بسم الله الرحمن الرحيم
الاعتكاف: الحرية الحقيقية
ما زلت أذكر منذ سنوات ليس بالبعيدة, كيف أن بعض الشباب المتدينين نصبوا ستارة في زاوية المسجد وقضوا عدة ليالٍ فيه معتكفين وسط استهجان رواد المسجد الذين هالتهم تلك الإقامة المؤقتة في المسجد, وراحت أسئلتهم تتوالى…
ماذا يفعل هؤلاء في المسجد, وقد وضعوا بعض الفرش والأمتعة في زاوية منه؟ وكان جواب البعض لا يخلو من غموض وإبهام وهو: “إنهم يعتكفون” ما معنى ذلك ؟
لقد سمع هؤلاء الناس مصطلح الاعتكاف من نشرات الأخبار حينما تحدثت عن اعتكاف بعض الرؤساء وعدم ممارسته مهامهم السياسية, لكنهم لم يسمعوا عن اعتكاف في المسجد من قِبَل مؤمنين أطهار يبغون رضوان الله في الآخرة, لا مآرب السياسة في الدنيا.
إن الناظر في عيون أولئك المؤمنين الآمين المسجد المستهجنين مصطلح “الاعتكاف” قد تدمع عينه لا سيما إذا تذكّر قولاً سبق: “وُلِدَ الدين غريباً وسيعود غريباً, فطوبى للغرباء”.
وكأني بالناظر إلى تلك العيون المندهشة يُفكر في نفسه: ألم يقرأ هؤلاء الناس قوله تعالى: “… وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهّرا بيتي للطائفين والعاكفين والرُكع السجود” , ألم يحدّثهم أحد أن النبي الأكرم(ص) كان في العشر الأواخر من شهر رمضان يعتكف في المسجد, وكان لإصراره على الاعتكاف إذا سافر في هذه الأيام العشر يعتكف في العام المقبل عشرين يوماً .
ألم يطلع المتعجبون على الرسائل العملية ولو على العناوين ليلاحظوا أن صفحات منها خصّها الفقهاء بعد كتاب الصوم بعنوان “الاعتكاف”, وتحدثوا فيها عن الإقامة في المسجد بحيث لا يخرج الإنسان منه من دون ضرورة أو مبرر شرعي مدة ثلاثة أيام على الأقل, يصوم فيها بقصد التعبدية .
على كل حل جزى الله أولئك المعتكفين الذين أثاروا السؤال خير جزاء المحسنين. وتبقى جملة من الأسئلة تدور حول سر العبادة وفلسفتها, فلماذا شرّع الله تعالى عبادة يحبس الإنسان فيها نفسه في المسجد أياماً لا تقل عن ثلاثة أيام ؟, ولماذا عليه أن يصوم في تلك الأيام مبتعداً عن مفسدات الصوم ومبطلاته, بل عن محللات على الصائم في غيره كالتلذذ بشم الطيب والبيع والشراء وبعض الجدال ؟
بالطبع لن يكون الجواب على العلة التي بسببها شرّع الله هذه العبادة وأحكامها, فهذا سر إلهي قد لا نعلمه ما لم يطلعنا الله عليه, لكن نحاول الاقتراب من الآثار التي تنتج عن ممارسة تلك العبادة لعلها ترسم صورة الحكمة منها. وتتضح آثار الاعتكاف حينما نضعه في إطار المعركة التي صوّرها الإمام الخميني(قده) في كتابه القيِّم “الأربعون حديثاً” بين معسكرين, حينما صوّر النفس الإنسانية وسط حرب قائمة بين معسكر الرحمن ومعسكر الشيطان, وكل معسكر يحارب وينازع الآخر من أجل الغلبة, والإنسان هو ساحة حرب المعسكرين… يقول(قده):” فإذا تغلبت جنود الرحمن كان الإنسان من أهل السعادة والرحمة وانخرط في سلك الملائكة, وحُشر في زمرة الأنبياء والأولياء الصالحين, وأما إذا تغلب جند الشيطان ومعسكر الجهل كان الإنسان من أهل الشقاء والغضب, وحُشر في زمرة الشياطين والكفّار والمحرومين”
وبما أن الشهوات والغرائز تحاول بثقلها إخضاع النفس الإنسانية لمعسكر الشيطان, لم تكتف الشريعة الإلهية بتوجيه الإنسان نحو التأمل والتفكير ثم العزم وأخذ القرار, بل أرادت أن تدخله في دورات تدريبية تعرّفه خلال قدرته على التحكم بشهواته بدل أن يكون محكوماً لها.
