۱ ـ شريط سيرة الإمام الكاظم عليه السلام
۱. أبوه الإمام جعفر الصادق عليه السلام سادس أئمة أهل البيت عليهم السلام ، وأستاذ أئمة المذاهب الإسلامية . وأمه حميدة المُصَفَّاة البربرية ، ويبدو أنها كانت سمراء فانتقلت منها السمرة الى الإمام عليه السلام .
۲. في الخامسة من عمره الشريف أجلسه والده الإمام الصادق عليه السلام ، فتحدث لأحبار اليهود عن معجزات النبي صلّى الله عليه وآله ، وسيأتي ذلك في أواخر الكتاب .
۳. كان صبياً فسأله أبو حنيفة عن الجبر والإختيار ، فأجابه جواباً علمياً مقنعاً .
٤. عرَّفه الإمام الصادق عليه السلام الى أصحابه في حياته ، وأنه الإمام بعده .
٥. في العشرين من عمره استشهد أبوه الإمام الصادق عليه السلام واستقل بالإمامة وعاش بعد أبيه خمساً وثلاثين سنة ، الى أن استشهد سنة ۱۸۳ في سجن هارون .
٦. في الحادية وعشرين من عمره كان في العراق وجاء الى الحج ، فرآه شقيق البلخي سنة ۱٤۹ ، وربما كان المنصور أحضره الى العراق ، أو كان في زيارة الى المؤمنين بالكوفة ، أو في زيارة قبر جده أمير المؤمنين وجده الحسين عليهم السلام .
۷. عاصر المنصور العباسي وجلس مكانه مرة لاستقبال المهنئين بعيد النوروز .
۸. عاصر حكم المهدي بن المنصور عشر سنوات ، وأحضره مرة الى بغداد ليسأله عن قوم ثمود ومدائن صالح ، ثم حبسه ، فرأى مناماً مرعباً فأطلقه .
۹. عاصر موسى الهادي ، وفي عهده كانت ثورة صاحب فخ واتهم الخليفة الإمام عليه السلام بأنه هو الآمر بالثورة ، وقرر قتله ، لكنه أمه الخيزران قتلته قبل ذلك .
۱۰. عاصر هارون المسمى بالرشيد ثلاث عشرة سنة ، وكتب الى الخيزران يعزيها بموت ولدها المهدي ، ويهنيها بحكم ولدها هارون !
۱۱. أحضره هارون الى بغداد في سنة توليه الخلافة ، وقد يكون فرض عليه الإقامة الجبرية فيها ، ثم حبسه فرأى آياته وأطلقه وأعطاه ثلاثين ألف درهم .
۱۲. حبسه هارون في سنة ۱۷۹ في سجن البصرة لمدة سنة ، ثم نقله الى بغداد وأبقاه أربع سنوات في الإقامة الجبرية والسجون ، الى أن قتله بالسم سنة ۱۸۳ .
۱۳. وردت الرواية بأنه كان في الشام فترة ، والتقى ببعض علماء النصارى ، ولعله كان غيَّب نفسه في زمن المنصور أو المهدي العباسي قبل أن يحبسه .
۱٤. عاش في بغداد فترات في وضع الإقامة الجبرية ، وكان له مجالس مع هارون ووزرائه وغيرهم ، وفي هذه المدة رأى بشراً الحافي ، وقد وصفت الرواية بيته المتواضع الذي كان يعيش فيه في بغداد ، وهو يختلف عن بيته في المدينة .
۱٥. روت المصادر له عليه السلام عدة أحاديث ومناظرات مع هارون الرشيد ، كانت في فترات إحضاره وحبسه وإقامته الجبرية .
۱٦. قيل إنه عليه السلام حبس في واسط سنة ، ولم نجد ذلك في المصادر التي بأيدينا .
۱۷. أبرز برنامج في حياة الإمام عليه السلام العبادة وسجوداته الطويلة ، وكان يشكر ربه في السجن على أنه فرغه لعبادته .
۱۸. روي عنه الكثير من العلم ، من ذلك مسائل علي بن جعفر ، وكتاب الحلال والحرام ، ورسالة في العقل لهشام بن الحكم . ومئات الروايات في مسائل من عقائد الإسلام وأحكامه . وكل أحاديث متميزة كأحاديث آبائه الأئمة عليهم السلام .
۱۹. كان يدير شيعته في العالم ، وفيهم شخصيات كبيرة كعلي بن يقطين وزير المهدي وهارون ، والحسن بن راشد ، وجعفر بن محمد بن الأشعث من وزراء هارون أيضاً ، وهشام بن الحكم ، ومحمد بن أبي عمير ، من كبار الشخصيات .
وكان يحترمه كبار علماء عصره من السنة ويرجعون اليه أحياناً . وكان الطالبيون يحترمونه ويقدسونه ، حتى أن الخليفة المهدي كان يعتقد أنه كان وراء ثورة فخ .
۲۰. تميزت حياته بكثرة المعجزات من صغره عليه السلام ، وأكثرها إخبار بمغيبات عن أشخاص وأحداث ، فكانت تقع كما أخبر عليه السلام ، وكان يجاهر بذلك ويخبر هارون ووزيره يحيى بن خالد وغيرهم ، وفي آخر سجن له زاره يحيى البرمكي فقال له : « أبلغه عني يقول لك موسى بن جعفر : رسولي يأتيك يوم الجمعة فيخبرك بما ترى ، وستعلم غداً إذا جاثيتك بين يدي الله من الظالم والمعتدي على صاحبه والسلام ! فخرج يحيى من عنده واحمرت عيناه من البكاء حتى دخل على هارون فأخبره بقصته ومارد عليه ، فقال هارون : إن لم يدع النبوة بعد أيام فما أحسن حالنا ! فلما كان يوم الجمعة توفي عليه السلام » . ( الغيبة للطوسي / ۲٤ ) .
۲۱. ما أن دفن الإمام عليه السلام حتى صار قبره الشريف مزاراً ومشهداً ، وتوافد أولياؤه من الشيعة وكذلك كبار علماء السنة وأئمة المذاهب ، لزيارته والصلاة عنده والتوسل به الى الله تعالى ، وعرف عليه السلام بعد وفاته باسم : باب الحوائج .
۲ ـ اعتقاد أئمة المذاهب بالإمام الكاظم عليه السلام
أجمع كبار أئمة السنة وعلمائهم على تعظيم الإمام الكاظم عليه السلام وتقديسه ، وترجموا له في كتبهم ، وزاروا قبره للتبرك والتوسل به الى الله تعالى .
وقد اشتهر عن الإمام الشافعي أنه كان يزور قبر الإمام الكاظم عليه السلام ويقول : « قبر موسى الكاظم ترياقٌ مجرب لإجابة الدعاء » ( كرامات الأولياء للسجاعي / ٦ ، والرسالة القشيرية لابن هوازن / ۱۰ ، والفجر الصادق للزهاوي / ۸۹ ، وسيوف الله للقادري الحبيبي / ۸۳ ، والبصائر / ٤۲ لحمد الله الداجوي الحنفي ) .
وروى الخطيب البغدادي في تاريخه : ۱ / ۱۳۳ ، عن إمام الحنابلة في عصره الحسن بن إبراهيم أبا علي الخلال يقول : « ما همني أمر فقصدت قبر موسى بن جعفر فتوسلت به ، إلا سهل الله تعالى لي ما أحب » !
وقال ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة : ۲ / ۹۳۲ : « وهو المعروف عند أهل العراق بباب الحوائج إلى الله ، وذلك لنجح قضاء حوائج المسلمين ، ونيل مطالبهم وبلوغ مآربهم وحصول مقاصدهم » .
وقال السيد الميلاني في شرح منهاج الكرامة : ۱ / ۱۷۰ : « وقال القرماني : هو الإمام الكبير الأوحد الحجة ، الساهر ليله قائماً القاطع نهاره صائماً ، المسمى لفرط حلمه وتجاوزه عن المعتدين كاظماً ، وهو المعروف بباب الحوائج ، لأنه ما خاب المتوسل به في قضاء حاجته قط .
وقال ابن حجر المكي : هو وارث أبيه علماً ومعرفةً وكمالاً وفضلاً ، سمي الكاظم لكثرة تجاوزه وحلمه ، وكان معروفاً عند أهل العراق بباب قضاء الحوائج عند الله ، وكان أعبد أهل زمانه ، وأعلمهم وأسخاهم .
وقال ابن الجوزي : موسى بن جعفر ، كان يدعى العبد الصالح ، وكان حليماً كريماً ، إذا بلغه عن رجل ما يؤذيه بعث إليه بمال » .
وفي مناقب آل أبي طالب : ۳ / ٤۲۲ : « وحكي أنه مُغص بعض الخلفاء فعجز بختيشوع النصراني عن دوائه ، وأخذ جليداً فأذابه بدواء ، ثم أخذ ماء وعقده بدواء ، وقال : هذا الطب ، إلا أن يكون مستجاب دعاء ذا منزلة عند الله يدعو لك !
فقال الخليفة : عليَّ بموسى بن جعفر ، فأتيَ به فسمع في الطريق أنينه فدعا الله سبحانه وزال مغص الخليفة ، فقال له : بحق جدك المصطفى أن تقول بمَ دعوت لي ؟ فقال عليه السلام : قلتُ : اللهم كما أريته ذل معصيته ، فأره عز طاعتي » !
۳ ـ مقتطف من تراجم أئمة علماء السنة للإمام الكاظم عليه السلام
۱ ـ قال الذهبي في سير أعلام النبلاء : ٦ / ۲٦۸ : « موسى الكاظم ، الإمام ، القدوة ، السيد أبو الحسن العلوي ، والد الإمام علي بن موسى الرضى مدني نزل بغداد .
ذكره أبو حاتم فقال : ثقة صدوق ، إمام من أئمة المسلمين . قلت له عند الترمذي وابن ماجة حديثان . قيل : إنه ولد سنة ثمان وعشرين ومئة بالمدينة . قال الخطيب : أقدمه المهدي بغداد ورده ، ثم قدمها وأقام ببغداد في أيام الرشيد ، قدم في صحبة الرشيد سنة تسع وسبعين ومئة ، وحبسه بها إلى أن توفي في محبسه .
ثم قال الخطيب : كان موسى بن جعفر يدعى العبد الصالح من عبادته واجتهاده . روى أصحابنا أنه دخل مسجد رسول الله (ص) فسجد سجدة في أول الليل ، فسمع وهو يقول في سجوده : عظم الذنب عندي فليحسن العفو من عندك ، يا أهل التقوى ، ويا أهل المغفرة . فجعل يرددها حتى أصبح .
وكان سخياً كريماً ، يبلغه عن الرجل أنه يؤذيه فيبعث إليه بصرة فيها ألف دينار . وكان يصر الصرر بثلاث مئة دينار وأربع مئة ومئتين ثم يقسمها بالمدينة ، فمن جاءته صرة استغنى .
ثم قال يحيى : وذكر لي غير واحد أن رجلاً من آل عمر كان بالمدينة يؤذيه ويشتم علياً ، وكان قد قال له بعض حاشيته : دعنا نقتله فنهاهم وزجرهم .
وذكر له أن العمري يزدرع بأرض ، فركب إليه في مزرعته فوجده ، فدخل بحماره فصاح العمري لا توطئ زرعنا ، فوطئ بالحمار حتى وصل إليه فنزل عنده وضاحكه . وقال : كم غرمت في زرعك هذا ؟ قال : مئة دينار ، قال : فكم ترجو ؟ قال : لا أعلم الغيب وأرجو أن يجبيئني مئتا دينار ، فأعطاه ثلاث مئة دينار وقال : هذا زرعك على حاله . فقام العمري فقبل رأسه وقال : الله أعلم حيث يجعل رسالته ! وجعل يدعو له كل وقت .
فقال أبو الحسن لخاصته الذين أرادوا قتل العمري : أيما هو خير ما أردتم أو ما أردت أن أصلح أمره بهذا المقدار ؟ قلت : إن صحت فهذا غاية الحلم والسماحة !
