مقالات

الإيمان والقرآن والعلم…

في القرآن دعوة حثيثة إلى العلم يجدها القارىء المتدبّر في آياته . .
دعوة حثيثة إلى العلم بجميع فروعه ، وبجميع اختصاصاته ، و بشتّى اتجاهاته . وهو يفتنّ في أساليب هذه الدعوة ، ويفتنّ في الحث عليها ، ويكثر من تكرارها ، وتكرار الحث عليها حتى لا تكاد تخلو صفحة من صفحاته عن ذكرها مرة واحدة على أقل تقادير .

وهو ـ في أكثر المواضيع ـ يعقد ما بين خطوات العلم وعقائد الإسلام الكبرى ، ويتخذ من أقوال العلم الكوني ـ في شتى ميادينه ـ على ثبوت هذه الحقائق أدلة قوية لا تقبل التشكيك .
فما معنى ذلك ؟ ، وما مدلوله ؟
أليس معنى ذلك أن الإسلام والقرآن يوقنان بأن العلم مؤمن لا ريب في إيمانه ، و داعية إلى الإيمان لا ريب في دعوته ؟: العلم الكوني بجميع شُعبه وجميع فروعه ، لا فرق بين فرع وفرع ، ولا بين اتجاه واتجاه.
بلى ، هذا هو مدلوله الصريح لا خفاء فيه ولا لبس .

هل العلم ملحد ؟

وشاعت في الغرب ، وبين مقلّدة الغرب من الشرقيين قولة أخرى تخالف ذلك .
ومن الحقّ أن نقف عند هذه الشائعة ، لنعرف مبلغها من الصواب .
. . قولة ترمي إلى أن العلم ملحد ، ولا ريب في إلحاده ، وقد فشت هذه الشائعة ـ على ما يبدو ـ منذ القرن التاسع عشر ، وعند ظهور الفلسفة الوضعية التي أنكرت أن يكون للمعرفة الحقيقية سبب صحيح غير الحس وغير التجربة ، وأنكرت ـ تبعاً لذلك ـ وجود أي شيء غير المادة ، فكل ما وراء المادة في رأي هذه الفلسفة وهم وخداع .
وكان العلم الكوني قد اختطّ لنفسه نظير هذه الخطّة . . خطّة ان لا يؤمن ـ في مجالاته الكونية ـ الاّ بما يُثبته الحسّ ، وتشهد به التجربة .
اختطّ لنفسه هذه الخطّة لا لينكر وجود ما وراء الحس وما وراء المادة ـ كما صَنعت الفلسفة الوضعية ـ ، بل لأن الأمانة العلمية تفرض عليه أن لا يؤمن بنتيجة ولا نظرية حتى تتخذ لديه صبغة اليقين ، والسبيل الوحيد الذي لا ريب فيه ولا ترددّ بعده ـ في المجالات المادّية: في مجالات العلم الأصيلة ـ إنما هو الحسّ ، وإنما هي التجربة .
وسار العلم على خطته هذه ، سديد الخطى مأمون العثار .
ولم يبحث العلم فيما وراء المادة في يوم من الأيام ، لأنه ليس من مجالاته ، ولم يبحث فيه لأنه لا ينال بوسائله ، ولا يدرك بمراصده ولا بمختبراته ، والذي جحد ما وراء المادة هي الفلسفة الوضعية ، والذين أصرّوا على هذا الجحود وغلَوا فيه هم الفلاسفة الوضعيون ، وبانتشار المذهب الوضعي انتشرت القولة الآنف ذكرها .
ومكّن لهذا القول ، ومهّد لانتشاره حقد انطوى عليه الضمير الغربي على الكنيسة ، وعلى أعمال رجالها ، ونقد تألّب عليه رجال العلم ، ورجال الفلسفة لمعارف الكنيسة وتعاليمها ، فكانت نزعة الإلحاد ، وكان شيوعها وانتشارها .
وعلى أي حال فلم يُلحد العلم في يوم من الأيام ، ولكن الفلسفة الوضعية هي الملحدة .
. . لم يبحث العلم فيما وراء المادة ـ كما قلت فيما تقدم ـ لأن ما وراء المادة ليس من مجالاته ، ولم يبحث فيه لأنه لا ينال بوسائله ، ولا يُدرك بمراصده ولا بمختبراته ، ولكنّ العلم لم يُلحد كذلك في يوم من الأيام ، ولن يأتي اليوم الذي يلحد فيه أبداً .
ذلك أن العلم يملك ـ وراء أدواته ووسائله ـ فطرة سليمة ، ويملك عقلاً جباراً . .
وفطرته السليمة هي التي أوجبت عليه أن لا يؤمن حتى يستيقن . . وبفطرته السليمة أدرك أن التجربة الحسّية في شؤون المادة ـ وهي وحدها ـ سبيل اليقين . ولولا فطرته السليمة لم يهتد الى إثبات ذلك ، لأن الحسّ والتجربة لا يثبتان ذاتهما .
وبالعقل الجبار الذي يملكه علم أنّ كل حادث لابدّ لوجوده من سبب ، فلا شيء يَحدُث من لا شيء . . وبهاتين الوسيلتين ـ طريق التجربة وقانون السببية ـ أحرز ما أحرز من فوز وأصاب ما أصاب من فتوح .
وبفطرته السليمة وعقله الجبار أدرك أن وراء كل موجود من أشياء هذا الكون موجداً ، وأن وراء كل حركة فيه محرّكاً ، وأن وراء كل حكمة من الحِكَم التي تشهد بها أنظمته مدبّراً .
وبفطرته وعقله أدرك أن لهذه الفطرة ، ولهذا العقل ، وهذا الذكاء ، والنزعة القوية للإستكمال ، وقوة الجلد ودقة الملاحظة ، وخلّة المصابرة والمثابرة . . أن لهذا الرصيد النفسي الذي يملكه ، ويعتزّ به ، ويفتح به الكنوز ، ويذلّل به الصعاب ، ويكشف به النقاب . . أدرك أن لهذا الرصيد النفسي واهباً منعماً ، يجب شكر نعمته .
وانه حيثما اتجّه من أنحاء هذا الملكوت ، وأينما نظر من هذه الآفاق ، وأياً اكتشف أو استنتج أو علّل من أسرار الوجود وظواهره ، فهو إنما يتلو آيات الموجد العظيم ، ويتفَهّم شواهد حكمته ، ودلائل رحمته .
أدرك العلم كل أولئك فآمن ولم يرتب ، و دعا إلى الإيمان ولم يتردد .
نعم ، دعا إلى الإيمان كل ذي بصر وبصيرة .
أما أن يعمد أحد فيفتح بصره ليرى آيات الملكوت ، ثم يقفل بصيرته فلا يعتبر بهذه الآيات ، ولا يستمع لنطقها ولا يتدّبر دلالتها . .
اما أن يرى الأثر ثم يقول: ليس لهذا الأثر عين . .
أما هذا فلا حيلة للعلم ، ولا للعقل معه ، وليس من المستحيل ، بل ولا من الغريب أن يكون بعض الناس عالم الحسّ جاهل البصيرة .
ولكن موضع الغرابة أن يُلحد مثل هذا ، فيقال: قد ألحد العلم !! .

أزلية المادة

وفكرة الإلحاد إنما يقوم بها فرض واحد :
فرض أن تكون المادّة وقوانينها أزلية لا أوّل لوجودها ، وأنها ـ من أجل أزليتها ـ مستغنية عن سبب موجد ، ولنغضِ ـ ها هنا ـ عما يقوله العقل في هذا السبيل .
هذا الفرض وجده هو الذي يقوم عليه بناء الإلحاد ، وقد تعلّق به الملحدون ، وتفنّنوا في تصويره . . فماذا قال لهم العلم في ذلك ؟
أثبت لهم أن قوانين (الديناميكا الحرارية تدلّ على أن مكوّنات هذا الكون تفقد حرارتها تدريجياً ، وأنها سائرة حتماً الى يومٍ تصير فيه جميع الأجسام تحت درجة من الحرارة بالغة الانخفاض هي الصفر المطلق ، ويومئذ تنعدم الطاقة وتستحيل الحياة ، ولا مناص من حدوث هذه الحالة من انعدام الطاقات عندما تصل إلى درجة حرارة الأجسام إلى الصفر المطلق بمضيّ الوقت . .) 1 .
و إذن ، فالمادة ليست أزلية يقيناً ، لأنها لو كانت أزلية لكانت الحرارة قد انخفضت والطاقات قد انعدمت والحياة قد استحالت منذ أمد بعيد بمقتضى هذه القوانين .
ثم ماذا ؟
. . ثم اضطروا لإتمام هذا الفرض حتى يقوم بناء هذا الكون ، وحتى يستقيم هيكل هذه الحياة . .
. . اضطروا إلى القول بالمصادفة ، والى القول بالمصادفة أكثر من مرة . . فماذا قال لهم العلم ؟
أثبت لهم ـ بلغة الأرقام ـ أن بناء جزيء بروتيني واحد بطريق المصادفة ـ هذا الذي يشيرون إليه ـ من المحال .
فماذا وراء ذلك كله ؟
هذا العالم ليس أزلياً ، لأن قوانين الديناميكا الحرارية تدلّ على حدوثه . . و لا مساغ للمصادفة في حدوثه ، ولا في بنائه ، فلغة الأرقام تشهد بأنه من المحال ، ولا شيء يحدث من لا شيء . فمنطق الفطرة ، ومنطق العقل ، ومنطق العلم يثبت ذلك . وما من شيء في هذا الكون الا وهو يشهد بحكمة ، ويشهد بعلم ، ويشهد بإحاطة قدرة وشمول رحمة . . وبكل هذا يعترف العلماء المستنير والبصائر .

المناخ نبع من آيات التكوين

والمناخ ملتقى لنتائج عديدة من مقررات علوم شتى . . نظر كل منها نظراته ، وقرر نتيجته . .
والتقت النتائج وتفاعلت على صعيد الأرض وفي طبقاتها ، وفي الجو الذي يحيط بها ، وفي الماء الذي يختزن في أعماقها أو يجري على وجهها ، أو ينزل من السماء عليها ، فكان المناخ وكانت لوازمه وآثاره .
وكان التقاء هذه النتائج وتفاعلها نبعاً جديداً من آيات الكون الدالّة على الموجد القادر الحكيم ، يتلوها العلم فيما يتلو من آيات ، ويتفهّمها فيما يتفّهم من شواهد .
وقد ذكر القرآن أن هذا النوع من الآيات الكونية وحث على التدبّر فيه ، والاعتبار به ، واستجلاء مواضع الحكمة منه ، وتبين آثاره القدرة في صنعه .
﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ 2 3 .

  • 1. يراجع كتاب ( الله يتجلى في عصر العلم ) ص .
  • 2. القران الكريم: سورة فصلت (41)، الآية: 53، الصفحة: 482.
  • 3. المنبع : كتاب من أشعة القرآن القسم الثالث : العنوان رقم (16) للشيخ محمد أمين زين الدين و هو مقدمة لكتاب ( القرآن و الأحوال المناخية ) للأستاذ محسن عبد الصاحب المظفر .
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى