهم من المجتمع الإسلامي؛ ولهذا كانت حروب، الجمل وصفّين ثمّ النهروان.
ورأى الإمام الحسن (عليه السّلام) أن ينهض بالاُمّة مواصلاً مسيرة الإصلاح ومواجهة الانحراف، ولكنّ الجموع آثرت السّلامة والركون إلى الراحة 5، فاضطرّ الإمام الحسن (عليه السّلام) إلى الصلح والمهادنة مع معاوية -وهو المتحصّن القويّ في بلاد الشام- على شروط وعهود مهمّة؛ ليضمن سلامة الصّفوة الخيّرة من الاُمّة، وليبني قاعدة جماهيرية أكثر وعياً وأعمق إيماناً برسالتها الإسلاميّة، كي لا يُمسخ المجتمع المسلم ولا تُمحق الرسالة ؛ إذ ليس السيف دائماً هو الفيصل في حالات النزاع، فربما كان للكلمة والمعاهدة أثر أبلغ في مرحلة خطرة، حيث الهدف هو صيانة الرسالة الإسلاميّة وحفظ الاُمّة الإسلاميّة في كلّ الأحوال، وليتّضح دور النفاق والعداء الذي كان يتّسم به بنو اُميّة وما كان يُضمِرهُ حكّامهم للإسلام.
ولقد وقف الإمام الحسين (عليه السّلام) إلى جانب أخيه الإمام الحسن (عليه السّلام) وعايش جميع الأحداث التي مرّ بها أخوه، وكانا على اتّفاق تامّ في الرأي والموقف، يُعاضده في توجيه الاُمّة وإنقاذها بعد أن رأى كيف أنّ انحراف السّقيفة تكاملت أدواره في هذه المرحلة، وقد سرى هذا الانحراف في جسد الاُمّة حتّى غدت لا تتحفّز لنهضة الإمام الحسن (عليه السّلام) ولا تستجيب لأوامره.
وأحاط الإمام الحسن (عليه السّلام) بكلّ ما دبّره معاوية من المكائد والدسائس، وأصبحت الأكثرية من جيش العراق في قبضة معاوية بن أبي سفيان وطغمته، بعد أن كان يُمثّل جيش العراق العمود الفقري لجيش الإمام عليّ (عليه السّلام).
ولم يكن ليخفى على الإمام الحسين (عليه السّلام) أنّ المعركة -لو قدّر للإمام الحسن أن يدخلها مع معاوية- ستكون لصالح الأخير، وستنتهي حتماً إمّا بقتل الحسن والحسين وجميع الهاشميّين وخُلَّص شيعتهم، أو ستنتهي بأسرهم، في الوقت الذي تحتاج فيه الاُمّة الإسلاميّة إلى وجود الإمام المعصوم بينها؛ لإنقاذ ما تبقّى وبناء ما تهدّم، فإنّ الرسالة الإسلاميّة خاتمة الرسالات ولا بدّ من إتمام ما بناه الرّسول (صلّى الله عليه وآله) والإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام).
ومن ذلك تبيّن أنّ ما رواه بعض المؤرّخين من أنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) كان كارهاً لما فعله الإمام الحسن (عليه السّلام)، وأنّه قال له: «اُنشدك الله أن لا تصدّق اُحدوثة معاوية وتكذّب اُحدوثة أبيك»، وأنّ الحسن قال له: «اُسكت أنا أعلم منك»… يتبيّن أنّ هذه المرويّات لا أساس لها من الصّحة6.
هذا بالإضافة إلى أنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) كان أبعد نظراً، وأعمق غوراً في الاُمور ومعطياتها من أفذاذ عصره الذين قدّروا للحسن (عليه السّلام)موقفه الحكيم الذي لم يكن هناك مجال لاختيار موقف سواه، وكان (عليه السّلام) أرفع شأناً من أن تخفى عليه المصلحة التي أدركها غيره فيما فعله أخوه حتّى يقف منه ذلك الموقف المزعوم.
ولا يشكّ المعتقدون بإمامة وعصمة الإمامين الحسنين (عليهما السّلام) في عدم صحة الروايات التي تحدّثت عن معارضة الإمام الحسين (عليه السّلام) لموقف أخيه الإمام الحسن (عليه السّلام) من الصلح مع معاوية.
فإذا كان الحسنان (عليهما السّلام) إمامين مفترضي الطاعة، كان كلّ ما قاما به هو محض التكليف الإلهي، وطِبقاً لما أراده الله تعالى لهما، فليس ثمّة مجال لمثل تلك الروايات.
ويشهد على قولنا هذا روايات معتبرة تُعارض تلك الروايات غير الصحيحة، منها ما يلي:
1 – قال أبو عبد الله الصادق (عليه السّلام): “نحن قوم فرض الله طاعتنا، وأنتم تأتمّون بمَنْ لا يعذر النّاس بجهالته”7.
2 – سأل رجل أبا الحسن الإمام الرضا (عليه السّلام) فقال: طاعتك مفترضة؟
فقال: “نعم”. قال: مثل طاعة عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام)؟ فقال: “نعم”8.
3 – عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: قال له حمران: جُعلت فداك! أرأيت ما كان من أمر عليّ والحسن والحسين (عليهم السّلام) وخروجهم وقيامهم بدين الله (عزّ وجلّ)، وما اُصيبوا من قتل الطواغيت إيّاهم والظفر بهم حتّى قُتلوا أو غلبوا؟
فقال أبو جعفر(عليه السّلام): “يا حُمران، إنّ الله تبارك وتعالى قد كان قدّر ذلك عليهم وقضاه، وأمضاه وحتمه ثمّ أجراه، فبتقدّم علم ذلك إليهم من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قام عليّ والحسن والحسين، وبعلم صمت مَنْ صمت منّا”9.
4 – وعن عظيم أخلاق الحسين (عليه السّلام) واحترامه لأخيه الحسن (عليه السّلام) قال الإمام محمّد الباقر(عليه السّلام): “ما تكلّم الحسين بين يدي الحسن إعظاماً له”10.
5 – قال أبو عبد الله (عليه السّلام): “إنّ معاوية كتب إلى الحسن بن عليّ (صلوات الله عليهما) أن أقدم أنت والحسين وأصحاب عليّ، فخرج معهم قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري فقدموا الشّام، فأذن لهم معاوية، وأعدّ لهم الخطباء… ثمّ قال:يا قيس، قم فبايع، فالتفت إلى الحسين (عليه السّلام) ينظر ما يأمره، فقال: يا قيس، إنّه إمامي -يعني الحسن (عليه السّلام)-“11.
احترام الإمام الحسين (عليه السّلام) لبنود صلح الإمام الحسن (عليه السّلام)
استشهد الإمام الحسن (عليه السّلام) سنة (49) أو (50) للهجرة، ومات معاوية سنة (60) للهجرة، وفي هذه المدّة كانت الإمامة والقيادة للإمام الحسين (عليه السّلام)، ولم تجب عليه طاعة أحد، لكنّه (عليه السّلام) ظلّ ملتزماً ببنود معاهدة الصلح التي عقدها أخوه الإمام الحسن (عليه السّلام) مع معاوية، فلم يصدر عنه أيّ موقف ينتهك به بنود المعاهدة المذكورة، بل لمّا طالبه بعض الشيعة بالقيام والثورة على معاوية، أوصاهم بالصبر والتقية مُشيراً إلى التزامه بالمعاهدة، وأنّه سيكون في حِلٍّ من المعاهدة بموت معاوية.
رسالة جعدة بن هبيرة إلى الإمام الحسين (عليه السّلام)
كان جعدة بن هبيرة بن أبي وهب من أخلص النّاس للإمام الحسين (عليه السّلام) وأكثرهم مودّة له، وقد اجتمعت عنده الشيعة وأخذوا يلحّون عليه في مراسلة الإمام للقدوم إلى مصرهم الكوفة؛ ليعلن الثورة على حكومة معاوية، فدفع جعدة رسالة إلى الإمام الحسين (عليه السّلام) هذا نصها: «أمّا بعد، فإن من قبلنا من شيعتك متطلّعة أنفسهم إليك، لا يعدلون بك أحداً، وقد كانوا عرفوا رأي الحسن أخيك في الحرب، وعرفوك باللين لأوليائك والغلظة على أعدائك والشدّة في أمر الله، فإن كنت تحبّ أن تطلب هذا الأمر فاقدم علينا، فقد وطنّا أنفسنا على الموت معك»12.
فأجابه الإمام الحسين (عليه السّلام) بقوله: “أمّا أخي فإنّي أرجو أن يكون الله قد وفّقه وسدّده، وأمّا أنا فليس رأيي اليوم ذاك، فالصقوا رحمكم الله بالأرض، واكمنوا في البيوت، واحترسوا من الظنّة ما دام معاوية حيّاً، فإن يُحدث الله به حدثاً وأنا حيّ كتبت إليكم برأيي، والسّلام”.
يتبيّن ممّا تقدّم أنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) -انطلاقاً من مسؤوليته الشّرعية- اتّبع أخاه الإمام الحسن (عليه السّلام) في مسألة الصّلح مع معاوية، وقد قبله والتزم به طيلة حكم معاوية، بل إنّ عشرات الشّواهد تؤكّد أنّهما كانا منسجمين في تفكيرهما ونظرتهما إلى الاُمور ومعطياتها، ومتّفقين في كلّ ما جرى وتمّ التوصل إليه.
وكما نسبوا إلى الإمام الحسين (عليه السّلام) ذلك فقد نسبوا إلى الإمام الحسن (عليه السّلام) أيضاً أنّه كان على خلاف مع أبيه! في كثير من مواقفه السياسية قُبيل خلافته وخلالها.
ومن الواضح أنّ الهدف من أمثال هذه المزاعم هو زرع الشّك في نفوس الاُمّة بالنسبة للموقع الريادي للإمامين الشّرعيين الحسن والحسين (عليهما السّلام)؛ بغية إيجاد الفرقة والاختلاف كي يبتعد النّاس عنهما.
استشهاد الإمام الحسن (عليه السّلام)
أقام الإمام الحسن (عليه السّلام) بالكوفة أيّاماً بعد أن صالح معاوية، ثمّ عاد مع أخيه الإمام الحسين (عليه السّلام) وجميع أهل بيته إلى المدينة، فأقام بها كاظماً غيظه، لازماً منزله، منتظراً لأمر ربّه جلّ اسمه13.
وكما ذكرنا فإنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) رفض التحرّك ضدّ معاوية ما دام حيّاً؛ التزاماً بمعاهدة الصّلح التي كان قد عقدها أخوه الحسن (عليه السّلام) معه.
وقد اهتمّ الإمامان (عليهما السّلام) في المدينة بالعبادة وترسيخ العقيدة الإسلاميّة في نفوس النّاس، وتوضيح الأحكام الإسلاميّة للناس وإرشادهم وهدايتهم، والعمل من أجل تربية جيل واعٍ يتحمّل مسؤوليته تجاه الظلم والفساد والانحراف الحاصل في مسيرة الاُمّة.
وفي هذه السّنوات العشر -كما دوّنته جملة من مصادر التاريخ الإسلامي- قد حدثت عدّة مناوشات كلامية من جانب الإمامين الحسن والحسين (عليهما السّلام) بالنسبة لتصرّفات معاوية وجملة من عناصر بلاطه14.
- 1. الإمامة والسياسة 1 / 6.
- 2. عليّ والحاكمون / 109، وتأريخ الخلفاء / 71.
- 3. تأريخ اليعقوبي 2 / 41، والعقد الفريد 2 / 261، وأنساب الأشراف 5 / 38، وشرح النهج 1 / 67.
- 4. شرح النهج – لابن أبي الحديد 1 / 248.
- 5. الإرشاد – للمفيد / 8 – 9.
- 6. سيرة الأئمّة الاثني عشر 2 / 23.
- 7. اُصول الكافي 1 / 143، باب فرض طاعة الأئمّة.
- 8. …
- 9. اُصول الكافي 1 / 221 – 222 باب أنّ الأئمّة (عليهم السّلام) لم يفعلوا شيئاً ولا يفعلون إلاّ بعهد من الله (عزّ وجلّ) وأمر منه لا يتجاوزونه.
- 10. حياة الإمام الحسين 2 / 252.
- 11. بحار الأنوار 44 / 61.
- 12. حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) 2 / 229 – 230.
- 13. الإرشاد 2 / 15.
- 14. من کتاب الإمام الحسين (عليه السّلام) سيد الشهداء، تاليف لجنة من الكُتاب بإشراف سماحة السيد منذر الحكيم.