الأئمة أفضل أوصياء الأنبياء (عليهم السلام)
لكل واحد من الأئمة (عليهم السلام) معجزات كثيرة ، وقد حفظ الرواة للإمام الهادي (عليه السلام) أكثر من مئة معجزة ، وتقدم عددٌ منها ، ونورد فيما يلي عدداً آخر ، ونذكر قبلها حديثاً يصف ما أعطى الله تعالى لأئمة العترة النبوية.
قال النوفلي ( الكافي : ١ / ٢٣١ ): ” سمعته (عليه السلام) يقول : إسم الله الأعظم ثلاثةٌ وسبعون حرفاً ، كان عند آصف حرفٌ فتكلم به ، فانخرقت له الأرض فيما بينه وبين سبأ ، فتناول عرش بلقيس حتى صيَّره إلى سليمان (عليه السلام) ، ثم انبسطت الأرض في أقل من طرفة عين ، وعندنا منه اثنان وسبعون حرفاً. وحرفٌ عند الله مستأثرٌ به في علم الغيب “.
وفي عيون أخبار الرضا (عليه السلام) (١ / ١٩٢ ) : ” للإمام علامات : يكون أعلم الناس ، وأحكم الناس ، وأتقى الناس ، وأحلم الناس ، وأشجع الناس ، وأسخى الناس ، وأعبد الناس ، ويولد مختوناً ويكون مطهراً ، ويرى من خلفه كما يرى من بين يديه ، ولا يكون له ظل ، وإذا وقع إلى الأرض من بطن أمه وقع على راحتيه رافعاً صوته بالشهادتين ، ولا يحتلم ، وتنام عينه ولا ينام قلبه ، ويكون محدثاً ، ( تحدثه الملائكة ) ويكون دعاؤه مستجاباً حتى أنه لودعا على صخره لانشقت بنصفين .. إن الإمام مؤيدٌ بروح القدس ، وبينه وبين الله عمودٌ من نور ، يرى فيه أعمال العباد وكلما احتاج إليه .. يبسط له فيعلم ، ويقبض عنه فلا يعلم “.
يحيى بن هرثمة يحدث بمعجزات الإمام (عليه السلام)
يوجد قبر في ضواحي مشهد الإمام الرضا (عليه السلام) يزوره الناس ويسمونه : خاجه مراد ، فقصدناه ووجدنا مكتوباً عليه أنه قبر هرثمة بن أعين ، وقيل قبر يحيى بن هرثمة. فندمنا على سفرنا لأنا لا نزور قبر هرثمة وأمثاله من قادة جيش العباسيين! فقد كان يحيى كأبيه هرثمة قائداً عند المتوكل ، ينفذ أوامره القذرة في قتل المسلمين ، ثم واصل ذلك مع غيره من الخلفاء. ولا يوجد ليحيى حسنة في تاريخه إلا روايته لمعجزات الإمام الهادي (عليه السلام)! وقوله إنه تاب وأناب عندما رآها ، وهومجرد قول بلا عمل.
قال الطبري ( ٧ / ٤٧٩ ) : ( وفيها ( سنة ٣٤٨ ) كانت وقعة بين يحيى بن هرثمة وأبي الحسين بن قريش ، قتل من الفريقين جماعة ، ثم انهزم أبوالحسين بن قريش ).
وقد أورد السيد الخوئي في معجمه ( ٢١ / ١٠٢ ) رواية تشيعه ولم يعلق بشئ.
ووصفه في مستدرك سفينة البحار ( ٣ / ٢٨ ) بحُسْنُ الخاتمة , ولا نعرف له حسنةً إلا روايته لما شاهد من معجزات الإمام الهادي (عليه السلام) ، وذلك بعد موت المتوكل.
١. ظهر الماء في الصحراء ورويت القافلة
قال المسعودي في إثبات الوصية ( ١ / ٢٣٢ ) : ( وروي عن يحيى بن هرثمة قال : رأيت من دلائل أبي الحسن (عليه السلام) الأعاجيب في طريقنا. منها : أنا نزلنا منزلاً لا ماء فيه فأشفينا ودوابنا وجمالنا من العطش على التلف ، وكان معنا جماعة وقوم قد تبعونا من أهل المدينة ، فقال أبوالحسن (عليه السلام) : كأني أعرف على أميال موضع ماء. فقلنا له : إن نشطت وتفضلت عدلت بنا إليه وكنا معك. فعدل بنا عن الطريق فسرنا نحو ستة أميال ( نحوعشرة كيلومتر ) فأشرفنا على واد كأنه زهرالرياض فيه عيون وأشجار وزروع ، وليس فيها زارع ولا فلاح ولا أحد من الناس ، فنزلنا وشربنا وسقينا دوابنا ، وأقمنا الى بعد العصر ثم تزودنا وارتوينا ، وما معنا من القرب ورحنا راحلين. فلم نبعد أن عطشتُ وكان لي مع بعض غلماني كوز فضة يشده في منطقته. وقد استسقيته فلجلج لسانه بالكلام ، ونظرتُ فإذا هو قد أنسي الكوز في المنزل الذي كنا فيه. فرجعت أضرب بالسوط على فرس لي جواد سريع وأغذ السير ، حتى أشرفت على الوادي فرأيته جدباً يابساً ، قاعاً مَحْلاً ، لاماء فيه ولا زرع ولاخضرة ، ورأيت موضع رحالنا وروث دوابنا وبعر الجمال ومناخاتهم ، والكوز موضوع في موضعه الذي تركه الغلام! فأخذته وانصرفت ولم أعَرِّفْه شيئاً من الخبر. فلما قربت من القطر والعسكر وجدته (عليه السلام) واقفاً ينتظر فتبسم صلى الله عليه ولم يقل لي شيئاً ، ولا قلت له سوى ما سأل من وجود الكوز فأعلمته أني وجدته!
٢. عرف الإمام بموعد نزول المطر في الصيف
قال يحيى : وخرج في يوم صائف آخر ونحن في ضحو وشمس حاميةٌ تُحرق ، فركب من مضربه وعليه ممطر ، وذنبُ دابته معقودٌ وتحته لبدٌ طويل ، فجعل كل من في العسكر وأهل القافلة يضحكون تعجباً ويقولون : هذا الحجازي ليس يعرف الرأي ، فما سرنا أميالاً حتى ارتفعت سحابة من ناحية القبلة وأظلمت وأظلتنا بسرعة ، وأتى من المطر الهاطل كأفواه القرب ، فكدنا أن نتلف وغرقنا حتى جرى الماء من ثيابنا الى أبداننا وامتلأت خفافنا ، وكان أسرع وأعجل من أن يمكن أن نحط ونخرج اللبابيد ، فصرنا شهرةً ، وما زال (عليه السلام) يتبسم تبسماً ظاهراً تعجباً من أمرنا ) 1.
٣. الإمام يشفي عين طفل ويرد بصره
قال يحيى : وصارت إليه في بعض المنازل امرأة معها ابنٌ لها ي ، ولم تزل تستذل وتقول : معكم رجل علوي دُلوني عليه حتى يرقي عين ابني هذا. فدللناها عليه ففتح عين الصبي حتى رأيتها ولم أشك أنها ذاهبة ، فوضع يده عليها لحظة يحرك شفتيه ثم نحاها فإذا عين الغلام مفتوحة صحيحة ما بها علة )! 1.
٤. رواية أخرى لحادثة المطر في الصيف
في الخرائج ( ١ / ٣٩٢ ) والثاقب لابن حمزة / ٥٥١ ، عن يحيى بن هرثمة ، قال : ( دعاني المتوكل فقال : إختر ثلاث مائة رجل ممن تريد ، واخرجوا إلى الكوفة ، فخلفوا أثقالكم فيها ، واخرجوا على طريق البادية إلى المدينة فأحضروا علي بن محمد بن الرضا إلى عندي مكرماً معظماً مبجلاً. قال : ففعلت وخرجنا. وكان في أصحابي قائد من الشراة ( الخوارج ) وكان لي كاتب يتشيع ، وأنا على مذهب الحشوية ( أهل الحديث ) وكان ذلك الشاري يناظرذلك الكاتب ، وكنت أستريح إلى مناظرتهما لقطع الطريق. فلما صرنا إلى وسط الطريق قال الشاري للكاتب : أليس من قول صاحبكم علي بن أبي طالب أنه ليس من الأرض بقعة إلاوهي قبر أوستكون قبراً؟ فانظر إلى هذه البرية أين من يموت فيها حتى يملأها الله قبوراً كما تزعمون؟ قال فقلت للكاتب : أهذا من قولكم؟ قال : نعم. قلت : صدق. أين من يموت في هذه البرية العظيمة حتى تمتلئ قبوراً؟! وتضاحكنا ساعة ، إذ انخذل الكاتب في أيدينا. قال : وسرنا حتى دخلنا المدينة ، فقصدت باب أبي الحسن علي بن محمد بن الرضا فدخلت إليه ، فقرأ كتاب المتوكل فقال : إنزلوا وليس من جهتي خلاف. قال : فلما صرت إليه من الغد ، وكنا في تموز أشد ما يكون من الحر ، فإذا بين يديه خياطٌ وهويقطع من ثياب غلاظ خفاتين ( الخفتان : معطف وهوالقفطان ) له ولغلمانه ، ثم قال للخياط : إجمع عليها جماعة من الخياطين ، واعمد على الفراغ منها يومك هذا ، وبكر بها إليَّ في هذا الوقت. ثم نظر إلي وقال : يا يحيى ، إقضوا وطركم من المدينة في هذا اليوم ، واعمل على الرحيل غداً في هذا الوقت.
قال : فخرجت من عنده وأنا أتعجب منه من الخفاتين ، وأقول في نفسي : نحن في تموز وحر الحجاز ، وإنما بيننا وبين العراق مسيرة عشرة أيام ، فما يصنع بهذه الثياب! ثم قلت في نفسي : هذا رجل لم يسافر ، وهويقدر أن كل سفر يحتاج فيه إلى هذه الثياب ، وأتعجب من الرافضة حيث يقولون بإمامة هذا مع فهمه هذا. فعدت إليه في الغد في ذلك الوقت فإذا الثياب قد أحضرت ، فقال لغلمانه : أدخلوا وخذوا لنا معكم لبابيد وبرانس. ثم قال : إرحل يا يحيى.
فقلت في نفسي : وهذا أعجب من الأول ، أيخاف أن يلحقنا الشتاء في الطريق حتى أخذ معه اللبابيد والبرانس! فخرجت وأنا أستصغر فهمه.
فسرنا حتى وصلنا إلى موضع المناظرة في القبور ارتفعت سحابة واسودَّت وأرعدت وأبرقت ، حتى إذا صارت على رؤوسنا أرسلت علينا بَرَداً مثل الصخور ، وقد شدَّ على نفسه وعلى غلمانه الخفاتين ، ولبسوا اللبابيد والبرانس ، وقال لغلمانه : إدفعوا إلى يحيى لبادة ، وإلى الكاتب برنساً.
وتجمعنا والبَرَد يأخذنا حتى قتل من أصحابي ثمانين رجلاً ، وزالت ورجع الحرُّ كما كان ، فقال لي : يا يحيى إنزل أنت ومن بقي من أصحابك ليدفنوا من قد مات من أصحابك. ثم قال : فهكذا يملأ الله هذه البرية قبوراً!
قال : فرميت بنفسي عن دابتي وعدوت إليه فقبَّلت ركابه ورجله ، وقلت : أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، وأنكم خلفاء الله في أرضه ، وقد كنتُ كافراً ، وإنني الآن قد أسلمت على يديك يا مولاي. قال يحيى : وتشيعت ، ولزمت خدمته إلى أن مضى ).
ملاحظة
شَنَّعَ ذلك الخارجي على زميله الكاتب الشيعي بما رويَ عن أمير المؤمنين (عليه السلام) : ( ليس من الأرض بقعة إلا وهي قبر ، أوستكون قبراً ) ولم أجد هذا الحديث في المصادر المعروفة. لكن معناه صحيح فكل بقعة ، أي كل نوع من الأرض فيه قبور أو سيكون فيه ، وليس معناه أن كل مكان في الأرض قبرٌ أوسيكون قبراً.
قال الخليل في العين ( ١ / ١٨٤ ) : ( البَقْعُ : لونٌ يخالف بعضه بعضاً ، مثل الغراب الأسود في صدره بياض ، غراب أبقع ، وكلب أبقع. والبقعة : قطعة من أرض على غير هيئة التي على جنبها ، كل واحدة منها بقعة وجمعها بقاع وبقع ).
على أن كل تستعمل للتعميم النسبي ، فقد روي عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى عن اليهود : ﴿ وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَٰلِكَ … ﴾2 قال : ( هم اليهود بسطهم الله في الأرض ، فليس من الأرض بقعة إلا وفيها عصابة منهم وطائفة ) 3. وبهذا المعنى وردت البقعة في حديث المهدي (عليه السلام) : ( وينزل روح الله عيسى بن مريم (ع) فيصلي خلفه ، وتشرق الأرض بنور ربها ولا تبقى في الأرض بقعة عبد فيها غير الله عز وجل إلا عبد الله فيها ) 4.
وقصد الخارجي من تشنيعه على الكاتب ، تكذيب أمير المؤمنين (عليه السلام) ، ولعل الكاتب شكى الى الإمام الهادي (عليه السلام) سخريتهم به ، فأجرى الله على يد (عليه السلام) هذه الكرامة لتصديق ما رواه عن أمير المؤمنين (عليه السلام)!
أما قول ابن هرثمة : وتشيعت ، ولزمت خدمته إلى أن مضى. فادعاء لم يصح!
٥. رواية ثانية لظهور الماء وريَّ القافلة
في الخرائج ( ١ / ٤١٥ ) : ( روى أبومحمد البصري ، عن أبي العباس خال شبل كاتب إبراهيم بن محمد ، قال : كلما أجرينا ذكر أبي الحسن (عليه السلام) فقال لي : يا أبا محمد لم أكن في شئ من هذا الأمر وكنت أعيب على أخي ، وعلى أهل هذا القول عيباً شديداً بالذم والشتم ، إلى أن كنت في الوفد الذين أوفد المتوكل إلى المدينة في إحضار أبي الحسن (عليه السلام) فخرجنا إلى المدينة ، فلما خرج وصرنا في بعض الطريق ، طوينا المنزل وكان يوماً صائفاً شديد الحر ، فسألناه أن ينزل قال : لا.
فخرجنا ولم نطعم ولم نشرب ، فلما اشتد الحر والجوع والعطش فينا ، ونحن إذ ذاك في أرض ملساء لا نرى شيئاً ولا ظلاً ولا ماء نستريح إليه ، فجعلنا نشخص بأبصارنا نحوه. فقال : ما لكم أحسبكم جياعاً وقد عطشتم؟ فقلنا : إي والله ، وقد عيينا يا سيدنا. قال : عَرِّسُوا ( إنزلوا ) وكلوا واشربوا.
فتعجبت من قوله ونحن في صحراء ملساء لا نرى فيها شيئاً نستريح إليه ، ولا نرى ماءً ولا طلاً. قال : ما لكم! عَرِّسُوا. فابتدرت إلى القطار لأنيخ ثم التفتُّ وإذا أنا بشجرتين عظيمتين يستظل تحتهما عالمٌ من الناس ، وإني لأعرف موضعهما أنه أرض بَرَاحٌ قفرٌ ، وإذا أنا بعين تسيح على وجه الأرض أعذب ماء وأبرده! فنزلنا وأكلنا وشربنا واسترحنا ، وإن فينا من سلك ذلك الطريق مراراً!
فوقع في قلبي ذلك الوقت أعاجيب ، وجعلت أحد النظر إليه وأتأمله طويلاً ، وإذا نظرت إليه تبسم وزوى وجهه عني ، فقلت في نفسي : والله لأعرفن هذا كيف هو؟ فأتيت من وراء الشجرة فدفنت سيفي ووضعت عليه حجرين ، وتغوطت في ذلك الموضع ، وتهيأت للصلاة.
فقال أبوالحسن : استرحتم؟ قلنا : نعم ، قال : فارتحلوا على اسم الله ، فارتحلنا فلما أن سرنا ساعة رجعت على الأثر فأتيت الموضع فوجدت الأثر والسيف كما وضعت والعلامة ، وكأن الله لم يخلق ثم شجرةً ولا ماءً وظلالاً ولا بللاً! فتعجبت ورفعت يدي إلى السماء فسألت الله بالثبات على المحبة والإيمان به والمعرفة منه. وأخذت الأثر ولحقت القوم ، فالتفت إليَّ أبوالحسن (عليه السلام) وقال : يا أبا العباس فعلتها؟ قلت : نعم يا سيدي ، لقد كنت شاكاً ، ولقد أصبحت وأنا عند نفسي من أغنى الناس بك في الدنيا والآخرة. فقال : هوكذلك ، هم معدودون معلومون ، لا يزيدون رجلاً ولا ينقصون رجلاً ).
أقول : لم أجد ترجمة أبي العباس خال كاتب إبراهيم بن محمد ، والظاهر أن إبراهيم بن محمد هذا هوالعباسي المسمى بُرَيْه ، وقد ذكر الطبري ( ٦ / ٤٧٢ و ٦٠٤ ، و : ٨ / ١٥ ) أنه كان والياً على الحرمين ، وأنه حج بالناس سنة ٢٥٩.
٦. ما ظهر للفتح بن يزيد الجرجاني
في إثبات الوصية ( ١ / ٢٣٥ ) : ( وروى الحميري قال : حدثني أحمد بن أبي عبد الله البرقي عن الفتح بن يزيد الجرجاني قال : ضمني وأبا الحسن (عليه السلام) الطريق لما قدم به المدينة فسمعته في بعض الطريق يقول : من اتقى الله يتقى ومن أطاع الله يطاع.
فلم أزل أدلف حتى قربت منه ودنوت ، فسلمت عليه ورد عليَّ السلام فأول ما ابتدأني أن قال لي : يا فتح من أطاع الخالق لم يبال بسخط المخلوقين ، ومن أسخط الخالق فليوقن أن يحل به سخط المخلوقين.
يا فتح إن الله جل جلاله لايوصف إلا بما وصف به نفسه ، فأنى يوصف الذي تعجز الحواس أن تدركه ، والأوهام أن تناله ، والخطرات أن تحده ، والأبصار أن تحيط به ، جل عما يصفه الواصفون ، وتعالى عما ينعته الناعتون ، نأى في قربه وقرب في نأيه ، فهو في نأيه قريب ، وفي قربه بعيد ، كيَّفَ الكيف فلا يقال كيف ، وأيَّنَ الأين فلا يقال أين ، إذ هومنقطع الكيفية والأينية ، الواحد الأحد جل جلاله ، بل كيف يوصف بكنهه محمد (صلى الله عليه و اله) وقد قرن الخليل اسمه باسمه وأشركه في طاعته وأوجب لمن أطاعه جزاء طاعته ، فقال : وما نقموا منه إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله. وقال تبارك اسمه يحكي قول من ترك طاعته : يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا. أم كيف يوصف من قرن الجليل طاعته بطاعة رسول الله (صلى الله عليه و اله) حيث يقول : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم.
يا فتح كما لا يوصف الجليل جل جلاله ، ولايوصف الحجة ، فكذلك لا يوصف المؤمن المسلم لأمرنا. فنبينا (صلى الله عليه واله) أفضل الأنبياء ووصينا (صلى الله عليه واله) أفضل الأوصياء. ثم قال لي بعد كلام : فأورد الأمر إليهم وسلم لهم. ثم قال لي : إن شئت. فانصرفت منه. فلما كان في الغد تلطفت في الوصول إليه فسلمت فرد السلام فقلت : يا ابن رسول الله تأذن لي في كلمة اختلجت في صدري ليلتي الماضية؟
فقال لي : سل وأصخْ الى جوابها سمعك ، فإن العالم والمتعلم شريكان في الرشد ، مأموران بالنصيحة ، فاما الذي اختلج في صدرك فإن يشأ العالم أنبأك الله ، إن الله لم يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول ، وكل ما عند الرسول فهوعند العالم ، وكل ما اطلع الرسول عليه فقد اطلع أوصياؤه عليه.
يا فتح : عسى الشيطان أراد اللبس عليك فأوهمك في بعض ما أوردت عليك وأشكَّكَ في بعض ما أنبأتك ، حتى أراد إزالتك عن طريق الله وصراطه المستقيم! فقلتَ متى أيقنت أنهم هكذا فهم أرباب! معاذ الله ، إنهم مخلوقون مربوبون مطيعون داخرون راغمون. فإذا جاءك الشيطان بمثل ما جاءك به فاقمعه بمثل ما نبأتك به. قال فتح : فقلت له : جعلني الله فداك فرجت عني ، وكشفت ما لبَّسَ الملعون عليَّ ، فقد كان أوقع في خلدي أنكم أرباب.
قال : فسجد (عليه السلام) فسمعته يقول في سجوده : راغماً لك يا خالقي داخراً خاضعاً.
ثم قال : يا فتح كدت أن تهلك وما ضر عيسى إن هلك من هلك. إذا شئت رحمك الله. قال : فخرجت وأنا مسرور بما كشف الله عني من اللبس.
فلما كان في المنزل الآخر دخلت عليه وهومتكئ وبين يديه حنطة مقلوة يعبث بها ، وقد كان أوقع الشيطان لعنه الله في خلدي أنه لاينبغي أن يأكلوا ولا يشربوا. فقال : أجلس يا فتح ، فإن لنا بالرسل أسوة ، كانوا يأكلون ويشربون ويمشون في الأسواق ، وكل جسم متغذٍّ إلا خالق الأجسام الواحد الأحد ، منشئ الأشياء ومجسم الأجسام وهوالسميع العليم. تبارك الله عما يقول الظالمون وعلا علواً كبيراً. ثم قال : إذا شئت رحمك الله ).
٧. قال البغدادون : أقبل بيت الله الحرام
في إثبات الوصية ( ١ / ٢٣٦ ) : ( وقُدم به (عليه السلام) بغداد وخَرج إسحاق بن إبراهيم وجملة القواد فتلقوه ، فحدث أبوعبد الله محمد بن أحمد الحلبي القاضي قال : حدثني الخضر بن محمد البزاز وكان شيخاً مستوراً ثقة ، يقبله القضاة والناس قال : رأيت في المنام كأني على شاطئ دجلة بمدينة السلام في رحبة الجسر ـ والناس مجتمعون خلق كثير يزحم بعضهم بعضاً ، وهم يقولون : قد أقبل بيت الله الحرام.
فبينا نحن كذلك إذ رأيت البيت بما عليه من الستائر والديباج والقَباطي ، قد أقبل ماراً على الأرض ، يسير حتى عبر الجسر ، من الجانب الغربي الى الجانب الشرقي ، والناس يطوفون به وبين يديه حتى دخل دار خزيمة ، وهي التي آخر من ملكها بعد عبيد الله بن عبد الله بن طاهر القمي ، وأبوبكر الفتى بن أخت إسماعيل بن بلبل بدر الكبير الطولوي ، المعروف بالحمامي ، فإنه أقطعها.
فلما كان بعد أيام خرجت في حاجة ، حتى انتهيت الى الجسر ، فرأيت الناس مجتمعين وهم يقولون : قد قدم ابن الرضا من المدينة ، فرأيته قد عبر من الجسر على شهري تحته كبير ، يسير عليه المسير رفيقاً ، والناس بين يديه وخلفه ، وجاء حتى دخل دار خزيمة بن حازم ، فعلمت أنه تأويل الرؤيا التي رأيتها.
ثم خرج الى سر من رأى فتلقاه جملة من أصحاب المتوكل حتى دخل إليهم ، فأعظمه وأكرمه ومهد له. ثم انصرف عنه الى دار أعدت له وأقام بسر من رأى ).
أقول : يدلك هذا على علاقة الناس العقائدية العميقة بالإمام الهادي (عليه السلام) ، فالبزاز هذا من علماء العامة ، وقد رأى هذا المنام عن الإمام (عليه السلام).
٨. عرف الإمام (عليه السلام) ما في ضميره فاستبصر
في إثبات الوصية ( ١ / ٢٣٧ ) : ( وروى احمد بن محمد بن قابنداذ الكاتب الإسكافي قال : تقلدت ديار ربيعة وديار مضر ، فخرجت وأقمت بنصيبين ، وقلدت عمالي وأنفذتهم الى نواحي أعمالي ، وتقدمت أن يحمل اليَّ كل واحد منهم كل من يجده في عمله ممن له مذهب ، فكان يردُ علي في اليوم الواحدُ والإثنان والجماعة منهم ، فأسمع منهم وأعامل كل واحد بما يستحقه. فأنا ذات يوم جالسٌ إذ ورد كتاب عامل بكفرتوثي يذكر أنه قد وجه إليَّ برجل يقال له إدريس بن زياد ، فدعوت به فرأيته وسيماً قسيماً قبلته نفسي ، ثم ناجيته فرأيته ممطوراً ورأيته من المعرفة بالفقه والأحاديث على ما أعجبني ، فدعوته الى القول بإمامة الإثني عشر (عليه السلام) فأبى وأنكر عليَّ ذلك وخاصمني فيه!
وسألته بعد مقامه عندي أياماً أن يهب لي زَوْرَةً الى سر من رأى لينظر الى أبي الحسن (عليه السلام) وينصرف فقال لي : أنا أقضي حقك بذلك.
وشخص بعد أن حملته ، فأبطأ عني وتأخر كتابه ، ثم إنه قدم فدخل إليَّ فأول ما رآني أسبل عينيه بالبكاء ، فلما رأيته باكياً لم أتمالك حتى بكيت ، فدنا مني وقبل يدي ورجلي ثم قال : يا أعظم الناس منةً ، نجيتني من النار وأدخلتني الجنة.
وحدثني فقال لي : خرجت من عندك وعزمي إذا لقيت سيدي أبا الحسن (عليه السلام) أن أسأله من مسائل ، وكان فيما أعددته أن أسأله عن عرق الجنب ، هل يجوز الصلاة في القميص الذي أعرق فيه وأنا جنب أم لا؟ فصرت الى سر من رأى ، فلم أصل إليه وأبطأ من الركوب لعلة كانت به ، ثم سمعت الناس يتحدثون بأنه يركب ، فبادرت ففاتني ودخل دار السلطان فجلست في الشارع ، وعزمت أن لا أبرح أوينصرف. واشتد الحرُّ عليَّ فعدلت الى باب دار فيه ، فجلست أرقبه ونعست فحملتني عيني فلم أنتبه إلا بمقرعة قد وضعت على كتفي ، ففتحت عيني فإذا هومولاي أبوالحسن (عليه السلام) واقف على دابته ، فوثبت فقال لي : يا إدريس أما آن لك؟ فقلت : بلى يا سيدي. فقال : إن كان العرق من حلال فحلال ، وإن كان من حرام فحرام. من غير أن أسأله ، فقلت به وسلمت لأمره ).
أقول : قول الإمام (عليه السلام) : أما آن لك يدل على أنه رأى منه آيات قبل أن يجيبه على ما في نفسه. لكنه لم يذكرها في هذا الحديث.
٩. النصراني الكاتب مع الإمام الهادي (عليه السلام)
في الخرائج ( ١ / ٣٩٦ ) : ( عن هبة الله بن أبي منصور الموصلي ، قال : كان بديار ربيعة كاتب لنا نصراني وكان من أهل كفرتوثا ، يسمى يوسف بن يعقوب ، وكان بينه وبين والدي صداقة. قال : فوافى ونزل عند والدي فقال ما شأنك قدمت في هذا الوقت؟ قال : قد دعيتُ إلى حضرة المتوكل ، ولا أدري ما يراد مني ، إلا أني قد اشتريت نفسي من الله تعالى بمائة دينار ، قد حملتها لعلي بن محمد بن الرضا ، معي! فقال له والدي : وفقت في هذا. قال : وخرج إلى حضرة المتوكل وانصرف إلينا بعد أيام قلائل فرحاً مستبشراً ، فقال له أبي : حدثني بحديثك.
قال : سرت إلى سر من رأى وما دخلتها قط ، فنزلت في دار وقلت : يجب أن أوصل المائة دينار إلى أبي الحسن بن الرضا (عليه السلام) قبل مصيري إلى باب المتوكل ، وقبل أن يعرف أحد قدومي. قال : فعرفت أن المتوكل قد منعه من الركوب وأنه ملازم لداره ، فقلت : كيف أصنع؟ رجل نصراني يسأل عن دار ابن الرضا! لا آمن أن ينذر بي فيكون ذلك زيادة فيما أحاذره. قال : فتفكرت ساعة في ذلك ، فوقع في قلبي أن أركب حماري وأخرج من البلد ، ولا أمنعه من حيث يريد ، لعلي أقف على معرفة داره من غير أن أسأل أحداً. قال : فجعلت الدراهم في كاغدة وجعلتها في كمي ، وركبت فكان الحمار يخرق الشوارع والأسواق يمر حيث يشاء ، إلى أن صرت إلى باب دار ، فوقف الحمار ، فجهدت أن يزول فلم يزل ، فقلت للغلام : سل لمن هذه الدار؟ فقيل : هذه دار ابن الرضا (عليه السلام) فقلت : الله أكبر ، دلالة والله مقنعة!
قال : فإذا خادمٌ أسودُ قد خرج فقال : أنت يوسف بن يعقوب؟قلت : نعم. قال : إنزل فنزلت ، فأقعدني في الدهليز ودخل ، فقلت في نفسي : وهذه دلالةٌ أخرى! من أين يعرف هذا الخادم إسمي وليس في هذا البلد أحدٌ يعرفني ولادخلته قط!
قال : فخرج الخادم وقال : المائة دينار التي في كمك في الكاغذ هاتها. فناولته إياها وقلت : هذه ثالثة ، ثم رجع إليَّ وقال : أدخل ، فدخلت إليه وهو في مجلسه وحده ، فقال : يا يوسف أما بَانَ لك؟ فقلت : يا مولاي ، قد بان من البراهين ما فيه كفاية لمن اكتفى. فقال : هيهات هيهات ، أما إنك لا تسلم ، ولكن سيسلم ولدك فلان وهو من شيعتنا. يا يوسف ، إن أقواماً يزعمون أن ولايتنا لا تنفع أمثالك. كذبوا والله ، إنها لتنفع أمثالك ، إمض فيما وافيت فإنك سترى ما تحب!
قال : فمضيت إلى باب المتوكل ، فنِلت كلما أردت ، وانصرفت.
قال هبة الله : فلقيت ابنه بعد هذا وهومسلم حسن التشيع ، فأخبرني أن أباه مات على النصرانية ، وأنه أسلم بعد موت والده وكان يقول : أنا بشارة مولاي (عليه السلام) ).
ملاحظات
١. هذا المسيحي من الموصل من كفرتوثا ، وهي قرب رأس عين على الحدود العراقية السورية. وكان شخصية لأن المتوكل طلب حضوره للتحقق من قضية أو لتكليفه بأمر مهم. وكان يعرف إمامة أهل البيت وخصائص الإمام (عليه السلام) وينذر له ، ويعتقد أنه بنذره يؤمِّن نفسه من خطر المتوكل. وهذا من مؤشرات انتشار التشيع في بقاع العالم الإسلامي ، وقد ورد أن أحد العمال الشيعة هناك دعا شخصاً الى التشيع ، وأرسله ليرى الإمام الهادي (عليه السلام) فرآه واستبصر.
٢. لاحظ أن المتوكل كان منع الإمام الهادي (عليه السلام) من الركوب ، أي الخروج من سامراء والمشاركة في مناسباتها الإجتماعية ، فهويخاف أن ( يفتن ) به الناس!
٣. يظهر أن يعقوب بن يوسف كان يخاف من المتوكل إن هو أسلم وأعلن تشيعه. ومع ذلك بشره الإمام (عليه السلام) بأن إليمانه به نوع من الولاية وأنه ينفعه : إنها لتنفع أمثالك. ثم بشره بأنه يرزق ولداً يكون مؤمناً ، فكان كما أخبر (عليه السلام).
وفي الحديث دليل على أن ولاية أهل البيت (عليه السلام) قد توجد بدرجة ما في غير المسلم وأنها تنفعهم في الآخرة.
١٠. طبيب نصراني يسلم على يد الإمام (عليه السلام)
قال الطبري الشيعي في دلائل الإمامة / ٤١٩ : ( وحدثني أبوعبد الله القمي ، قال : حدثني ابن عياش ، قال : حدثني أبوالحسين محمد بن إسماعيل بن أحمد الفهقلي الكاتب بسر من رأى سنة ثمان وثلاثين وثلاث مائة ، قال : حدثني أبي قال : كنت بسر من رأى أسير في درب الحصاء فرأيت يزداد النصراني تلميذ بختيشوع وهومنصرف من دار موسى بن بغا ، فسايرني وأفضى بنا الحديث إلى أن قال لي : أترى هذا الجدار ، تدري من صاحبه؟ قلت : ومن صاحبه؟ قال : هذا الفتى العلوي الحجازي ، يعني علي بن محمد بن الرضا (عليه السلام) وكنا نسير في فناء داره ، قلت ليزداد : نعم ، فما شأنه؟ قال : إن كان مخلوق يعلم الغيب فهو!
قلت : وكيف ذلك؟ قال : أخبرك عنه بأعجوبة لن تسمع بمثلها أبداً ، ولا غيرك من الناس ، ولكن لي الله عليك كفيلٌ وراعٍ أنك لا تحدث به عني أحداً ، فإني رجل طبيب ولي معيشة أرعاها عند هذا السلطان ، وبلغني أن الخليفة استقدمه من الحجاز فَرَقاً منه ، لئلا ينصرف إليه وجوه الناس ، فيخرج هذا الأمر عنهم ، يعني بني العباس.
قلت : لك علي ذلك ، فحدثني به وليس عليك بأس ، إنما أنت رجل نصراني ، لا يتهمك أحد فيما تحدث به عن هؤلاء القوم ، وقد ضمنت لك الكتمان.
قال : نعم ، أعلمك أني لقيته منذ أيام وهوعلى فرس أدهم ، وعليه ثياب سود ، وعمامة سوداء ، وهوأسود اللون ، فلما بصرت به وقفت إعظاماً له ، لا وحق المسيح ما خرجت من فمي إلى أحد من الناس وقلت في نفسي : ثياب سودٌ ، ودابةٌ سوداء ورجلٌ أسود ( كان (عليه السلام) شديد السمرة ) سواد في سواد في سواد! فلما بلغ إلي وأحدَّ النظر قال : قلبك أسود مما ترى عيناك من سواد في سواد في سواد! قال أبي (رحمه الله) : قلت له : أجل فلا تحدث به أحداً ، فما صنعتَ وما قلت له؟ قال : سقط في يدي فلم أجد جواباً. قلت له : أفما ابيض قلبك لما شاهدت؟
قال : الله أعلم. قال أبي : فلما اعتل يزداد بعث إليَّ فحضرت عنده فقال : إن قلبي قد ابيض بعد سواده ، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، وأن علي بن محمد حجة الله على خلقه وناموسه الأعظم ، ثم مات في مرضه ذلك ، وحضرت الصلاة عليه (رحمه الله) ).
١١. عزم المتوكل على قتل علي بن جعفر
روى الكشي ( ١ / ٦٠٧ ) : ( عن علي بن جعفر قال : عُرض أمري على المتوكل ، فأقبل على عبيد الله بن يحيى بن خاقان فقال له : لا تُتعبن نفسك بعرض قصة هذا وأشباهه ، فإن عمه أخبرني أنه رافضي ، وأنه وكيل علي بن محمد! وحلف أن لا يخرج من الحبس إلا بعد موته! فكتبت إلى مولانا : أن نفسي قد ضاقت ، وأني أخاف الزيغ! فكتب إلي : أما إذا بلغ الأمر منك ما أرى فسأقصد الله فيك! فما عادت الجمعة حتى أخرجت من السجن.
وفي رواية ثانية : كان عليّ بن جعفر وكيلاً لأبي الحسن (عليه السلام) فسعيَ به إلى المتوكل فحبسه فطال حبسه ، واحتال من قبل عبيد الله بن خاقان بمال ضمنه عنه ثلاثة آلاف دينار ، وكلمه عبيد الله فعرض جامعهُ على المتوكل فقال : يا عبيد الله لوشككت فيك لقلت إنك رافضي ، هذا وكيل فلان وأنا على قتله.
قال : فتأدّى الخبر إلى علي بن جعفر ، فكتب إلى أبي الحسن (عليه السلام) : يا سيدي اللهَ اللهَ فيَّ فقد والله خفتُ أن أرتاب ، فوقَّع (عليه السلام) في رقعته : أما إذا بلغ بك الأمر ما أرى فسأقصد الله فيك. وكان هذا في ليلة الجمعة ، فأصبح المتوكل محموماً فازدادت علته حتى صُرخ عليه يوم الإثنين ، فأمر بتخلية كل محبوس عُرض عليه إسمه حتى ذكر هوعلي بن جعفر فقال لعبيد الله : لِمَ لم تعرض عليَّ أمره؟فقال : لا أعود إلى ذكره أبداً. قال : خل سبيله الساعة ، وسله أن يجعلني في حل ، فخلى سبيله وصار إلى مكة بأمر أبي الحسن (عليه السلام) فجاور بها ، وبرأ المتوكل من علته ).
١٢. قصة زينب الكذابة
روى في الخرائج ( ١ / ٤٠٤ ) عن أبي هاشم الجعفري قال : ( ظهرت في أيام المتوكل امرأة تدعي أنها زينب بنت فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه و اله)! فقال لها المتوكل : أنت امرأة شابة ، وقد مضى من وقت وفاة رسول الله (صلى الله عليه و اله) ما مضى من السنين. فقالت : إن رسول الله (صلى الله عليه و اله) مسح على رأسي وسأل الله أن يرد علي شبابي في كل أربعين سنة ، ولم أظهر للناس إلى هذه الغاية ، فلحقتني الحاجة فصرت إليهم.
فدعا المتوكل كل مشايخ آل أبي طالب ، وولد العباس وقريش فعرفهم حالها. فروى جماعة وفاة زينب في سنة كذا ، فقال لها : ما تقولين في هذه الرواية؟ فقالت : كذب وزور ، فإن أمري كان مستوراً عن الناس ، فلم يعرف لي حياة ولا موت. فقال لهم المتوكل : هل عندكم حجة على هذه المرأة غير هذه الرواية؟ قالوا : لا. قال : أنا برئ من العباس إن لا أنزلها عما ادعت إلا بحجة تلزمها. قالوا : فأحضر ابن الرضا فلعل عنده شيئاً من الحجة غير ما عندنا.
فبعث إليه فحضر فأخبره خبر المرأة فقال : كذبت فإن زينب توفيت في سنة كذا في شهر كذا في يوم كذا. قال : فإن هؤلاء قد رووا مثل هذه الرواية وقد حلفت أن لا أنزلها عما ادعت إلا بحجة تلزمها. قال : ولا عليك فهاهنا حجة تلزمها وتلزم غيرها. قال : وما هي؟ قال : لحوم ولد فاطمة (عليه السلام) محرمة على السباع ، فأنزلها إلى السباع فإن كانت من ولد فاطمة فلا تضرها.
فقال لها : ما تقولين؟ قالت : إنه يريد قتلي. قال : فهاهنا جماعة من ولد الحسن والحسين فأنزل من شئت منهم.
قال : فوالله لقد تغيرت وجوه الجميع! فقال بعض المتعصبين : هويحيل على غيره لم لا يكون هو؟ فمال المتوكل إلى ذلك رجاء أن يذهب من غير أن يكون له في أمره صنع. فقال : يا أبا الحسن لم لا يكون أنت ذلك؟ قال : ذاك إليك.
قال : فافعل ، قال : أفعل إن شاء الله. فأتى بسلم وفتح عن السباع وكانت ستة من الأسد. فنزل أبوالحسن (عليه السلام) إليها ، فلما دخل وجلس صارت إليه ، ورمت بأنفسها بين يديه ، ومدت بأيديها ، ووضعت رؤوسها بين يديه!
فجعل يمسح على رأس كل واحد منها بيده ، ثم يشير له بيده إلى الإعتزال فيعتزل ناحية ، حتى اعتزلت كلها وقامت بإزائه.
فقال له الوزير : ما كان هذا صواباً ، فبادر بإخراجه من هناك قبل أن ينتشر ـ خبره. فقال له : أبا الحسن ما أردنا بك سوءً ، وإنما أردنا أن نكون على يقين مما قلت ، فأحب أن تصعد. فقام وصار إلى السلم وهي حوله تتمسح بثيابه ، فلما وضع رجله على أول درجة التفت إليها وأشار بيده أن ترجع. فرجعت وصعد فقال : كل من زعم أنه من ولد فاطمة فليجلس في ذلك المجلس.
فقال لها المتوكل : إنزلي. قالت : اللهَ الله ادعيتُ الباطل ، وأنا بنت فلان ، حملني الضر ـ على ما قلت! فقال المتوكل : ألقوها إلى السباع ، فبعثت والدته واستوهبتها منه ، وأحسنت إليها ).
١٣. بستان الآس
كان المتوكل يسمي ابنه المنتصر الرافضي لأنه يتشيع ويسخر منه! قال المنتصر : ( زرع والدي الآس في بستان وأكثر منه ، فلما استوى الآس كُلُّهُ وحَسُن ، أمَرَ الفرَّاشين أن يفرشوا له على دكان في وسط البستان ، وأنا قائم على رأسه ، فرفع رأسه إليَّ وقال : يا رافضي سل ربك الأسود عن هذا الأصل الأصفر ماله من بين ما بقي من هذا البستان قد اصفرَّ ، فإنك تزعم أنه يعلم الغيب! فقلت : يا أمير المؤمنين إنه ليس يعلم الغيب ، فأصبحت إلى أبي الحسن من الغد وأخبرته بالأمر فقال : يابني ، إمض أنت واحفر الأصل الأصفر ، فإن تحته جمجمة نخرة ، واصفراره لبخارها ونتنها! قال ففعلت ذلك فوجدته كما قال ، ثم قال لي : يا بني لاتخبرن أحداً بهذا الأمر إلا لمن يحدثك بمثله ) 5.
فقد وصفه المتوكل بالرافضي ، واتهمه بأنه يعبد إمامه (عليه السلام) ووصف سمرة الإمام (عليه السلام) بالسواد سخريةً منه. أما الجمجمة فقد تكون لأحد ندمائه الذين قتلهم!
١٤. معرفة الإمام (عليه السلام) باللغات
( عن أبي هاشم الجعفري ، قال : كنت بالمدينة حين مرَّ بنا بَغَا أيام الواثق ، في طلب الأعراب ، فقال أبوالحسن : أخرجوا بنا حتى ننظر إلى تعبئة هذا التركي ، فخرجنا فوقفنا ، فمرت بنا تعبئته فمر بنا تركي ، فكلمه أبوالحسن (عليه السلام) بالتركي فنزل عن فرسه فقبل حافر فرس الإمام (عليه السلام)! فَحَلَّفْتُ التركي فقلت له : ما قال لك الرجل؟ قال : هذا نبي؟! قلت : ليس هو بنبي. قال : دعاني باسم سميت به في صغري في بلاد الترك ما علمه أحد إلى الساعة ) 6.
( عن علي بن مهزيار قال : أرسلت إلى أبي الحسن الثالث (عليه السلام) غلامي وكان صقلابياً فرجع الغلام إلي متعجباً ، فقلت له : ما لك يا بني؟ قال : وكيف لا أتعجب! ما زال يكلمني بالصقلابية كأنه واحد منا ) 7!
١٥. لسنا في خان الصعاليك
( عن صالح بن سعيد ، قال : دخلت على أبي الحسن (عليه السلام) فقلت : جعلت فداك ، في كل الأمور أرادوا إطفاء نورك والتقصير بك ، حتى أنزلوك هذا الخان الأشنع خان الصعاليك ، فقال : هاهنا أنت يا ابن سعيد ، ثم أومأ بيده فقال : أنظر ، فنظرت ، فإذا بروضات آنفات ، وروضات ناظرات ، فيهن خيرات عطرات ، وولدان كأنهن اللؤلؤ المكنون ، وأطيار وظباء ، وأنهار تفور ، فحار بصري وحسرت عيني ، فقال : حيث كنا فهذا لنا عتيد ، ولسنا في خان الصعاليك ).
١٦. برذون أبي هاشم الجعفري
( عن أبي الهيثم عبد الله بن عبد الرحمن الصالحي ، قال : إن أبا هاشم الجعفري شكا إلى مولانا أبي الحسن (عليه السلام) ما يلقى من الشوق إليه إذا انحدر من عندنا إلى بغداد ، فقال له : ادع الله تعالى يا سيدي ، فإني لا أستطيع ركوب الماء خوف الإصعاد والإبطاء عنك ، فسرت إليك على الظهر ومالي مركوب سوى برذوني هذا على ضعفه ، فادع الله تعالى أن يقويني على زيارتك على وجه الأرض ، فقال : قواك الله يا أبا هاشم وقوى برذونك. قال : فكان أبوهاشم يصلي الفجر ببغداد ويسير على البرذون ، فيدرك الزوال من يومه ذلك في عسكر سر من رأى ، ويعود من يومه إلى بغداد إذا سار على ذلك البرذون ، وكان هذا من أعجب الدلائل التي شوهدت ).
أقول : المسافة بين بغدا وسامرء نحو مئة كيلو متر ، ومعناه أن بغل أبي هاشم كان يقطعها في أربع ساعات أو خمس ، وأن الله تعالى استجاب دعاء الإمام (عليه السلام) بتقوية البغل ، أو طيِّ الأرض إذا ركبه أبو هاشم. فكان يتحرك من بغداد صباحاً ويزور الإمام (عليه السلام) ويبقى الى العصر ، ويعود الى بغداد في نفس اليوم.
١٧. المتوكل يستعين بمشعوذ
( عن زرافة حاجب المتوكل ، قال : وقع رجل مشعبذ من ناحية الهند إلى المتوكل يلعب لعب الحقة ولم ير مثله ، وكان المتوكل لعاباً ، فأراد أن يُخجل علي بن محمد الرضا (عليه السلام) ، فقال لذلك الرجل : إن أخجلته أعطيتك ألف دينار.
قال : تقدم بأن يخبز رقاقاً خفافاً واجعلها على المائدة وأقعدني إلى جنبه ، فقعدوا وأحضر علي بن محمد (عليه السلام) للطعام ، وجعل له مسورة عن يساره ، وكان عليها صورة أسد ، وجلس اللاعب إلى جنب المسورة ، فمد علي بن محمد (عليه السلام) يده إلى رقاقة فطيرها ذلك الرجل في الهواء ومد يده إلى أخرى ، فطيرها ذلك الرجل ، ومد يده إلى أخرى فطيرها فتضاحك الجميع ، فضرب علي بن محمد (عليه السلام) يده المباركة الشريفة على تلك الصورة التي في المسورة وقال : خذيه. فابتلعت الرجل وعادت كما كانت إلى المسورة. فتحير الجميع ونهض أبوالحسن علي بن محمد ، فقال له المتوكل : سألتك إلا جلست ورددته. فقال : والله لا تراه بعدها ، أتسلط أعداء الله على أولياء الله! وخرج من عنده ، فلم يُرَ الرجل بعد ذلك ) 8.
وفي رواية أنه قال للمتوكل : ( إن كانت عصا موسى ردت ما ابتلعته من حبال القوم وعصيهم ، فإن هذه الصورة ترد ما ابتلعته من هذا الرجل )!
ويظهر أن هذا النوع من الشعبذة كان معروفاً في الهند والعراق مما ورثه البابليون عن هاروت وماروت ، فقد استعمله المنصور مع الصادق (عليه السلام) والرشيد مع الكاظم (عليه السلام) 9.
١٨. وعُلِّمْنَا منطقَ الطير
في الخرائج ( ١ / ٤٠٤ ) : ( قال أبوهاشم الجعفري : إنه كان للمتوكل مجلس بشبابيك كيما تدور الشمس في حيطانه ، قد جعل فيها الطيور التي تصوت ، فإذا كان يوم السلام جلس في ذلك المجلس فلا يَسمع ما يقال له ، ولا يُسمع ما يقول من اختلاف أصوات تلك الطيور ، فإذا وافاه علي بن محمد بن الرضا (عليه السلام) سكتت الطيور فلا يُسمع منها صوتٌ واحد إلى أن يخرج من عنده ، فإذا خرج من باب المجلس عادت الطيور في أصواتها.
قال : وكان عنده عدة من القوابج في الحيطان ، وكان يجلس في مجلس له عالٍ ويرسل تلك القوابج تقتتل وهوينظر إليها ويضحك منها ، فإذا وافى علي بن محمد (عليه السلام) إليه في ذلك المجلس ، لصقت تلك القوابج بالحيطان ، فلا تتحرك من مواضعها حتى ينصرف ، فإذا انصرف عادت في القتال ).
١٩. إخباره (عليه السلام) بأجله
في الهداية الكبرى / ٣٤٢ : ( عن أحمد بن داود القمي ، ومحمد بن عبد الله الطلحي ، قالا : حملنا ما جمعنا من خمس ونذور وبر من غير ورق وحلي وجوهر وثياب من بلاد قم وما يليها ، وخرجنا نريد سيدنا أبا محمد الحسن (عليه السلام) فلما وصلنا إلى دسكرة الملك تلقانا رجلٌ راكبٌ على جمل ، ونحن في قافلة عظيمة فقصد إلينا وقال : يا أحمد الطلحي معي رسالة إليكم ، فقلنا من أين يرحمك الله ، فقال : من سيدكم أبي محمد الحسن (عليه السلام) يقول لكم : أنا راحل إلى الله مولاي في هذه الليلة فأقيموا مكانكم حتى يأتيكم أمر ابني محمد ، فخشعت قلوبنا وبكت عيوننا وقرحت أجفاننا لذلك ، ولم نظهره. وتركنا المسير.
واستأجرنا بدسكرة الملك منزلاً وأخذنا ما حملنا إليه ، وأصبحنا والخبر شائع بالدسكرة بوفاة مولانا أبي محمد الحسن (عليه السلام) ، فقلنا لا إله إلا الله ترى الرسول الذي أتانا بالرسالة أشاع الخبر في الناس ، فلما تعالى النهار رأينا قوماً من الشيعة على أشد قلق لما نحن فيه ، فأخفينا أمر الرسالة ولم نظهره ، فلما جَن علينا الليل جلسنا بلا ضوء حزناً على سيدنا الحسن (عليه السلام) ، نبكي ونشكي إلى فقده ، فإذا نحن بيدٍ قد دخلت علينا من الباب فضاءت كما يضئ المصباح وهي تقول : يا أحمد هذا التوقيع إعمل به وبما فيه ، فقمنا على أقدامنا وأخذنا التوقيع فإذا فيه :
بسم الله الرحمن الرحيم : من الحسن المسكين لله رب العالمين ، إلى شيعته المساكين : أما بعد ، فالحمد لله على ما نزل منه ونشكره إليكم جميل الصبر عليه ، وهوحسبنا في أنفسنا وفيكم ، ونعم الوكيل ، ردوا ما معكم ليس هذا أوان وصوله إلينا ، فإن هذا الطاغي قد دنت غشيته إلينا ، ولوشئنا ما ضركم ، وأمرنا يرد عليكم ، ومعكم صرة فيها سبعة عشر ديناراً في خرقة حمراء ، إلى أيوب بن سليمان ، الآن فردوها فإنه حملها ممتحناً لنا بها بما فعله ، وهوممن وقف عند جدي موسى بن جعفر (عليه السلام) فردوا صرته عليه ، ولا تخبروه!
فرجعنا إلى قم ، فأقمنا بها سبع ليال ، ثم جاءنا أمر ابنه : قد بعثنا إليكم إبلاً غير إبلكم ، إحملا ما قِبَلَكُما عليها واخليا لها السبيل ، فإنها واصلةٌ إليَّ! وكانت الإبل بغير قائد ولا سائق ، على وجه الأول منها بهذا الشرح ، وهومثل الخط الذي بالتوقيع التي أوصلته إلى الدسكرة ، فحملنا ما عندنا واستودعناه وأطلقناهم ، فلما كان من قابل خرجنا نريده (عليه السلام) فلما وصلنا إلى سامرا دخلنا عليه فقال لنا : يا أحمد ومحمد ، أدخلا من الباب الذي بجانب الدار ، وانظرا ما حملتماه على الإبل ، فلا تفقدا منه شيئاً. فدخلنا من الباب فإذا نحن بالمتاع كما وعيناه وشددناه لم يتغير ، فحللناه كما أمرنا وعرضنا جمعه ، فما فقدنا منه شيئاً ، فوجدنا الصرة الحمراء والدنانير فيها بختمها ، وكنا قد رددناها على أيوب ، فقلنا : إنا لله وإنا إليه راجعون ، فقلنا : إنها من سيدنا ، فصاح بنا من مجلسه : فما لكما بدت لكما سؤاتكما! فسمعنا الصوت فأتينا إليه فقال : من أيوب ، وقتَ وردت الصرة عليه فقبل الله إيمانه وقبل هديته ، فحمدنا الله وشكرناه على ذلك ، فكان هذا من دلائله (عليه السلام) )10 .
- 1. a. b. إثبات الوصية / ٢٣٤.
- 2. القران الكريم: سورة الأعراف (7)، الآية: 168، الصفحة: 172.
- 3. تفسير ابن أبي حاتم : ٥ / ١٦٠٥.
- 4. كمال الدين : ٢ / ٣٤٥.
- 5. الثاقب في المناقب / ٥٣٨.
- 6. الثاقب في المناقب لابن حمزة / ٥٣٩.
- 7. الإختصاص للمفيد / ٢٨٩.
- 8. الثاقب ٤٩٩.
- 9. راجع : الإمام الكاظم سيد بغداد / ٢١٢.
- 10. الامام الهادي (عليه السلام) عمر حافل بالجهاد و المعجزات، الشيخ علي الكوراني العاملي، سنة 1434 الهجرية، الفصل الرابع عشر.