نص الشبهة:
هل تؤمن أيها الشيعي بالقضاء والقدر؟! إن قلت: نعم، سأقول لك: لماذا تضرب نفسك وتجلد ظهرك وتصرخ وتبكي على الحسين؟! وإن قلت: إنك لا تؤمن بالقضاء والقدر . . انتهى الأمر باعتراضك على قضاء الله وعدم رضاك بحكمته.
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين . .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . .
وبعد . .
فإننا نقول في الجواب :
أولاً : هل تؤمن أيّها السّائل بالقضاء والقدر ؟!
إن قلت : نعم ، فسأقول لك : لماذا تبكي على أبيك ، وعلى أمّك ، وعلى ولدك ، وعلى أخيك ، وعلى صديقك ، وعلى زوجتك ، إن مات أيّ واحدٍ منهم ، ولماذا تنزعج إذا أصيب أو أُصِبتَ أنت بمرض عضال ، كالسرطان ، أو إذا قطعت يده أو يدك ، أو عميت عيناه أو عيناك .
وإن قلت : إنك لا تؤمن بالقضاء والقدر انتهى الأمر ، باعتراضك على قضاء الله ، وعدم رضاك بحكمته . .
ثانياً : هل معنى الإعتقاد بالقضاء والقدر : أنّ ما جرى على الإمام الحسين « عليه السلام » هو مقتضى الحكمة الإلهية ؟! وهل كان ذلك محبوباً لله تعالى ؟! ويجب علينا وعليك أن نستحسنه وأن نرضى به ؟! ولا نعترض عليه ؟!
وهل معنى ذلك : أن لا يعاقب قاتل الحسين بن علي « عليه السلام » ، بل يثاب ويدخل الجنة ، لأنه فعل المحبوب لله تعالى ، ونفذ ما اقتضته حكمته ؟!
فإن كان الأمر كذلك ، فلماذا إذن تعترض أنت على من قتل لك عزيزاً ؟! بل لماذا تدافع عن نفسك ، إذا قصدك قاصدٌ بسوء ؟! ألا يكون هو الآخر يفعل ما يحبه الله ؟! وما تقتضيه حكمته تعالى ؟! وما يدخل به الجنة ؟!
ثالثاً : لماذا أنت مستاء إذن من الرافضة ؟! ولماذا تبغضهم إن كنت تؤمن بالقضاء والقدر ؟!
وإن كنت لا تؤمن به ، انتهى الأمر باعتراضك على قضاء الله ، وعدم رضاك بحكمته . .
ولماذا تعترض أيضاً على كفر الكافر ، وإجرام المجرم ، وعصيان العاصي لله ؟!
ولماذا أيضاً تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ؟! وما فائدة ذلك ؟!
ولماذا تعاقب القاتل ، وتقطع يد السارق ، وتجلد وترجم الزاني ، و . . و . . و . . الخ . . ؟! .
رابعاً : رويتم : أن رسول الله « صلى الله عليه وآله » قد قال عن شهداء أحد : « أنا شهيد على هؤلاء (أو : أشهد على هؤلاء) .
فقال أبو بكر : ألسنا إخوانهم ، أسلمنا كما أسلموا ، وجاهدنا كما جاهدوا ؟!
قال : بلى ، ولكن هؤلاء لم يأكلوا من أجورهم شيئاً ، ولا أدري ما تحدثون بعدي .
فبكى أبو بكر ، وقال : إنا لكائنون بعدك » 1 .
ونقول :
لماذا بكى أبو بكر ؟! فإن كان يؤمن بالقضاء والقدر فقد اعترض على الله ، وإن كان يؤمن بالقضاء والقدر فلماذا يبكي ؟!
ولماذا حزن عندما كان في الغار مع ما رأى من الآيات والمعجزات التي دلت على أن الله حافظ لنبيه ، وناصره ، ومظهر لدينه ؟!
هل كان يؤمن بالقضاء والقدر عندما حزن ؟! ولماذا حزن ؟! وإن كان لا يؤمن بالقضاء والقدر ، فقد اعترض على الله ؟!
رابعاً : معنى القضاء والقدر :
القضاء : هو الأمر الخارج عن الإختيار الذي يجري على الإنسان من خارج ذاته . . مما لا حيلة له فيه وهو الحكم . . وهو خير للمؤمن ، سواء سرّه أو ساءه ، إن ابتلاه كان كفارة لذنبه ، وإن أعطاه وأكرمه كان قد حباه 2 . كما ورد في الرواية .
وفي قضاء الله كل خيرٍ للمؤمن 3 .
وروي عن علي « عليه السلام » : إن القضاء على عشرة أوجه : فمنه قضاء فراغ ، وقضاء عهدٍ ، ومنه قضاء إعلامٍ ، ومنه قضاء فعلٍ ، ومنه قضاء إيجاب ، ومنه قضاء كتاب ، ومنه قضاء إتمام ، ومنه قضاء حكم وفصل ، ومنه قضاء خلق ، ومنه قضاء نزول الموت . .
ثم ذكر الآيات لكل واحدة من هذه الأوجه 4 .
وروي : أن أمير المؤمنين « عليه السلام » عدل من عند حائطٍ مائل إلى مكانٍ آخر ، فقيل له : يا أمير المؤمنين ، تفر من قضاء الله ؟!
فقال : أفر من قضاء الله إلى قدر الله 5 .
وسقوط الحائط على المستظل به لم يكن لأجل فعلٍ صدر من ذلك الجالس عنده . .
وخلاصة الأمر : إنه لا بد من تحديد معنى القضاء الذي يرد في أيّ حديث أو آية . والمراد به في الحديث المروي عن علي « عليه السلام » آنفاً : هو الأمر الذي لا بد من وجوده في حكم الله تعالى . .
أما القَدَر ، فهو وضع الشيء وفق ما يقتضيه الغرض ، بلا زيادة ولا نقيصة ، قال تعالى : ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ 6. وقال : ﴿ … وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ﴾ 7. وقال : ﴿ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ ﴾ 8.
وذلك مثل خلق الإنسان بهذه الميزات والخصائص المتوافقة مع الحكمة ومع الوظيفة التي أرادها الله تعالى له في هذه الحياة ، والغاية التي سينتهي إليها . .
والقَدَر قد يكون في الخلق ، وقد يكون في الأحكام ، وقد يكون في السنن والنظم العامة في الكون والإنسان ـ ومن ذلك : تقدير الجزاء على الأفعال ـ وقد يكون بغير ذلك .
وهذا القدر ، أو فقل : التقدير في الخلق قد اقتضى وضع السنن لتسير الأمور وفقها ، مثل سنن التوالد في البشر ، وغرس الشجر ، وظهور الثمر ، ودوران الأرض حول الشمس ، والقمر ، وقد يتوارد بعض هذه السنن على بعض ، حين تصبح في دائرة اختيار الإنسان وغيره من المخلوقات العاقلة . . أو حين تصبح في مجال تصرّف سائر المخلوقات . فمثلاً : إن الله تعالى قدّر التوالد والتناسل بين البشر ، وقدر أيضاً : أن يعطي الإنسان قدرة على التصرف ، فإذا بادر هذا الإنسان في مورد إلى انتزاع رحم المرأة ، أو إفساده بأدوية أو بغيرها ، أو تمكن من تعطيل القدرة الجنسيّة للرجل . . فإن ذلك يبطل أثر التقدير للتناسل في خصوص هذا المورد . .
وأن الانسان يتحكم في هذه السنة ، ويقدر على تغيير بعض مفردات تجليها ولكن بتقدير آخر حاكم عليها .
فالقدر الذي تختزنه علة بعينها قد يرد عليه ما يخل به ، ويبطله . وهو ما يعبر عنه : باختلال الشرائط ، أو وجود الموانع . .
أما القضاء ، فلا يعرض له شيء من ذلك كما قدمنا ، لأنه حتم وجزم وتصرف إلهي بات وقاطع .
ولا بد من لفت النظر : إلى أن من الضروري عدم الخلط بين العلم الإلهي الأزلي بما تكون عليه حركة الأسباب والمسببات ، وكيفية سيرها وتوارد بعضها على بعض في حركة الواقع ، وبين حركة الواقع في سننه التي قدرها ووضعها الله تعالى ، فان ذلك العلم لا يؤثر في هذه الحركة ، وإنما الذي يؤثر فيها هو السنة المقدرة التي أراد الله تعالى أن يكون الفيض منه تعالى من خلالها .
وبذلك يظهر أيضاً : أن القضاء والقدر ليس له ارتباط بحصر فعل الإنسان بالله تعالى ، بمعنى : أن يجبر الله تعالى عباده على أفعالهم ، لأجل سنة القضاء والقدر ، لأنّ الله تعالى قد وضع السنن التي من جملتها : أن يفيض الله الوجود على الإنسان ، وعلى قدراته وطاقاته لحظة بلحظة ، والإنسان هو الذي يختار أن يحول هذه القدرة ، وأن يجسدها في هذه الحركة ، أو في تلك .
فهذا الإختيار البشري ، وذلك السعي والطلب الإنساني للحركة ، هو الشّرط الذي رُبِطَ الفيض الإلهي به . .
ولأجل هذا الربط يصح نسبة الفعل للإنسان ، لأنه اختاره وتطلَّبه ، وأوجد شرط الفيض الإلهي الوجود عليه . ويصح نسبته أيضاً إلى الله تعالى ، لأنه هو الذي أفاض وأعطى القدرة .
وهو قادر على حجب الفيض في كل لحظة ، ولذا ورد : أنه تعالى لا يطاع جبراً ، ولا يعصى مغلوباً ، وهو القادر على ما أقدرهم عليه .
وهذا نظير ما إذا كان هناك طاقة كهربائية موزعة في بيتٍ وفق الضوابط ، وهي تأتي من مصدر ينتجها ويرسلها . ولكن صاحب البيت هو الذي يختار أن يستفيد من هذه الطاقة ، أو لا يستفيد ، وقد يوظفها في التدفئة ، أو في تبريد الطعام ، أو في قتل إنسان ، أو في تحريك آلة ، أو أي شيء آخر . .
فهو من جهةٍ ليس مجبراً على ما فعل . . كما أنه ليس حراً طليقاً بشكل مطلق ما دام بالإمكان إبطال فعله بقطع التّيار الكهربائي عنه ، وجعله عاجزاً عن فعل ما يريد . .
ولذلك صح الثواب الإلهي على الفعل ، إذا كان حسناً ، وصح العقاب عليه إذا كان قبيحاً ، وصح الأمر والنهي عنه . . و . . و . . الخ . .
والحمد لله ، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى محمد وآله . . 9 .
- 1. شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج15 ص38 ومغازي الواقدي ج1 ص310 والمصنف للصنعاني ج3 ص541 وليراجع ص575 وج5 ص273 وكتاب الموطأ لمالك ج2 ص462 والإمام علي بن أبي طالب للهمداني ص484 و 557 والتمهيد ج21 ص228 والإستذكار لابن عبد البر ج5 ص104 وفلك النجاة ص65 والتحفة العسجدية ص149 .
- 2. كتاب التمحيص لابن همام الإسكافي ص58 وبحار الأنوار ج68 ص152 وج74 ص151 وتحف العقول ص48 ومستدرك سفينة البحار ج8 ص538 وألف حديث في المؤمن للنجفي ص171 .
- 3. كتاب التمحيص لابن همام الإسكافي ص58 وبحار الأنوار ج68 ص152 وج75 ص173 ومستدرك سفينة البحار ج4 ص149 وج8 ص538 وألف حديث في المؤمن ص171 .
- 4. بحار الأنوار ج90 ص18 ـ 20 ومستدرك سفينة البحار ج8 ص539 و 540 .
- 5. بحار الأنوار ج5 ص97 و 114 وج41 ص2 وج56 ص3 وج67 ص151 والتوحيد للصدوق ص377 و (ط مركز النشر الإسلامي) ص369 والإعتقادات في دين الإمامية ص35 ومختصر بصائر الدرجات ص136 وعوالي اللآلي ج4 ص111 ونور البراهين ج2 ص320 وموسوعة أحاديث أهل البيت للنجفي ج9 ص164 و 165 وتفسير نور الثقلين ج2 ص28 والفروق اللغوية لأبي هلال العسكري ص39 .
- 6. القران الكريم: سورة القمر (54)، الآية: 49، الصفحة: 530.
- 7. القران الكريم: سورة الفرقان (25)، الآية: 2، الصفحة: 359.
- 8. القران الكريم: سورة الأعلى (87)، الآية: 3، الصفحة: 591.
- 9. ميزان الحق . . ( شبهات . . وردود ) ، السيد جعفر مرتضى العاملي ، المركز الإسلامي للدراسات ، الطبعة الأولى ، 1431 هـ . ـ 2010 م ، الجزء الرابع ، الأسئلة الملحقة ، السؤال رقم (191) .