لقد شغلت قضية الالتزام حيزاً كبيراً من فلسفة الفن الجميل، والالتزام الفني لا يتعدى كونه حزم الأمر على الوقوف بجانب قضية ما سياسية كانت أو دينية عقائدية او اجتماعية أو فنية، والانتقال من التأييد الداخلي إلى التعبير خارجياً عن هذا الموقف بكل ما ينتجه الفنان من ابداع.. ومن الضرورة ان يكون هذا الالتزام نابعاً من وعي عميق بمشاكل الحياة والاحساس الانساني للمشاركة في جبهة الحق والعدالة فيصدر عن الفنان ما ينم عن الفهم والانتماء الصادق الذي يدفعه لرفع شعار الإنسانية بعيداً عن التعصب أو الفهم المقلوب للأشياء والحقائق، فالفنان بطبيعة الحال مطالب من أعماقه أن يتفاعل مع الآخرين ويكون الى جانبهم.. فالوقوف على الضفة الأخرى والاستغراق في التأمل الشخصي ليس من صفات الفنان الحقيقي ولا يمت له بصلة في أي عصر من العصور.
و يمتلك الفنان عادة المؤهلات اللازمة للمشاركة بجدية وفعالية في تطور العالم الإنساني ودفعه للأفضل ودحر بشاعة الظلم والجهل، فهو قادر على خلق انسان جديد وزرع الوعي في جنباته، كونه يرتكز في فنه على تقديم تجربة حية نابضة.. مكتملة معرفياً ومنطقياً ومقدمة بصورة حسية تجسد المفاهيم الصادقة والحقيقية، ليعايشها الفرد كمتلق ويتشرب بمفاهيمها كما لو انه يحيا حياته وفق الشروط الصحيحة، فيبنى أساسه ويصلب عوده بالاتجاه السليم والصحيح.. ولا يوجد ظلم كبير على الفنان أو على الفن أن التحقا في جبهة الالتزام الفني، فالواجب ان نفرق بين الالتزام والالزام، وان ليس ثمة تعارض بين حرية الفنان والتزامه الحر، فالالتزام الحقيقي للفنان هو ان يسعى إلى الكشف عن الحقيقة الجمالية ويعرضها للمجتمع، فعلى الفنان ان يقف في حياته بجانب الحق والجمال، فما يلتزم به من مباديء هو واجبه الذي عليه الالتزام به وإنجازه في مضمار الفن ويصدره للمجتمع، فالفنان المبدع قد يلتزم بقضية ما.. وهذا حق مشروع له كإنسان له خياراته، ولكن ما هو ملزم به هو أن يعرض قضيته الشخصية والمجتمعية وفق شروط الشكل الجمالي المؤثر، وعلى ضوء هذا وعلى مقدار الحقيقة الجمالية التي يكشفها الفن في اعماله تتحدد عظمة فكرة العمل الابداعي ومدى مقبوليتها ومقدار معالجتها للحالة المبتغاة .
ويعد التزام الفنان في عرض الحقيقة هو عين ما يتوجب على الفن تأديته، فكما هو معروف ان هدف الفن لا يقوم على تقديـم المظهر الخارجي للأشياء فحسب ولكن يتجاوز ذلك الى أهميتها الداخلية – فكرة العمل – ، لان الحقيقة تكمن في الأهمية الداخلية لا في التصنـع والتكلف والتفصيل الخارجي، وان الالتزام بإظهار الحقيقة في الفن هو في ذاته من طبيعة الفن.. فهو بالتزامه يمثل منهجا للتأمل والتحليل ثم إعادة تركيب التجربة بوساطة الحدس أو المحاكاة وبالتالي السعي إلى حفظ تجارب الإنسان واكتشافاته المعرفية لينتفع بها المعاصرون والأجيال اللاحقة، فهنا يؤدي الفن وظيفة الذاكرة الفعالة بالنسبة لبني البشر لا كخبرة متراكمة من الاستجابات والانعكاسات، بل ذاكرة العقل والقلب أي الذاكرة بوصفها ظاهرة اجتماعية تاريخية خالدة.. والإنسان لا يهدأ في سعيه المتواصل إلى تجاوز ذاته وواقعه إلى ما هو افضل واكمل، وليس مثل الفن وسطاً مثالياً لتلبية هذا النزوع عند الإنسان نحو التسامي والتكامل، لان جوهر الفن هو التركيز على ما ينبغي أن يكون وعدم الاقتناع والاكتفاء بما هو كائن، وهكذا فان الإنسان بوسعه بوساطة الفن ان يحقق وجوده الذي يحس بانه لم يكتمل تحققه بعد، وان يستوفي حياته التي لم يتم استيفاؤها خلال أشكال وتعبيرات أخرى، فالفنان من خلال تشكيله لعمله الفني يسعى لاستنطاق مادته الخام وجعلها تخبر عن آماله وطموحاته كفرد من المجتمع، بل انهـا ستكون بشكل وبصورة يبدعها خيال المبدع لتجسيد عالم خاص يعرض على نحو تجربة حيـة على الاخرين من المجتمع، بشروطه الفنية التي تعينهم على التذوق واكتساب الخبرة منه، فبالفن يتم تحويل تكوينات الخط واللون والكتلة، والصوت والإيماءة والكلمة إلى أبعاد إنسانية تغير من ملامح العالم فيبدو متعاطفاً مع غايات الإنسان كفرد او مجتمع، فالفن تعبير وبوح و تفريج عن الهموم والأحزان، بل قد يكون تحقيق لعالم غير متحقق على ارض الواقع او قد يكون متنفس يقلل من شدة الضغوط الاجتماعية والسياسية عندما لا يجد الفنان أمامه سوى ورقة وقلم ولون.. ليصبح هو العقار الشافي لجرح دائم النزف.
وتأسيساً على ذلك نستطيع القول ان ممارسة الفن تعد بشكل ما استجابة لمطالب داخلية وخارجية عند الإنسان.. فهو يستهدف بالفـن إشباع حاجاته الضرورية وذلك على المستوى الأدنى من فاعليته الشخصية والمجتمعية، فضلاً عن غايته في إرضاء مطالب المستوى الأعلى من سعيه إلى السيطرة على العالم والاندماج معه بسلام بتوظيف بعض جوانبه لصالحه سواء كانت اجتماعية او سياسية او غيرها، وإخضاعها لمعالجته التي تعدل من صورتها ومعناها.. ولا يكون ذلك الا بالتعبير الفني الامثل لتوظيفها ايجابياً لمصلحته – الفنان – ومصلحة الآخرين من خلال تنظيم تجربته واكتناه بعدها المعرفي، فالفن هو ضرورة سيكولوجية من حيث انه يخرج الرغبات المكبوتة من اللاشعور المتناقض المفكك إلى الشعور المنظم الموحد للتخلص من ضغوطها، ومن ثم زرع القيم الأخلاقية الحميدة في نفوس الناس وحثهم على الالتزام بها والانتفاض وازالة على ما ينافيها ويناقضها.. فإن له دوراً يتمثل في إزالة الصفات المخالفة من عند الآخرين .. وهذا ما اكده الاديب الالماني توماس مان في احدى دراساته حينما اكد ( انه لا يؤمن بالنظرية التي لا ترى في الفنّ إلاّ متعةً يزجي بها الفرد وقت فراغه.. فإذا كانت الإنسانية ترغب رغبةً أكيدةً في الاحتفاظ بحريتها وكرامتها، فإنّ عليها أن لاتقف موقفاً محايداً من المشاكل الاجتماعية والسياسية بل ترفع صوتها عالياً لتغييرها، والفنّان هو أكثر البشر إنسانية ومن واجبه أن يرفع صوته عالياً مدافعًا عن الانسانية عندما تُهدّدها قوى الجهل والفساد )، تلك هي رسالة الفن الجميل.
- اللوحة من ابداع الفنان صالح حبيب 2019.
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة