إنّ البطولة التي أبداها الإمام السجاد عليه السلام بعد كربلاء ، وهو في أسر الاعداء ، وفي الكوفة في مجلس أميرها ، وفي الشام في مجلس ملكها ، لا تقلّ هذه البطولة أهميّة ـ من الناحية السياسيّة ـ عن بطولة الميدان ، وعلى الأقلّ : لا تقف تلك المواقف البطوليّة من هالته المصارع الدامية في كربلاء ، أو فجعته التضحيات الجسيمة التي قدّمت أمامه ، ولا يصدر مثل تلك البطولات ممّن فضّل السلامة !
نعم ، لا يمكن أن يصدر مثل ذلك إلّا من صاحب قلب جسور ، صلب يتحمّل كلّ الآلام ، ويتصدى لتحقيق كلّ الآمال ، التي من أجلها حضر في ميدان كربلاء من حضر ، وناضل من ناضل ، واستشهد من استشهد ، والآن يقف ـ ليؤدّي دوراً آخر ـ من بقي حيّاً من أصحاب كربلاء ، ولو في الأسر !
إنّ الدور الذي أدّاه الإمام السجاد عليه السلام ، بلسانه الذي أفصح عن الحقّ ببلاغة معجزة ، فأتمّ الحجّة على الجميع ، بكلّ وضوح ، وكشف عن تزوير الحكّام الظالمين ، بكلّ جلاء ، وأزاح الستار عن فسادهم وجورهم وانحرافهم عن الإسلام ، إن هذا الدور كان أنفذ على نظام الحكم الفاسد ، من أثر سيف واحد يجرّده الإمام في وجه الظلمة ، إذ لم يجد معينا في تلك الظروف الصعبة !.
لكنّه كان الشاهد الوحيد ، الذي حضر معركة كربلاء بجميع مشاهدها ، من بدايتها ، بمقدّماتها وأحداثها وملابساتها وما تعقّبها ، وهو المصدّق الأمين في كلّ ما يرويه ويحكيه عنها.
فكان وجوده استمراراً عينيّا لها ، وناطقاً رسميّاً عنها.
مع أنّ وجوده ، وهو أفضل مستودع جامع للعلوم الإلهيّة بكلّ فروع : العقيدة ، والشريعة ، والأخلاق ، والعرفان ، بل المثال الكامل للإسلام في تصرّفاته وسيرته وسنته ، والناطق عن القرآن المفسّر الحيّ لآياته ، إن وجوده ـ حيّاً ـ كان أنفع للإسلام وانجع للمسلمين في ذلك الفراغ الهائل ، والجفاف القاتل ، في المجتمع الإسلامي.
كان وجوده أقضّ لمضاجع أعداء الإسلام من ألف سيف وسيف ، لأنّ الإسلام إنّما يحافظ عليه ببقاء أفكاره وقيمه ، والأعداء إنّما يستهدفون تلك الأفكار والقيم في محاولاتهم ضدّه ، وإذا كان شخص مثل الإمام موجوداً في الساحة ، فإنه ـ لا ريب ـ أعظم سدّ أمام محاولات الأعداء.
وكذلك الأعداء إنما يبادون بضرب أهدافهم ، واجتثاب بدعهم وفضح أحابيلهم ، والكشف عن دجلهم ، ورفع الأغطية عن نيّاتهم الشرّيرة تجاه هذا الدين وأهله ، والإفصاح عن مخالفة سيرتهم للحقّ والعدل.
وعلى يد الإمام السجاد عليه السلام يمكن أن يتمّ ذلك بأوثق شكل وأتمّ صورة ، وأعمق تأثير.
ثمّ ، أليس الجهاد بالكلمة واحداً من أشكال الجهاد ، وإن كان أضعفها ؟ بل ، إذا انحصر الأمر به ، فهو الجهاد كلّه ، بل أفضله ، في مثل مواقف الإمام السجاد عليه السلام ، كما ورد في الحديث الشريف ، عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : « أفضل الجهاد كلمة حقّ عند سلطان جائر » (۱).
ولنصغ إلى الإمام السجاد عليه السلام في بعض تلك المواقف :
فمن كلام له عليه السلام كان يعلنه وهو في أسر بني أميّة :
« أيّها الناس ! إنّ كلّ صمت ليس فيه فكر فهو عيّ ، وكلّ كلام ليس فيه ذكر فهو هباء.
ألا ، وإنّ الله تعالى أكرم أقواماً بآبائهم ، فحفظ الأبناء بالآباء ، لقوله تعالى : ( وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا ) [ الكهف : ۸۲ ] فأكرمهما.
ونحن ـ والله ـ عترة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فأكرمونا لأجل رسول الله ، لأنّ جدّي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يقول في منبره : « احفظوني في عترتي وأهل بيتي ، فمن حفظني حفظه الله ، ومن آذاني فعليه لعنة الله ، ألا ، فلعنة الله على من آذاني فيهم » حتّى قالها ثلاث مرّات.
ونحن ـ والله ـ أهل بيت أذهب الله عنّا الرجس والفواحش ما ظهر منها وما بطن … » (۲).
وبهذه الصراحة ، والقوّة ، والبلاغة ، عرّف الإمام السجّاد عليه السلام للمتفرّجين ـ ولمن وراءهم ـ هذا الركب المأسور ، الذي نبزوه بأنّه ركب الخوارج !
ففضح الدعايات ، وأعلن بذلك أنّه ركب يتألف من أهل بيت الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.
وافصح بتلاوة الآيات والأحاديث ، أنّه ركب يحمل القرآن والسنّة ، ليعرف المخدوعون أن هذا الركب له ارتباط وثيق بالإسلام من خلال مصدريه الكتاب والسنّة.
وهو ـ من لسان هذين المصدرين ـ يصبّ اللعنة والنقمة على من آذى هذا الركب ، من دون أن يمكّن الأعداء من التعرّض له ، لأنّه عليه السلام إنّما يروي اللعنة الصادرة من الرسول وعلى لسانه !
كان هذا الموقف ، حين أخذ الناس الوجوم ، من عظم ما جرى في وقعة كربلاء ، وما حلّ بأهل البيت عليه السلام من التقتيل والأسر ، وذهلوا حينما رأوا الحسين سبط الرسول وأهله وأصحابه مجزّرين ! ويرون اليوم ابنه ، وعيالاته أسرى ، يساقون في العواصم الإسلاميّة.
والأسر ـ في قاموس البشر ـ يوحي معاني الذلّ والهوان ، والضعف والأنكسار !
هذا ، والناس يفتخرون بالإنتماء إلى دين الرسول وسنّته.
والأنكى من ذلك أنّ الجرائم وقعت ولمّا يمض على وفاة الرسول ـ جدّ هؤلاء الأسرى ـ نصف قرن من الزمن !!
وموقفه الآخر في مجلس يزيد ، فقد أوضح فيه عن هويّته الشخصيّة ، فلم يدع لجاهل عذراً في الجلوس المريب ، وذلك في المجلس الذي أقامه يزيد ، للإحتفال بنشوة الإنتصار ولابدّ أنّه جمع فيه الرؤوس والأعيان ، فانبرى الإمام السجاد عليه السلام ، في خطبته البليغة الرائعة ، التي لم يزل يقول فيها : « أنا … أنا … » معرّفاً بنفسه ، وذاكراً أمجاد أسلافه « حتّى ضجّ المجلس بالبكاء والنحيب » حسب تعبير النصّ (۳) الذي سنثبته كاملاً :
خطبة الإمام في مجلس يزيد :
قال الخوارزمي : ـ وروي ـ أنّ يزيد أمر بمنبر وخطيب ، ليذكر للناس مساوئ الحسين وأبيه علي عليهما السلام.
فصعد الخطيب المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، وأكثر الوقيعة في عليّ والحسين ، وأطنب في تقريظ معاوية ويزيد.
فصاح به عليّ بن الحسين : ويلك أيّها الخاطب ! اشتريت رضا المخلوق بسخط الخالق ؟ فتبوّأ مقعدك من النار.
ثمّ قال : يا يزيد ، إئذن لي حتّى أصعد هذه الأعواد ، فأتكلّم بكلمات فيهنّ لله رضا ، ولهؤلاء الجالسين أجر وثواب.
فأبى يزيد ، فقال الناس : يا أمير المؤمنين ، ائذن له ليصعد ، فلعّلنا نسمع منه شيئاً.
فقال لهم : إن صعد المنبر هذا لم ينزل إلّا بفضيحتي وفضيحة آل أبي سفيان ، فقالوا : وما قدر ما يحسن هذا ؟
فقال : إنّه من أهل بيت قد زقّوا العلم زقّا.
ولم يزالوا به حتّى أذن له بالصعود.
فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ خطب خطبة أبكى منها العيون ، وأوجل منها القلوب ، فقال فيها :
« أيّها الناس ، اُعطينا ستّاً ، وفضّلنا بسبع :
اُعطينا العلم ، والحلم ، والسماحة ، والفصاحة ، والشجاعة ، والمحبّة في قلوب المؤمنين. وفضّلنا بأنّ منّا النبي المختار محمّداً صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ومنّا الصدّيق ، ومنّا الطيّار ، ومنّا أسد الله وأسد الرسول ، ومنّا سيّدة نساء العالمين فاطمة البتول ، ومنّا سبطا هذه الاُمّة وسيّدا شباب أهل الجنّة.
فمن عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي :
أنا ابن مكّة ومنى.
أنا ابن زمزم والصفا.
أنا ابن من حمل الزكاة (٤) بأطراف الردا.
أنا ابن خير من ائتزر وارتدى.
أنا ابن خير من انتعل واحتفى.
أنا ابن خير من طاف وسعى.
أنا ابن خير من حجّ ولبّى.
أنا ابن من حُمل على البُراق في الهوا.
أنا ابن من اُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، فسبحان من أسرى.
أنا ابن من بلغ به جبرائيل إلى سدرة المنتهى.
أنا ابن من دنى فتدلّى فكان من ربّه قاب قوسين أو أدنى.
أنا ابن من صلّى بملائكة السما.
أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى.
أنا ابن محمّد المصطفى.
أنا ابن عليّ المرتضى.
أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتّى قالوا : لا إله إلّا الله.
أنا ابن من ضرب بين يدي رسول الله بسيفين ، وطعن برمحين ، وهاجر الهجرتين ، وبايع البيعتين ، وصلّى القبلتين ، وقاتل ببدر وحنين ، ولم يكفر بالله طرفة عين.
أنا ابن صالح المؤمنين ، ووارث النبيّين ، وقامع الملحدين ، ويعسوب المسلمين ، ونور المجاهدين ، وزين العابدين ، وتاج البكّائين ، واصبر الصابرين ، وأفضل القائمين من آل ياسين ، ورسول ربّ العالمين.
أنا ابن المؤيّد بجبرائيل ، المنصور بميكائيل.
أنا ابن المحامي عن حرم المسلمين ، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين ، والمجاهد أعداءه الناصبين ، وأفخر من مشى من قريش أجمعين ، وأوّل من أجاب واستجاب لله ، من المؤمنين ، وأقدم السابقين ، وقاصم المعتدين ، ومبير المشركين ، وسهم من مرامي الله على المنافقين ، ولسان حكمة العابدين ، ناصر دين الله ، ووليّ أمر الله ، وبستان حكمة الله ، وعيبة علم الله ، سمح سخي ، بهلول زكيّ أبطحي رضي مرضي ، مقدام همام ، صابر صوّام ، مهذّب قوّام شجاع قمقام ، قاطع الأصلاب ، ومفرّق الأحزاب ، أربطهم جنانا ، وأطلقهم عناناً ، وأجرأهم لساناً ، وأمضاهم عزيمة ، وأشدّهم شكيمة ، أسد باسل ، وغيث هاطل ، يطحنهم في الحروب ـ إذا أزدلفت الأسنة ، وقربت الأعنّة ـ طحن الرحى ، ويذروهم ذرو الريح الهشيم ، ليث الحجاز ، صاحب الإعجاز ، وكبش العراق ، الإمام بالنصّ والإستحقاق مكّيّ مدنيّ ، أبطحي تهاميّ ، خيفي عقبيّ ، بدريّ أحديّ ، شجريّ مهاجريّ ، من العرب سيّدها ، ومن الوغى ليثها ، وأرث المشعرين ، وأبو السبطين ، الحسن والحسين ، مظهر العجائب ، ومفرّق الكتائب ، والشهاب الثاقب ، والنور العاقب ، أسد الله الغالب ، مطلوب كلّ طالب غالب كلّ غالب ، ذاك جدّي علي بن أبي طالب.