ألا ترى أن الإنسان يميل بغرائزه إلى أن يظهر زينته من خلال الثياب الفاخرة والعطر اللافت والخواتم المرصّعة…, والشريعة لم تمنع ذلك, بل شجّعت المؤمن على التزيّن بحده المعقول, وجعلت الطيب تحفته والتختّم مظهر تديّنه, لكنها أرادت أن يبقى الإنسان مسيطراً على ذلك, مالكاً لا مملوكاً له.
وبالتطبيق لم تكتف الشريعة بالتنظير لذلك, بل أجرت دورة عملية يُعرّف فيها الإنسان إلى قدرته في التحكم على غرائزه ألا وهي دورة الحج العبادية التي فيها أمر الله الإنسان بخلع ثياب الدنيا وزينتها وعطرها ليلبس ثوبين لا يمتاز بهما عن الآخرين, ليعرف الإنسان أن قيمته الحقيقية ليست بالثياب والزينة, بل بما يحمل كم إنسانية تتمثل بالإرادة الغالبة للشهوات.
وكذلك ترى الإنسان تميل به شهواته نحو الطعام اللذيذ والشراب الممتع والدخان الجاذب, وهنا أيضاً لم تمنع الشريعة أن يتمتع الإنسان بما حلّل الله تعالى, لكنها أرادت أن لا يسيطر عليه سلطان البطن. ولم تكتف أيضاً بالتنظير, فكانت دورة الصيام التدريبية التي يتعرّف الإنسان فيها إلى قدرة التحكم بالشهوات, ليكون الحاكم لها لا المحكوم.
ويحب الإنسان حرية المسير إلى حيث يريد وحرية الحركة حيث يبغي, لينظر إلى ما يلفت عينه ويسمع ما يلتذ به سمعه ويتحدث بما يروق لسانه.
لكن إطلاق العنان لكل هذا قد يجعله أسيراً مقيداً بأغلال الصور الداخلية إلى نفسه, حتى إذا وقف في الصلاة بدأت الصور تتلاحق في ذهنه, وبدأ طائر خياله يحلِّق من غصن إلى غصن ليقلق على لسانه سورة الفاتحة, بينما تحضر في ذهنه صورة مشهد من فيلم شاهده… ويركع غافلاً يسمع صوت موسيقى سمعها بدل نغمة التسبيح لله.. ويسجد وقد ألهاه عن سرّ السجود وذكره حادثة سمعها فأثرت في نفسه. تعساً لحال هذا المصلّي الذي قيّدته حريته المزعومة, فمنعته أغلالها من السير إلى الله تعالى.
انتبه أيها المصلّي, تأمل في معاني كلماتك وأفعالك, اسع لمعرفة تأويل صلاتك.
لم تكتف الشريعة بهذه النداءات, بل أتت بحل عملي ألا وهو الاعتكاف, إنها دورة قد تكون أقصر مدة من الحج والصيام, وإن تضمنت صياماً وبعض ما حُرِّمَ في الحج, إلا أنها تحمل في طياتها انعزالاً عن الدنيا, لكن لا في صومعة فردية, بل في قلب المجتمع الكبير. هي أيام يبتعد فيها الإنسان عن شهوات الفرج والبطن, وعن التلذذ بالطيب وعن التجارة مع الناس بالبيع والشراء, وعن مجادلتهم المقيتة, ويحبس نفسه في مكان محدود لا يخرج منه من دون مبرر شرعي, إنها خلوة مع النفس يعيد فيها الإنسان حسابه ليفكر بهدوء وهو ساكن بدل أن تراوده الأفكار وهو يركض في معترك الدنيا.
إنها خلوة مع الحبيب الأول, يسمع فيها كلامه بترديد آياته ويناجيه بدعائه ويتبتل إليه ويرغب بلقائه فترة ليست بالطويلة, لكن سيجد حلاوتها في نفسه, وحينما يصلّي فما تراه عينه بيت الله, وما تسمعه أذنه كلام الله أو دعاء المفتقر إليه, فطائر الخيال تبدَّلت شجرته, فلم تعد شاشة التلفاز غصناً لها, وصوت الموسيقى حفيف أوراقها.
إن الاعتكاف قد يمكّن صاحبه من حبس هذا الطائر المطيِّر للب في قفص شرعي يتحكم بحركته ويوجه بوصلته. وحتى لا يُفهم الاعتكاف بحركة الاعتزال عن المجتمع, أكدت الشريعة كما صرّح الفقهاء كونه في مسجد جامع لا في مسجد يختص بقبيلة أو بسوق أو ما شاكل, بل المسجد الذي يجمع المؤمنين تحت قبة بيت الله دون تخصيص وتقييد, لتكون عزلة الاعتكاف في وسط المجتمع الإيماني لا في صومعة الفرد.
إنها رسالة الاعتكاف لمن أحبَّ الحرية الحقيقية.
المصدر:موقع سراج القائم (عج)