إن الانسان عندما يولد ، تولد معه فرصتان متساويتان ككفتي الميزان اللتين لا رجحان لأحداهما على الأخرى ؛ فرصة الخير ، وفرصة الشر . . فرصة الدخول الى الجنة ، وفرصة الدخول في النار . ثم يدخل الانسان بعد ذلك في سلسلة لا تنتهي من الامتحانات ، وهذه الامتحانات تتعمق وتصبح أكثر صعوبة عند البلوغ ، وفي بعض الأحيان تغدو امتحانات عسيرة شديدة .
وكلما إزدادت هذه الاختبارات شدة وصعوبة ، إزداد نقاء جوهر الانسان . والدليل على ذلك إن أصل كلمة (فتنة) مقتبس من وضع الذهب في النار ، لأن هذا المعدن يختلط بسائر المعادن . فلكي يصفى وتذهب عنه تلك الشوائب ، فانه يحتاج الى (الفتنة) ؛ أي الى أن يعرض للنار ليذوب فيها وتزول الزوائد منه . وقد استخدم القرآن الكريم هذا المصطلح في مواضع عديدة ، منها سورة (البروج) حيث يقول عز من قائل :﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ﴾ 1.
فما هو ـ يا ترى ـ معنى الفتنة للمؤمنين في هذه الآية الكريمة ؟
إنها تعني ؛ أن في داخل المؤمن خليطاً من رواسب الشرك والذنوب والخطايا . . فالكثير من الناس كانوا يعانون في مقتبل أعمارهم من إنحرافات ، كالكذب والغيبة ، والنظر أو الاستماع الى ما حرمه الله تعالى ، وما الى ذلك من ذنوب . وهذه الذنوب تظل في أعناقنا بالتأكيد ، لأنها مسجلة في اللوح المحفوظ ، وقد أحصتها الملائكة علينا . كما أنه كل شيء يشهد على الانسان ، كالأرض التي ارتكب الذنب عليها ، والجوارح التي مارست بها هذا الذنب . أضف الى ذلك ، إن الذنوب تترك آثاراً على قلب الانسان ، فهي ترين عليه ، وتحيط به .
الفتنة تطهر الانسان
والفتنة هي التي تتكفل بإزالة رواسب الذنوب ، والثقافة الجاهلية ، والانحراف ، والتربية الفاسدة من نفس الإنسان وقلبه . وقد تتجسد الفتنة في الجهاد في سبيل الله عز وجل أو العيش في دار الغربة . . والألم الذي يعاني منه الإنسان في هذه الحالة ، يؤدي إلى تطهير القلب ، كما تطهر النار الذهب من الرواسب العالقة به . ولذلك فان الإنسان المؤمن حقاً يحب الفتنة ، ويتقبلها بصدر رحب ، لكي يتخلص من رواسب ذنوبه .
وبالطبع فإننا نعوذ بالله تعالى من جهد البلاء وشدته ، ومن التعرض الى الفتن العظيمة التي لا طاقة للإنسان بها والتي تؤدي الى تهيبه وتراجعه ، وبالتالي سقوطه في الامتحان الإلهي .
وهكذا فان نظرتنا الى الصراع بيننا وبين أعداء الدين قائمة على أساس الإيمان بالفتنة والاختبار الإلهي ، وبالتالي فان علينا أن لا نعترض على الإرادة الالهية ، ولا نتذمر منها قائلين : لماذا كل هذه المآسي والمصائب التي تنزل علينا ، ولماذا لا نعيش مرتاحين كما يعيش الآخرون ، ولماذا لا نخرج من صراع إلاّ لندخل في صراع آخر ؟
فطبيعة الحياة الدنيا تقتضي أن يدخل الإنسان سلسلة من الامتحانات ، ونحن لا نستطيع أن نهرب من تقديرات الله تبارك وتعالى . فقد جاء في الحديث الشريف عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام : “ولو أنَّ مؤمناً على قلّة جبل لبعث الله عز وجل إليه شيطاناً يؤذيه” 2 .
الفتنة جزء من الحياة
وإذا ما أراد الانسان أن يتخلص من الفتن ، فعليه أن يخرج من هذه الدنيا . وإذا خرج منها ، فإن كل شيء سينتهي . فما دامت الحياة قائمة ، فان الفتنة قائمة هي الأخرى الى اللحظة الأخيرة من هذه الحياة . ولذلك فقد جاء في بعض الأدعية : “اللهم اني أعوذ بك من العديلة عند الموت” 3 . ففي لحظات الموت يصاب الإنسان بعطش شديد ، ولذلك فمن المستحب أن يسقى الماء . وفي هذه اللحظات الحرجة والحساسة ، والتي هي لحظات الفتنة والاختبار ، يأتي الشيطان ويخاطب الإنسان قائلا : سأعطيك الماء شريطة أن تكفر بالله . وهناك من الناس من يسقط في هذا الامتحان ، فيكفر بربه في اللحظات الأخيرة ، فيموت وهو كافر .
فلنحذر من هذه اللحظة ، ولنفكر فيها ، ولنحاول أن نتجاوزها بنجاح من خلال تعويد أنفسنا على قراءة القرآن وحفظ آياته والتدبر فيها ، والعيش في أجوائها ، لكي تكون زادنا الذي نتقوى به في تلك اللحظات المصيرية .
وعلى هذا فان صراعنا مع الأعداء هو صراع ثقافي مبدئي ؛ وهذا الصراع من مصلحتنا ، لأنه يزكينا ويطهرنا من دنس الذنوب ورواسب الشرك وحب الدنيا . فمن الضروري أن تكون في حياتنا الصراعات والمشاكل ، لكي لا ننسى الآخرة ، ولا نتجه الى الدنيا .
وهذا الصراع الثقافي الدائر بيننا وبين أعدائنا ينبغي أن نديره بمهارة وذكاء ، بأن نستغله في تربية الروح الدينية ، وتنمية التقوى ، وإيجاد زخم معنوي في النفوس ، وبعث الحالة الحضارية في أنفسنا من جديد . فكلنا مسؤول ، وسنمثل يوم القيامة كلنا أمام رسول الله صلى الله عليه وآله ليكون شاهداً وحجة علينا فيما عملناه من أجل الإسلام ، وما قدمناه له من تضحيات وعطاءات .
عقبى الفتنة
والتعرض الى الفتن والابتلاءات والخروج منها ونحن أقوى عزيمة وأشد بأساً ، وأكثر مضاء وتصميماً على مواصلة الدرب ، والاستمرار في المسيرة . . كل ذلك هو الذي يضمن لنا الارتفاع في درجات الإيمان ، والتطهر من الذنوب والآثام ، وصقل نفوسنا ، وبالتالي المثول أمام رب العالمين جل وعلا بوجوه بيضاء ، ونفوس مطمئنة ، وأرواح متطلعة الى ثواب ربها ورضوانه . وإلا فان سوء العاقبة سوف تكون بانتظارنا ـ لا قدر الله ـ إذا ما سقطنا في الامتحانات الإلهية ، ولم نعرف كيف نستغلها في سبيل الرقي في المدارج العليا للإيمان ، وذلك من خلال التذمر منها ، وعدم الصمود أمامها ، والتهرب من مواجهتها .
حتمية الابتلاء
المصيبة العظمى والداء الوبيل أن يخلد الإنسان ويميل بكل كيانه الى الدعة ، ويغرق في بحار اللذائذ والترف ؛ فيعتقد أن سر وجوده في هذه الحياة وفلسفته ، هما التنعم باشباع الغرائز والشهوات ، مثله في ذلك كمثل البهيمة المربوطة التي لا همّ لها سوى علفها .
وعندما يسود الذهن البشري اعتقاد كهذا ، يقضي بأن الحياة الدنيا هي الأساس والغاية ، وبنهايتها تكون خاتمة المسير والمطاف ؛ فلا حياة ولا نشور . فان هذه هي المصيبة الكبرى ، ذلك لأن هذا الاعتقاد يمثل الضلال المبين الذي يميت القلب ، والغشاوة التي تعمي الأبصار ، والسبب الحقيقي لمسيرة الانحراف الخطيرة في حياة الانسان ؛ ذلك لأن الدنيا لم تخلق ليركن إليها ، بل إنها قامت على كدر ومشاكل ومعاناة ، وجرت دواليبها بدفع من الجد والجهد والاجتهاد ، لذلك يقول تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ﴾ 4.
وبالطبع فاننا لا نريد أن نلغي التمتع بالنعم في الدنيا ، بل نعني أن هذه النعم إن وجدت فانها طارئة منقضية ، وأن إحساس الانسان بالراحة والاستقرار هو حالة إستثنائية .
سر ظاهرة الموت
وفي البدء لنتأمل ونمعن النظر في سر ظاهرة الموت التي هي ليست في الحقيقة غريبة وعجيبة ، لأننا نعيشها ونلحظها في كل آن ، ولكن الغرابة والعجب يكمنان في سر هذه الرحلة . فقد يسأل الإنسان نفسه في هذا المجال قائلا : ترى ما قيمة هذه الحياة التي نحياها اذا كانت تختتم بالموت ؟ فها نحن نبني ونعمل وننتج ونعمر الأرض . . وإذا بكل شيء ينتهي في تلك اللحظة المخطوطة ، والأجل المكتوب ، لينتهي معه النـزاع والتكالب على هذه الدنيا وحطامها رغما عنا .
وبناء على ذلك فما قيمة هذه الحياة ، وما قدر هذه الدنيا ، وما أعظم تلك العبر والدروس والمواعظ التي علمونا إياها أئمة الهدى عليهم السلام ، وأرادوا لنا بها خير الدنيا وثواب الآخرة ؟ فها هو ذا إمامنا موسى الكاظم عليه السلام ينطق بالموعظة البليغة ، عندما ينظر الى ميت قد إنشغل أهله وأصحابه باهالة التراب على جسده فيقول : ” إنَّ شيئاًً هذا آخره لحقيق أن يزهد في أوله ، وإنَّ شيئاً هذا أوله لحقيق أن يخاف آخره” 5 . فهذا هو حال الدنيا ، فالانسان يسعى فيها ويجهد ويبني ويشيد ثم يأتي هادم اللذات فينغص عليه لذائذه ، ويهدم بفأسه آماله وأمانيه .
صحيح إن هذه الدنيا لا تخلو من راحة أو تمتع بنعمة أو نشوة ، ولكن يجب أن لا يغيب عن بالنا إن تلك النعم واللذائذ إن خلت من التنغيص فان زوالها السريع هو التنغيص بذاته . ثم إننا كثيراً ما نرى أن ساعات التمتع بالنعم والملذات تتخللها ـ وربما تفسدها ـ تلك المنغصات الطارئة أو الكامنة في النفس . فحتى في تلك الساعات التي نفرغ فيها من أداء المهمات والواحبات ، ونكون فيها أحراراً من كل مسؤولية ؛ في هذه الساعات تنطلق كوامن النفس من هواجس ووساوس وأفكار شتى ، وربما تكون وساوس شيطانية تملأ القلب ، وتنغص عليه ساعات الراحة تلك .
وهكذا الحال بالنسبة الى النعم واللذائذ ، فان أقل منغص لها علمك بزوالها أو زوالك عنها بعد فترة قصيرة ، ثم هناك القلق والخوف والتفكير في كيفية الحفاظ على هذه النعمة وحراستها .
لا حياة بدون مشاكل
وعلى هذا الأساس فان الحياة الدنيا لا تخلو من المشاكل والمعاناة والمنغصات الكثيرة ، وبالتالي فان الإنسان يخرج بنتيجة ملموسة وواقعية ، وهي إن الهدف الرئيسي للإنسان لا يمكن أن يتحدد في إطار هذه الدنيا ؛ فهي ليست خاتمة المطاف ، وإن أولئك الذين يغالطون واقعهم ويزعمون أن الدنيا هي الهدف والغاية هم الأكثر بلاء . . والأشد عناء ومعاناة .