قال أبو عبد الله المحاملي … عيسى بن محمد بن مغيث القرشي ، وبلغ تسعين سنة ، قال : زرعت بطيخاً وقثاء وقرعا بالجوانية ، فلما قرب الخير ، بيتني الجراد ، فأتى على الزرع كله . وكنت غرمت عليه وفي ثمن جملين مئة وعشرين ديناراً . فبينما أنا جالس طلع موسى بن جعفر فسلم ثم قال : أيش حالك ؟ فقلت : أصبحت كالصريم . قال : وكم غرمت فيه ؟ قلت : مئة وعشرين ديناراً مع ثمن الجملين . وقلت : يا مبارك ، ادخل وادع لي فيها ، فدخل ودعا ، وحدثني عن النبي (ص) أنه قال : تمسكوا ببقايا المصائب ، ثم علقت عليه الجملين وسقيته فجعل الله فيها البركة وزكت فبعت منها بعشرة آلاف !
الصولي : حدثنا عون بن محمد ، سمعت إسحاق الموصلي غير مرة يقول : حدثني الفضل بن الربيع ، عن أبيه قال : لما حبس المهدي موسى بن جعفر رأى في النوم علياً يقول : يا محمد : فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ؟ قال الربيع : فأرسل إلى ليلاً فراعني ، فجئته فإذا هو يقرأ هذه الآية وكان أحسن الناس صوتاً ، وقال : عليَّ بموسى بن جعفر فجئته به فعانقه وأجلسه إلى جنبه وقال : يا أبا الحسن : إني رأيت أمير المؤمنين يقرأ علي كذا ، فتؤمني أن تخرج علي أو على أحد من ولدي ؟ فقال : لا والله لا فعلت ذلك ، ولا هو من شأني . قال : صدقت . يا ربيع أعطه ثلاثة آلاف دينار ، ورده إلى أهله إلى المدينة . فأحكمت أمره ليلاً ، فما أصبح إلا وهو في الطريق خوف العوائق !
وقال الخطيب : حج الرشيد فأتى قبر النبي (ص) ومعه موسى بن جعفر فقال : السلام عليك يا رسول الله يا ابن عم ، افتخاراً على من حوله فدنا موسى وقال : السلام عليك يا أبهْ ، فتغير وجه هارون ، وقال : هذا الفخر يا أبا الحسن حقاً ! قال يحيى بن الحسن العلوي حدثني عمار بن أبان قال : حبس موسى بن جعفر عند السندي بن شاهك فسألته أخته أن تولى حبسه وكانت تَدَيَّن ، ففعل ، فكانت على خدمته ، فحكي لنا أنها قالت : كان إذا صلى العتمة حمد الله ومجده ودعاه ، فلم يزل كذلك حتى يزول الليل ، فإذا زال الليل قام يصلي حتى يصلي الصبح ، ثم يذكر حتى تطلع الشمس ، ثم يقعد إلى ارتفاع الضحى ، ثم يتهيأ ويستاك ويأكل ، ثم يرقد إلى قبل الزوال ، ثم يتوضأ ويصلي العصر ، ثم يذكر في القبلة حتى يصلي المغرب ، ثم يصلي ما بين المغرب إلى العتمة ! فكانت تقول : خاب قوم تعرضوا لهذا الرجل ! وكان عبداً صالحاً .
وقيل : بعث موسى الكاظم إلى الرشيد برسالة من الحبس يقول : إنه لن ينقضي عني يوم من البلاء إلا انقضى عنك معه يوم من الرخاء ، حتى نفضي جميعاً إلى يوم ليس له انقضاء يخسر فيه المبطلون ! وعن عبد السلام بن السندي قال : كان موسى عندنا محبوساً ، فلما مات بعثنا إلى جماعة من العدول من الكرخ فأدخلناهم عليه فأشهدنا هم على موته ، ودفن في مقابر الشونيزية .
قلت : له مشهد عظيم مشهور ببغداد ، دفن معه فيه حفيده الجواد . ولولده علي بن موسى مشهد عظيم بطوس . وكانت وفاة موسى الكاظم في رجب سنة ثلاث وثمانين ومئة . عاش خمساً وخمسين سنة وخلف عدة أولاد ، الجميع من إماء : علي والعباس ، وإسماعيل ، وجعفر ، وهارون ، وحسن ، وأحمد ، ومحمد ، وعبيد الله وحمزة ، وزيد ، وإسحاق ، وعبد الله ، والحسين ، وفضل ، وسليمان . سوى البنات ، سمى الجميع الزبير في : النسب » .
وقال الذهبي في تاريخ الإسلام : ۱۲ / ٤۱۷ : « موسى الكاظم : هو الإمام أبو الحسن موسى بن جعفر بن محمد بن علي .. قال أبو حاتم : ثقة إمام . وكان صالحاً عالماً عابداً متألهاً .. ولعل الرشيد ما حبسه إلا لقولته تلك : السلام عليك يا أبه ! فإن الخلفاء لا يحتملون مثل هذا » !
۲ ـ وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب : ۱۰ / ۳۰۲ : « قال يحيى بن الحسن بن جعفر النسابة : كان موسى بن جعفر يدعى العبد الصالح من عبادته واجتهاده .
وقال الخطيب .. وأقدمه المهدي إلى بغداد ثم رده إلى المدينة ، وأقام بها إلى أيام الرشيد ، فقدم هارون منصرفاً من عمرة رمضان سنة تسع وسبعين ، فحمله معه إلى بغداد وحبسه بها إلى أن توفي في محبسه .. ومناقبه كثيرة » .
وقال في تقريب التهذيب ( ۲ / ۲۲۱ ) : « الهاشمي المعروف بالكاظم ، صدوق عابد ، من السابعة ، مات سنة ثلاث وثمانين » .
۳ ـ وقال الخطيب في تاريخ بغداد : ۱۳ / ۲۹ : « كان موسى بن جعفر يدعي العبد الصالح من عبادته واجتهاده .
روى أصحابنا أنه دخل مسجد رسول الله (ص) فسجد سجدة في أول الليل ، وسُمع وهو يقول في سجوده : عظيم الذنب عندي فليحسن العفو عندك . يا أهل التقوى ويا أهل المغفرة ! فجعل يرددها حتى أصبح .
وروى له عليه السلام عدة قصص في كرمه وعبادته وتقدم بعضها ، ثم ذكر كرامته في المنام الذي رآه الخليفة المهدي عندما حبسه .
٤ ـ وقال محمد بن طلحة الشافعي في مطالب السؤول في فضل آل الرسول صلّى الله عليه وآله / ٤٤٦ :
« هو الإمام الكبير القدر ، العظيم الشأن ، الكبير المجتهد ، الجاد في الإجتهاد ، المشهور بالعبادة ، المواظب على الطاعات ، المشهود له بالكرامات ، يبيت الليل ساجداً وقائماً ، ويقطع النهار متصدقاً وصائماً ، ولفرط حلمه وتجاوزه عن المعتدين عليه دعى كاظماً ، كان يجازى المسئ بإحسانه إليه ، ويقابل الجاني بعفوه عنه ، ولكثرة عبادته كان يسمى بالعبد الصالح ، ويعرف بالعراق باب الحوائج إلى الله لنجح مطالب المتوسلين إلى الله تعالى به ، كرامته تحار منها العقول ، وتقضي بأن له عند الله تعالى قدم صدق لا تزل ولا تزول .
وأما ولادته فبالأبواء سنة ثمان وعشرين ومائة للهجرة ، وقيل تسع وعشرين ومائة وأما نسبه أباً وأماً : فأبوه جعفر الصادق بن محمد الباقر ، وقد تقدم القول فيه . وأما أمه فأم ولد تسمى حميدة البربرية ، وقيل غير ذلك .
وأما إسمه فموسى وكنيته أبو الحسن ، وقيل أبو إسماعيل ، وكان له ألقاب كثيرة : الكاظم وهو أشهرها ، والصابر ، والصالح ، والأمين .
وأما مناقبه فكثيرة ، ولو لم يكن منها إلا العناية الربانية لكفاه ذلك منقبة . وقد نقل عن الفضل بن الربيع أنه أخبر عن أبيه أن المهدي لما حبس موسى بن جعفر ، ففي بعض الليالي رأى المهدي في منامه علي بن أبي طالب وهو يقول له : يا محمد : فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ؟ قال الربيع : فأرسل إلي ليلاً فراعني .. الى آخر ما تقدم .
