(۱)
الإمام محمّد الباقر (ع) من أفذاذ العترة الطاهرة ، ومن أعلام أئمّة أهل البيت (ع) ومن أبرز رجال الفكر والعلم في الإسلام فقد قام ـ فيما أجمع عليه المؤرّخون ـ بدور إيجابي وفعال في تكوين الثقافة الإسلاميّة وتأسيس الحركة العلميّة في الإسلام ، فقد تفرغ لبسط العلم وإشاعته بين المسلمين في وقت كان الجمود الفكري قد ضرب نطاقه على جميع أنحاء العالم الإسلامي ، ولم تعد هناك أيّة نهضة فكريّة أو علميّة ، فقد منيت الاُمّة بثورات متلاحقة ، وانتفاضات شعبيّة كان مبعثها تارة التخلّص من جور الحكم الاُموي واضطهاده ، واُخرى الطمع بالحكم ، واهملت من جراء ذلك الحياة العلميّة إهمالاً تامّاً فلم يعدلها أيّ ظلّ على مسرح الحياة.
وقد ابتعد الإمام الباقر (ع) عن تلك التيارات السياسيّة إبتعاداً مطلقاً فلم يشترك بأيّ عمل سياسي يتصادم مع الحكم القائم آنذاك ، واتّجه صوب العلم فرفع مناره ، وأسّس قواعده وأرسى أصوله ، فكان الرائد والمعلّم والقائد لهذه الأمّة في مسيرتها الثقافيّة ، وقد سار بها خطوات واسعة في ميادين البحوث العلميّة ممّا يعتبر عاملاً جوهريّاً في إزدهار الحياة الإسلاميّة وتكوين حضارتها المشرقة في الأجيال التي جاءت بعده.
وكان من أهمّ ما عنى به الإمام أبو جعفر (ع) نشر الفقه الإسلامي الذي يحمل روح الإسلام وجوهره وتفاعله مع الحياة فسهر على إحيائه فأقام مدرسته الكبرى التي زخرت بكبار الفقهاء كأبان بن تغلب ومحمّد بن مسلم ، وبريد وأبي بصير الأسدي والفضل بن يسار ، ومعروف بن خربوذ وزرارة ابن أعين ، وهؤلاء الاعلام ممّن أجمعت الصحابة على تصديقهم والإقرار لهم بالفقه ، وإليهم يرجع الفضل في تدوين أحاديث أهل البيت (ع) ولولا هم لضاعت تلك الثروة الفكريّة الهائلة التي يعتزّ بها العالم الإسلامي وهي إحدى المدارك الأساسيّة لفقهاء الشيعة في إستنباطهم للأحكام الشرعيّة.
والشيء الذي يدعو إلى الاعتزاز بسيرة الإمام هو انّه قد تبنى هؤلاء الفقهاء فأشاد بهم ، وعزّز مركزهم ، وارجع الأمّة إلى فتواهم يقول (ع) لأبان بن تغلب :
« اجلس في مسجد المدينة ، وافت الناس فانّي أحبّ أن يرى في شيعتي مثلك » (۱).
وقد قام بتسديد نفقاتهم وما يحتاجون إليه في حياتهم المعاشية ليتفرغوا إلى تحصيل العلم وضبط قواعده وتدوينه ، وعهد من بعده إلى ولده الإمام الصادق (ع) القيام برعايتهم والإنفاق عليهم حتّى لا تشغلهم الحياة الإقتصاديّة عن القيام بأداء مهمّاتهم … وقد قاموا بدور بناء في تدوين الحديث الذي سمعوه منه ، كما أخذوا يلقون على البعثات الدينيّة ما رووه عنه ، وقد روى عنه تلميذه جابر بن يزيد الجعفي سبعين ألف حديث (۲). كما روى عنه أبان بن تغلب مجموعة كبيرة عنه ، وقد حفلت الموسوعات الفقهيّة بحشد كبير من رواياتهم عنه فجميع أبواب الفقه من العبادات وسائر العقود والإيقاعات مدعمة بالروايات عنه فكان المؤسّس والناشر لفقه أهل البيت الذي يحتلّ الصدارة في الفقه الإسلامي.
(٢)
ولم يقتصر الإمام في محاضراته وبحوثه على الفقه الإسلامي وإنّما خاض جميع ألوان العلوم من الفلسفة وعلم الكلام والطبّ ، أمّا تفسير القرآن الكريم فقد استوعب إهتمامه ، فقد خصّص وقتاً له ، وقد دوّن أكثر المفسّرين ما يذهب إليه وما يرويه عن آبائه في تفسير الآيات الكريمة ، وقد ألّف كتاباً في التفسير رواه عنه زياد بن المنذر الزعيم الروحي للفرقة الجارودية (۳).
ويعرض هذا الكتاب إلى بيان ذلك ، وتقديم برامج من تفسيره لبعض الآيات ، وممّا تجدر الإشارة إليه انّ الإمام (ع) قد تحدث عن أحوال الأنبياء وما لاقوه من الإضطهاد من فراعنة زمانهم ، كما عرض لبعض حكمهم وآدابهم وعنه أخذ أكثر الباحثين في أحوال الأنبياء … وتحدث (ع) بصورة موضوعيّة وشاملة عن السيرة النبويّة وشرح أحوال الرسول الأعظم (ص) ومغازيه وحروبه.
وقد رواها عنه ابن هشام والواقدي والحلبي وغيرهم من المدونين للسيرة النبويّة كما روى (ع) عن النبي (ص) بسنده عن آبائه مجموعة كبيرة من الأحاديث تتعلّق بآداب السلوك وحسن الأخلاق وما ينبغي ان يتّصف به المسلم من الصفات الرفيعة التي تجعله قدوة لغيره … وروى بصورة شاملة الأحداث التأريخيّة التي جرت في العصر الإسلامي الأوّل ، وقد نقلها عنه الطبري في تأريخه والبلاذري في أنسابه.
وناظر (ع) مع بعض علماء المسيحيين ، والأزارقة ، وجادل الملحدين ، وقاوم الغلاة ، وقد خرج من مناظراته وهو ظافر قد اعترف الخصم بقدراته العلميّة والعجز عن مجاراته ، ويعرض هذا الكتاب إلى ذكر ذلك.
لقد ترك الإمام (ع) ثروة فكريّة هائلة تعد من ذخائر الفكر الإسلامي ومن مناجم الثروات العلميّة في الأرض وليس من المستطاع تسجيل جميع ما أثر عنه من العلوم والمعارف فان ذلك يستدعي وضع عدّة مجلّدات ، وانّما أشرنا إلى بعضها ، وتركنا الباب مفتوحاً لمن يريد أن يبحث بصورة شاملة عن ثرواته العلميّة.
وعلى أيّ حال فان التأريخ لم يعرف أماماً كمحمّد الباقر (ع) قد وقف حياته كلّها لنشر العلم واذاعته بين الناس ، فكان ـ فيما يقول الرواة ـ قد أقام في يثرب سادنا أميناً كالجبل أو كالبحر وهو يغذي رجال الفكر ورواد العلم بفقهه وعلمه التي تحمل عناصر التقدّم ، وعناصر الحياة لا لهذه الاُمّة فحسب ، وإنّما للناس جميعاً.
(٣)
وكما كان الإمام الباقر (ع) من عمالقة الفكر والعلم في الإسلام فقد كان من أبرز أئمّة المسلمين فيما أوتي من عظيم الأخلاق والتجرّد من كلّ نزعة مادية أو أنانية ، فكان في سلوكه يمثل روح الإسلام وفكره وإنطلاقه في هداية الناس وتهذيب أخلاقهم.
ويجمع المؤرّخون انّه كان مشغولاً في أكثر أوقاته بذكر الله ، وانّه كان ينفق لياليه ساهراً في الصلاة لله ومناجاته شأنه شأن آبائه الذين هم مصابيح الهداية والتقوى في الأرض ، وقد تحرج الإمام في حياته كأشدّ ما يكون التحرج ، فزهد في الدنيا ، وابتعد عن جميع زخارفها ، واتّجه بقلبه وعواطفه نحو الله فآثر طاعته على كلّ شيء ، وعلى كلّ ما يقربه إليه زلفى ، فلم ينقاد لأيّة نزعة من نزعات الهوى ، وانّما تحرّر منها تحرّراً كاملاً ، ولم يعد لها أيّ سلطان عليه.
لقد كانت سيرة الإمام تحاكي سيرة جدّه الرسول الأعظم (ص) في جميع مكوّناتها وذاتيّاتها ، ولا يكاد يقرأها أحد إلّا ويذهب به الإعجاب كلّ مذهب ، ويمضي به الاكبار إلى غير حدّ.
(٤)
وامتحن الإمام الباقر (ع) وهو في غضارة الصبا إمتحاناً شاقاً وعسيراً ، فقد شاهد رزايا كربلا وما جرى على العترة الطاهرة من صنوف القتل والتنكيل ، فقد جرت امامه عمليّة القتل الجماعي بوحشيّة قاسية لعترة النبي (ص) ولم يتأثم الجيش الاُموي في قتل الأطفال الأبرياء والنساء والشيوخ ، والتمثيل الآثم بجثمان الإمام العظيم ، وغير ذلك من الكوارث التي تذوب من هولها القلوب ، وقد حمل أسيراً مع أسارى أهل البيت إلى ابن مرجانة فبالغ في اذلالهم واحتقارهم ، واظهر الشماتة والحقد بقتله لعترة النبي (ص) وذريّته ، وحملهم إلى الطاغية الفاجر يزيد بن معاوية فقابلهم بمزيد من الإحتقار والتوهين.
وقد وعى الإمام الباقر (ع) تلك الأحداث المؤلمة فملئت قلبه ألماً عاصفاً وطبعت في نفسه اللوعة والحزن ، وظلت ملازمة له طول حياته فلم يهنئ بعيش ولم تطب له الحياة ، قد انطوت نفسه على حزن عميق وأسى مرير.
ومن الكوارث التي دهمته وهو في غضون الصبا واقعة الحرّة التي انتهك فيها جيش يزيد حرمة مدينة الرسول (ص) فاستباح الاعراض والأموال وازهاق النفوس ، ولم تبق حرمة لله إلّا انتهكها ، ولم ينج من أهوال تلك الكارثة الأليمة إلّا الإمام زين العابدين (ع) لوصية عهد بها يزيد إلى جلاده المسرف الأثيم مسلم بن عقبة ، وتركت هذه الصور الحزينة في نفس الإمام شعوراً انبعاثيّاً طافحاً بالأسى والحزن.
(٥)
وكان عصر الإمام من أدقّ العصور في الإسلام فقد كانت الحياة فيه بشعة شديدة الظلام ومرهقة كأشدّ ما يكون الإرهاق ، فقد تفجرت البلاد الإسلاميّة ببركان من الثورات كانت نتيجة لسوء السياسة الأموية التي لم تضع نصب أعينها مصلحة الشعوب الإسلاميّة ، وانّما راحت تتصرّف بوحي من رغباتها الخاصّة من دون أن تولي أيّ اهتمام بصالح الأمّة ، فقد وضعت عليها الضرائب الثقيلة ، وشددت في أمر الخراج وسلبت ثروات الاُمّة ، وانفقتها على شهواتها وملاذها ، واستبدت كأشر ما يكون الاستبداد في جميع شئونها.
ولا بد لنا أن نذكر الحكومات التي عاصرها الإمام ، ونعرض الأحداث السياسيّة التي جرت في ذلك العصر ، ويجب أن نلاحظها بدقّة وامعان فهي ممّا تمسّ الحياة الإجتماعيّة والفكريّة في ذلك العصر الذي نشأ فيه الإمام ، ومن الطبيعي أن الباحث الذي يهمل ذلك فانّه من غير الممكن أن يتوصل إلى دراسة الشخصيّة التي يبحث عنها أو يهتدي إلى فهمها حسب الدراسات الحديثة.
انّ من الأمانة للعلم والرغبة في الحق إظهار تلك الأحداث والتدليل على مصادرها ، ومناقشة المصادر التي لم تخضع للحق وانّما كانت خاضعة للأهواء التي هي أبعد ما تكون عن الواقع ، فان الدراسة بهذا اللون ـ فيما نحسب ـ تعود على القراء بمزيد من الفائدة.
(٦)
ولم تحظ المكتبة العربيّة بدراسة عن هذا الإمام العظيم الذي هو من عناصر الثقافة والتكوين الحضاري لهذه الأمّة ، فانّه ليس من الوفاء في شيء ان نهمل حياة عظمائنا في حين أن الأمم الحية قد عنت بتخليد عظمائها والإشادة بهم وابراز مآثرهم إلى العالم للتدليل على مدى اصالتها وما تملكه من القيم الكريمة يقول العقاد : « ان الأوربيين قد وجدوا من علمائهم من يشيد بعظمائهم ويستقصي نواحي مجدهم بل قد دعتهم العصبية أحياناً أن يتزايدوا في نواحي هذه العظمة ، ويعملوا الخيال في تبرير العيب وتكميل النقص تحميساً للنفس واثارة لطلب الكمال ، أمّا نحن فقد كان بيننا وبين عظمائنا سدود وحواجز حالت بين شبابنا والإستفادة منهم ».
ومن هو أحقّ بالاشادة من الإمام محمّد الباقر (ع) الذي هو من أبرز القادة الطليعيين لهذه الأمّة ، وأحد عباقرة هذه الدنيا ، والذي كان من بعض مآثره وخدماته تحرير النقد العربي والإسلامي من السيطرة الخارجيّة ، وجعله مستقلّاً بنفسه غير مرتبط بالإمبراطوريّة الرومانيّة بما سنذكره تفصيلاً في غضون هذا الكتاب.
وقد عنى القدامى بالبحث عن سيرة الإمام أبي جعفر فألّف الجلودي عبد العزيز بن يحيى المتوفّى سنة ـ ٣٠٤ هـ ـ كتاباً اسماه « أخبار أبي جعفر الباقر » (٤) ذكر فيه أحواله وشئونه الّا أنا لم نعثر عليه في خزانة المخطوطات التي حفلت بها مكتباتنا العامّة. ولعلّه يوجد في خزائن المخطوطات الأخرى في العالم أو انّه قد ضاع في ضمن المخطوطات الكثيرة التي خسرها العالم العربي والإسلامي.
(٧)
وقد ساعدني التوفيق ـ والحمد لله ـ فتشرفت بالبحث عن سيرة هذا الإمام العظيم ومن الحق انّي لم أر صورة أروع ولا أنظر منه ، فهو يمثل جميع القيم الإنسانيّة التي يعتزّ بها كلّ إنسان.
وقد عكفت على مراجعة جملة كبيرة من المصادر المخطوطة والمطبوعة التي عرضت لترجمته وتدوين بعض مآثره وحكمه ، وأنا واثق كلّ الوثوق أن الباحث المتتبع يجد أضعاف ما كتبته عن حياته ممّا قد خفي عليّ ، ولا أزعم أنّي احطت بترجمته أو دوّنت جميع ما أثر عنه ، وانّما القيت أضواء على شخصيّته ، وتركت الباب مفتوحاً لغيري من البحاث للكشف عن حياته.
وقبل أن انهي هذا التقديم أودّ أن اذكر بمزيد من الشكر ما قام به ولدنا السيّد الجليل السيّد عبد الرسول بن السيّد رضا الحسيني الصائغ من المساهمة في الإنفاق على طبع هذا الكتاب سائلاً منه تعالى أن يوفقه لكلّ مسعى نبيل وما التوفيق إلّا بيد الله يهبه لمن يشاء من عباده.
الهوامش
۱. النجاشي ص ٢٨ جامع الرواة ١ / ٩.
۲. ميزان الإعتدال ١ / ٣٨٣.
۳. فهرست الشيخ الطوسي « ص ٩٨ ».
٤. الذريعة ١ / ٣١٥ ، الاعلام ٧ / ١٥٣.