ولذلك فان الإنسان عندما يعيش الأمل بالراحة وصفاء البال وتوفر النعمة . . ثم إذا به يواجه وابلاً من المشاكل والعثرات ، فان من الطبيعي أن يحس بعنف الصدمة النفسية ، والغصة في أوج حالة التنعم والارتياح . أما إذا كان قد أعد العدة للمشاكل والصدمات النفسية والعثرات التي تعترض سبيل الراحة والاطمئنان والتنعم ، فحينئذ سيكون الأمر بالنسبة إليه عادياً ، وسيكون قادراً على إستيعاب تلك المشاكل والمعضلات ؛ لا كأولئك الذين يحسبون أن الدنيا دار أنس وراحة وتمتع واستقرار ، والذين ينهارون من الناحية النفسية والمعنوية لمجرد أبسط مشكلة تواجههم . ذلك لأنهم عاشوا الدنيا وهم يتصورون أنها الغاية والهدف المنشود ، فتراهم لا يعيرون أذنا صاغية الى ناصح ، متغافلين عن هتافات وتحذيرات الأنبياء والأوصياء .
فلنأخذ بعين الاعتبار دائماً البلايا والمصاعب ومواجهة العثرات ؛ فان جائتنا النعم والخيرات فرحنا بها ، وإن واجهتنا الأمور التي لا تبعث على الراحة ، وتسلب الاطمئنان ، فانها سوف لا تكون غريبة علينا ، لأننا كنا قد وضعناها في الحسبان ، وأعدنا العدة لمواجهتها .
وبناء على ذلك ، فلو نظرنا الى الحياة من خلال هذا المنظار ـ المنظار الواقعي ـ فان في ذلك مبعث النجاح والفلاح في هذه الحياة ، وفي كتاب الله العزيز نرى أن في كثير من آياته تأكيداً متواصلاً على حقيقة البلايا والمصائب والصراعات والمعضلات والعثرات والفتن والوساوس الشيطانية والموت ومواعظه البليغة . وعلى سبيل المثال فانه يذكّر بالموت ونزوله بالانسان ، ويحثه على العمل والجد والاجتهاد والسعي والانتشار في أرض الله الواسعة . . وبذلك فانه يؤكد لنا على أن هذه الحياة لم تخلق بهدف الدعة ، وبلوغ الراحة .
ومن خلال هذه النظرة الواقعية الصائبة الى الحياة ، يمكن للانسان السير نحو الكمال المطلق ؛ أي نحو الله سبحانه وتعالى ، ويتحول إلى ذلك الانسـان الذي يقول عنه : “كنت كالجبل لا تحرّكه العواصف ولا تزيله القواصف” 6 . فالمؤمن أقوى وأكثر شموخاً من الجبل ، وأصلب من الحديد ، لا تنال من عزمه وهمته ولا تثبط حركته ونشاطه في الحياة عواصف الدنيا وقواصفها .
المؤمن خفيف المتاع
والمؤمن الذي يعيش هذا الواقع ، نراه لا يخلد كثيراً الى الأرض . فهو خفيف المتاع ؛ فعلى سبيل المثال فانه يضع في حسبانه الهجرة ، والفرار الى الله سبحانه إن اقتضت الظروف ذلك ، فتصبح الهجرة في أرض الله الواسعة بالنسبة إليه مسألة عادية لا يبالي بصعوباتها وتبعاتها . ذلك لأن الهجرة هي حقيقة واقعية في التاريخ . وقد عاشها أولئك الذين سبقوه ، ثم إنه قرأ هذه الحقيقة في القرآن فوجد التأكيد المتواصل عليها مما يهونها عليه ، ولذلك فانه يتوقعها ويدرك أن الطريق الذي سلكه في هذه الحياة هو طريق الرسالة والايمان والجهاد يتطلب مثل تلك الظروف والتضحيات . فالهجرة هي واقع شهده التأريخ في كثير من محطاته منذ أن خلق الله تعالى آدم عليه السلام ، وأنزله الى الدنيا والى قيام اليوم الموعود .
وهذه الحركة هي أحد متطلبات التغيير في الحياة ، والمؤمن الذي يعيش واقع هذه الحركة نراه لا يخلد كثيراً إلى الأرض ، ولا يمد جذور عميقة في واقعه ، ولا يبني القصور ، ولا ينمي الاموال لينفقها في تشييد العقارات .
وكمثال آخر ؛ فان الانسان المؤمن ينظم حياته الاقتصادية تنظيماً حكيماً ، فهو عندما يدّخر شيئاً من المال فان ادّخاره هذا ليس من أجل الادّخار ذاته كما يفعل الكثير من الأغنياء الذين سيخرجون فقراء جياعاً من هذه الدنيا رغم ما يمتلكونه من الثروات ، ورغم ما يدّخرونه . فالانسان المؤمن عندما يدّخر شيئاً فانه يخطط بذلك للمستقبل ، والظروف الصعبة التي قد يمرّ بها ، فيدّخر لحاجته في الغد حتى لا يمد يده الى أحد ، كما إنك تراه في سلوكه المعاشيّ معتدلاً ، لا يسرف ولا يفرط ، ويصب جل تفكيره في بناء حياة اقتصادية متوازنة .
وهكذا فان القرآن الكريم يوجهنا ويعظنا مشيرا الى معضلات هذه الحياة ومعاناتها وآلامها ، والى الفتن والامتحانات التي يتعرض لها الانسان المؤمن . فبصائره تسير في هذا الاتجاه ، وتهيّئه ـ أي المؤمن ـ لكي يكون مستعداً من جميع النواحي لمقارعة الصعاب ، وتحمل المشاق والمصائب .
القرآن بيان للناس
وفي هذا المجال يقول عز من قائل :﴿ هَٰذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ 7. في هذا السياق إشارة أريد تبيانها هنا ، وهي إنها تعطينا فكرة عن أهمية الموضوع الذي سيأتي الحديث عنه ، والذي يمثل حقيقة كبرى وبصيرة نافذة لا غنى لنا عنها ، وأنها تمس حياتنا وواقعنا . فعلى الناس جميعاً أن ينتفعوا من هذا البيان والارشاد الرباني ، وهم قادرون على استيعابه ، وبالتالي فان الكشف عنه سيكون حجة على الناس كلهم .
ومع ذلك فاننا لا نجد من يأخذ بهذه الحقائق الواضحة البينة ، وينتفع بها إلاّ المؤمنون المتقون الذين لا تحجبهم الذنوب ، ولا تغشى أبصارهم الشهوات ، ولا تعمي قلوبهم الأهواء المقيتة عند انكشاف الحقائق .
ثم ينتقل السياق الكريم ليستعرض تلك الحقائق والبصائر ، ويرسم آفاق النجاح ، فيقول جل اسمه :﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا … ﴾ 8. أي لا يحبطنكم التراجع ، والانهزام عند مواجهة ركام المصائب ، وجبال الهموم والمعاناة ، ولا تدعوها تفشل حركتكم ونشاطكم وسعيكم في هذه الحياة ومنعطفاتها . ثم وإياكم والهزيمة النفسية والمعنوية ، فانها أصل كل هزيمة واندحار وفشل ، كما يقول تعالى :﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ 8.
فلماذا ـ إذن ـ الوهن والفشل مادمنا ندعو الى الإيمان والتوكل على الله ؟ وكيف نسمح للانهيار والوهن يسيطران على نفوسنا ، في حين إن المؤمنين هم الشامخون الأقوياء الأعزاء في نفوسهم ؟
ثم يعود السياق المبارك ليدخل في تفاصيل أكثر فيقول : ﴿ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ … ﴾ 9.
هذا هو حال الدنيا ؛ يوم لك ويوم عليك ، والأيام دول بين الناس . فكما أنك تخوض الامتحان ، فان عدوك يخوضه أيضاً . ولننظر الى التأريخ في هذا المجال ؛ فكم من جبار وسلطان ووزير . . كانت لهم سطوتهم ، يرفعون الصولجان على رؤوس الناس ويستعبدونهم ويذلونهم بالسياط والحديد والنار . . . ولكن أين صاروا ، وأين هم الآن ؟
ثم يقول تبارك شأنه :﴿ … وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا … ﴾ 9.
وهنا تكمن حكمة الفتن والبلايا ، وهذه الحكمة تتمثل في معرفة أهل الايمان . فالإبتلاء هو المحك ، فعند خـوض بحر المصاعب ، والسير في الطرق المليئة بالأشواك ، حينئذ يعرف الايمان الحق . وعند إجتياز الامتحان بإرادة أصلب وأقوى من الجبال ، وبصيرة تنفذ في الصخر الاصمّ ، فحينئذ يمكننا أن نصف الإنسان الذي إجتاز هذا الامتحان بأنه مؤمن حقاً .
من حكم الابتلاء
ثم يستمر السياق المبارك في بيان المظاهر الأخرى للحكمة من التعرض للابتلاءات ، فيقول تعالى :﴿ … وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ … ﴾ 9. والمعنى المراد هنا قد يكون (الاستشهاد) ؛ أي إن السياق يريد معنى أن الله سبحانه وتعالى يبتلي الناس ، ويعرضهم للاختبارات ، فتكون المكافأة في أصعبها ، فيأخذ عز وجل الفائزين الى قربه ، ويمنحهم وسام الشهادة الرفيع ، ويكرمهم بتلك الكرامة العظيمة عندما يقتلون في سبيله .
والمعنى الآخر لقوله تعالى : ﴿ … وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ … ﴾ 9أن ينبري من صلب المجتمع ، ويبرز الى مقدمته الممحّصون الذين امتحنتهم الأحداث فكانت لهم محكا ، ويواجهون العواصف العاتية كالجبال الشماء ، ويقفون في وجه التيارات المنحرفة ، ويتصدون لقيادة الأمة في ساحات المواجهة ، والسير بها نحو الأهداف الرسالية المنشودة . . ولعل هذا المعنى هو المراد . فمعنى القيادة والريادة هو المطلوب في الآية السابقة .
ثم يقول عز من قائل :﴿ … وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ 9. وللأسف فان الكثير منا يتصورون أن الله سبحانه وتعالى يحب الظالمين ، ذلك لأنهم يرون بعض الظلمة قد ظلوا يتسلطون رغم المصائب التي أنزلوها في ساحة الملايين من الناس ، غافلين عن سنة إلهية جرت في العباد ، وهي أن الله جل وعلا إنما يبقي على الظالمين ليزدادوا إثماً . فلنحذر من الانحراف في المفاهيم ، وتغيير القيم . فهذا هو أيضاً إبتلاء إلهي لنا ، ثم علينا أن لا ننسى أن لله في إرادته وسننه حكماً لا ندركها إلاّ في وقت تجليها .
محق الكافرين
ثم يضيف السياق مبيناً أسراراً أخرى للبلايا والشدائد التي يتعرض لها المؤمنون وتنزل بالكافرين ، فيقول تعالى :﴿ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ﴾ 10. فالكافرون عندما ينزل عليهم العذاب الشديد على أيدي المؤمنين ، يدمرهم ويستأصلهم . وهذا هو معنى (المحق) ؛ أي زوالهم على أيدي المجاهدين الرساليين الذين يمحّصون ، ويبلون بلاءً حسناً في مثل هذه المواجهات الحاسمة . ذلك لأن المؤمنين لا تخلو قلوبهم من الشوائب ؛ فكما أن الكافرين يصلون الى أعلى درجات كفرهم عند المواجهة ، فان المواجهة هذه تكشف أيضاً عن أولئك المؤمنين الذين صفت قلوبهم ، وخلصت نياتهم لله سبحانه ، لأن الإنسان المؤمن لا يمكن أن يدخل الجنة وقلبه مشوب بتلك الشوائب . وهذه القضية ليست بالسهلة الهينة ، بل هي في غاية الأهمية ، والحديث الشريف يؤكدها ، إذ قال رسول الله صلى الله عليه وآله : “لن يدخل الجنة عبدٌ في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر” 11 .
ترى من منا يمكنه الادعاء بأن قلبه طاهر نظيف من الكبر والحسد والغل والرياء ؟ لا يمكن لأحد أن يدعي هذا الادعاء ، ولذلك فان الخالق تبارك وتعالى جعلنا عرضة للبلايا والمصائب ليمحّصنا ويمتحننا ويكشف عن صدق ادعاءاتنا ، ليعرف مدى صبرنا وصمودنا ومقاومتنا ، ثم يمهد لنا سبيلاً الى الجنة عند النجاح في هذه الابتلاءات والشدائد . ثم علينا أن لا ننسى أن هذه البلايا والمصائب والشدائد مهما بلغت ، فانها ضئيلة إزاء عذاب الآخرة ، وأهوال يوم القيامة .
ثمن الجنة
ثم ينتقل السياق الكريم ليؤكد على ثمن الجنة ، وطريق الولوج الى عوالمها الرحبة :﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾ 12.
فلنفكر في هذا الأمر ، لأنه مرتبط بمصيرنا مادامت الدنيا في طريقها الى الفناء ، ولن يكون بعدها سوى جنة تقابلها نار . فالمصائب والشدائد منتهية وزائلة لا محالة ، ولكن الذي يبقى هو شعلة الإيمان تضيء وهاجة ، وراية العمل الصالح ترفرف خفاقة ، وهما يدلان على طريق الجنة والنعيم الأكبر .
فالجنة مثلها كمثل قصر نظيف مزخرف واسع ، مزينة جدرانه وقوائمه ، مزخرفة سقوفه وأروقته ، فيه من الأطعمة والأشربة ما تلذ به الأنفس . . وإذا بآتٍ يأتيه وعليه الكدارة والأوساخ والملابس القذرة يريد الدخول فيه ، فهل ـ يا ترى ـ سيجد الطريق إليه مفتوحاً ؟
كلاّ ـ بالطبع ـ فلابد من أن يمنعه الحرس الواقفون على بابه قائلين له : إذهب وتنظّف وتطهّر وغيّر مظهرك القذر هذا ، وارتد الثياب النظيفة الجميلة .
وهكذا الحال بالنسبة الى الجنة ، فانها ترفض استقبال الإنسان الملوث بألوان الذنوب ، وأنواع الخطايا والسيئات . فالجنة لا يمكن دخولها بهذه السهولة والسرعة ، بل هي بحاجة من أجل دخولها الى بذل الجهد والجهاد ومحاربة هوى النفس ، واجتناب الخطايا والآثام ، ومقاومة الشهوات ، وعدم الاستسلام للوساوس الشيطانية . . والعمل على تزكية النفس وتطهيرها ، كما أن دخولها متوقف على الصبر والصمود وبذل التضحيات الجسام ] 13.
- 1. القران الكريم: سورة البروج (85)، الآية: 10، الصفحة: 590.
- 2. بحار الأنوار، ج65، ص218.
- 3. مفاتيح الجنان، دعاء العديلة، ص 85.
- 4. القران الكريم: سورة الإنشقاق (84)، الآية: 6، الصفحة: 589.
- 5. بحار الأنوار، ج70، ص103.
- 6. مفاتيح الجنان ، زيارة الإمام علي عليه السلام يوم المبعث ، ص 380 .
- 7. القران الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 138، الصفحة: 67.
- 8. a. b. القران الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 139، الصفحة: 67.
- 9. a. b. c. d. e. القران الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 140، الصفحة: 67.
- 10. القران الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 141، الصفحة: 68.
- 11. بحار الأنوار ، ج2 ، ص141.
- 12. القران الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 142، الصفحة: 68.
- 13. الإبتلاء مدرسة الإستقامة ، آية الله السيد محمد تقي المدرسي ، الفصل الأول (و الكتاب منشور في الموقع الرسمي لسماحته) .