وقال هشام بن حاتم الأصم ، قال لي أبو حاتم ، قال لي شقيق البلخي : خرجت حاجاً في سنة تسع وأربعين ومائة ، فنزلت القادسية ، فبينا أنا أنظر إلى الناس في زينتهم وكثرتهم ، فنظرت إلى فتى حسن الوجه شديد السمرة ضعيف ، فوق ثيابه ثوب من صوف ، مشتمل بشملة ، في رجليه نعلان ، وقد جلس منفرداً فقلت في نفسي : هذا الفتى من الصوفية يريد أن يكون كلاً على الناس في طريقهم ، والله لأمضين إليه ولأوبخنه ! فدنوت منه فلما رآني مقبلاً قال : إِجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ ، إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ، ثم تركني ومضى ! فقلت في نفسي : إن هذا لأمرٌ عظيم قد تكلم بما في نفسي ونطق باسمي ، وما هذا إلا عبدٌ صالح لألحقنه ولأسألنه أن يحالَّني ، فأسرعت في أثره فلم ألحقه وغاب عن عيني !
فلما نزلنا واقصة إذْ به يصلي وأعضاؤه تضطرب ودموعه تجري فقلت : هذا صاحبي أمضي إليه واستحله ، فصبرت حتى جلس وأقبلت نحوه ، فلما رآني مقبلاً قال لي : يا شقيق أتل : وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى . ثم تركني ومضى ! فقلت : إن هذا الفتى لمن الأبدال ! لقد تكلم على سري مرتين . فلما نزلنا زُبَالة إذا بالفتى قائمٌ على البئر وبيده رَكْوَةٌ يريد أن يستقي ماء ، فسقطت الركوة من يده في البئر ، وأنا أنظر إليه فرأيته قد رمق السماء وسمعته يقول :
أنت ربي إذا ظمئتُ إلى الماء | وقُوتي إذا أردتُ الطعاما |
اللهم سيدي مالي سواها فلا تحرمنيها ، قال شقيق : فوالله لقد رأيت البئر وقد ارتفع ماؤها ، فمد يده فأخذ الركوة وملأها ماء ، فتوضأ وصلى أربع ركعات ، ثم مال إلى كثيب رمل فجعل يقبض بيده ويطرحه في الركوة ويحركه ويشرب . فأقبلت إليه وسلمت عليه فرد عليَّ السلام فقلت : أطعمني من فضل ما أنعم الله به عليك . فقال : يا شقيق لم تزل نعمه علينا ظاهرة وباطنة فأحسن ظنك بربك . ثم ناولني الركوة فشربت منها فإذا هو سويق وسكر ! فوالله ما شربت قط ألذَّ منه ولا أطيب ريحاً ، فشبعت ورويت وأقمت أياماً لا أشتهي طعاماً ولا شراباً !
ثم لم أره حتى دخلنا مكة فرأيته ليلة إلى جنب قُبَّة الشراب في نصف الليل قائماً يصلي بخضوع وأنين وبكاء ، فلم يزل كذلك حتى ذهب الليل ، فلما رأى الفجر جلس في مصلاه يسبح ، ثم قام فصلى الغداة ، وطاف بالبيت أسبوعاً وخرج ، فتبعته وإذا له غاشية وموالٍ ، وهو على خلاف ما رأيته في الطريق ، ودارٌ به الناس من حوله يسلمون عليه ! فقلت لبعض من يقرب منه : من هذا الفتى ؟ فقال : هذا موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب . فقلت : قد عجبت أن تكون هذه العجائب إلا لمثل هذا السيد ! ولقد نظم بعض المتقدمين واقعة شقيق معه في أبيات طويلة ، اقتصرت على ذكر بعضها ، فقال :
سلْ شقيقَ البلخيّ عنه وما شا | هد منه وما الذي كان أبصرْ | |
قال لما حججت عاينتُ شخصاً | شاحب اللون ناحلَ الجسم أسمرْ | |
سائراً وحده وليس له زادٌ | فما زلت دائماً أتفكر | |
وتوهمتُ أنه يسأل الناس | ولم أدر أنه الحجُّ الاكبر | |
ثم عاينتهُ ونحنُ نزولٌ | دون فيدٍ على الكثيب الاحمر | |
يضع الرمل في الإناء ويشربْهُ | فناديته وعقلي محير | |
إسقني شربةً فناولني منه | فعاينته سَويقاً وسُكر | |
فسألت الحجيج من يكُ هذا | قيلَ هذا الإمام موسى بن جعفر |
فهذه الكرامات العالية الأقدار الخارقة العوائد هي على التحقق جلية المناقب وزينة المزايا وغرر الصفات ، ولا يؤتاها إلا من فاضت عليه العناية الربانية أنوار التأييد ، ومرت له أخلاف التوفيق ، وأزلفته من مقام التقديس والتطهير وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ » .
٤ ـ الإمام الكاظم عليه السلام حامي بغداد
فقد قال زكريا بن آدم بن عبد الله بن سعد الأشعري للإمام الرضا عليه السلام : « إني أريد الخروج عن أهل بيتي ( يقصد أهل قم ) فقد كثر السفهاء فيهم ! فقال له الإمام الرضا عليه السلام : لا تفعل فإن الله يدفع البلاء بك عن أهل قم ، كما يدفع البلاء عن أهل بغداد بقبر موسى بن جعفر عليه السلام » ( رواه المفيد رحمه الله في الإختصاص / ۸۷ ، بسند موثق ، واختيار معرفة الرجال : ۲ / ۸٥۷ ، ورجال الكشي / ٤۹٦ ، وتاريخ الكوفة / ۲۲۸ ، ومعجم رجال الحديث للسيد الخوئي : ۸ / ۲۸۳ ، ورجال الطوسي : ۲ / ۸٥۸ ) .
وفي كامل الزيارات / ٥۰۰ : « عن علي بن الحكم ، عن رحيم قال قلت للرضا عليه السلام : إن زيارة قبر أبي الحسن عليه السلام ببغداد علينا فيها مشقة ، فما لمن زاره ؟ فقال له : مثل ما لمن أتى قبر الحسين عليه السلام من الثواب . قال : دخل رجل فسلم عليه وجلس وذكر بغداد ورداءة أهلها ، وما يتوقع أن ينزل بهم من الخسف والصيحة والصواعق ، وعدَّد من ذلك أشياء قال : فقمت لأخرج فسمعت أبا الحسن عليه السلام وهو يقول : أما أبو الحسن فلا » .
أقول : الظاهر سقوط الواو من الرواية ، وأن الأصل : أما وأبو الحسن ، فلا . أي أما وقبر أبي الحسن عليه السلام موجود ، فلا يصيب بغداد خسف أو صواعق !
وقد أخذ بعضهم ذلك ووضعه للمحاملي : « قال محمد بن الإسكاف : رأيت في النوم كأن قائلاً يقول : إن الله ليدفع عن أهل بغداد البلاء بالمحاملي» ! ( سير الذهبي : ۱٥ / ۲٦۰ ) وسبب قولنا إنهم أخذوه ونسبوه الى المحاملي لأنه توفي سنة ۳۳۰ ( سير الذهبي : ۱٥ / ۲۸٤ ) ، أي بعد قرن ونصف من وفاة الإمام الكاظم عليه السلام .
٥ ـ زيارة قبر الإمام الكاظم عليه السلام دواء مجرب
قال الإمام الشافعي كلمته المشهورة في زيارة قبر الإمام الكاظم عليه السلام : إنه الترياق المجرب ( كرامات الأولياء للسجاعي / ٦ ) لكن بعضهم أخذ ذلك ووصف به قبر معروف الكرخي ! قال الخطيب في تاريخ بغداد : ۱ / ۱۳٤ : « سمعت أبا علي الصفار يقول : سمعت إبراهيم الحربي يقول : قبر معروف الترياق المجرب » .
والحربي هذا كابلي نسب الى محلة الحربية ببغداد ( تاريخ بغداد : ٦ / ۲۸ ) ، وقد توفي سنة ۲۸٥ ، أي بعد أكثر من قرن من وفاة الإمام الكاظم عليه السلام ( تاريخ بغداد : ٦ / ۳۸ ) .
كما روى في تاريخ بغداد : ۱ / ۱۳٤ ، عن : « عبيد الله بن عبد الرحمن بن محمد الزهري قال سمعت أبي يقول : قبر معروف الكرخي مجرب لقضاء الحوائج »
والزهري هذا محمد بن غلام الزهري المتوفى سنة ۳۸۰ ، أي بعد قرنين من شهادة الإمام الكاظم عليه السلام ! ( سير الذهبي : ۱٦ / ٤۳۷ ) .
مقتبس من كتاب : [ الإمام الكاظم عليه السلام سيّد بغداد ] / الصفحة : ۸۹ ـ ۱۰۲