أنا ابن فاطمة الزهرا.
أنا ابن سيّدة النسا.
أنا ابن الطهر البتول.
أنا ابن بضعة الرسول.
أنا ابن الحسين القتيل بكربلا.
أنا ابن المرمّل بالدما.
أنا ابن من بكى عليه الجن في الظلما.
أنا ابن من ناحت عليه الطيور في الهوا » (٥).
قال : ولم يزل يقول : « أنا أنا » حتّى ضجّ الناس بالبكاء والنحيب ، وخشي يزيد أن تكون فتنة ، فأمر المؤذّن أن يؤذّن ، فقطع عليه الكلام وسكت.
فلمّا قال المؤذّن « الله أكبر ! » قال علي بن الحسين : كبّرت كبيراً لا يقاس ، ولا يدرك بالحواسّ ، لا شيء أكبر من الله.
فلمّا قال : « أشهد أن لا إله إلّا الله ! » قال علي : شهد بها شعري وبشري ، ولحمي ودمي ، ومخّي وعظمي.
فلمّا قال : « أشهد أن محمّداً رسول الله ! » التفت علي من أعلى المنبر إلى يزيد وقال : يا يزيد ، محمّد هذا جدّي أم جدّك ؟ فإن زعمت أنّه جدّك فقد كذبت. وإن قلت إنّه جدي ، فلم قتلت عترته ؟ (٦)
فأدّى كلام الإمام عليه السلام إلى أن تتبخّر كلّ الدعايات المظلّلة التي روّجتها السياسة الأمويّة ، والتي تركّزت على : أنّ الاسرى هم من الخوارج ! فبدّل نشوة الإنتصار إلى حشرجة الموتى في حلوق المحتفلين !
وفي التزام الإمام السجّاد عليه السلام بذكر هويّته الشخصيّة فقط في هذه الخطبة ، حكمة وتدبير سياسيّ واع ، إذا لم يكن له في مثل هذا المكان والزمان ، أن يتطرّق إلى شيء من القضايا الهامّة ، وإلّا كان يمنع من الكلام والنطق ، وأمّا الإعلان عن اسمه فهي قضيّة شخصيّة ، وهو من أبسط الحقوق التي تمنح للفرد وإن كان في حالة الأسر !
لكنّ كلام الإمام لم يكن في الحقيقة إلّا مليئاً بالتذكير والإيماء ، بل الكناية التي هي أبلغ من التصريح ، بنسبه الشريف ، واتّصاله بالإسلام ، وبرسوله الكريم صلّى الله عليه وآله وسلّم.
وقد ذكّر الإمام عليه السلام بكلّ المواقع الجغرافيّة ، والمواقف الحاسمة والذكريات العظيمة في الإسلام ، وربط نفسه بكلّ ذلك ، فسرد ـ وبلغة شخصيّة ـ حوادث تاريخ الإسلام ، معبّراً بذلك عن أنّه يحمل هموم ذلك التاريخ كلّه على عاتقه ، وأنّه حامل هذا العبء ، بكلّ ما فيه من قدسيّة ، ومع هذا فهو يقف « أسيراً » أمام أهل المجلس !
وقد فهم الناس مغزى هذا الكلام العميق ، فلذلك ضجّوا بالبكاء ! فإنّ الحكّام الأمويّين إنّما حصلوا على مواقع السلطة من خلال ربط أنفسهم بالإسلام ، فكسبوا لأنفسهم قدسيّة الخلافة !
وكان لجهل الناس الأثر الكبير في وصول الأمر إلى هذه الحالة ، أن يروا ابن الإسلام أسيراً أمامهم !
ثمّ إنّ جهل أهل الشام بأهل البيت ، مضافاً إلى حقد الحكّام على أهل البيت عامّة ، وعلى الذين كانوا مع الحسين عليه السلام في كربلاء خاصّة ، كان يدعوا إلى الإحتياط ، والحذر من أن ينقضّ يزيد على الأسرى ! في ما لو أحسّ بخطرهم ، فيبيدهم !
فكان ما قام به الإمام من تأطير خطبته بالإطار الشخصي مانعاً من إثارة غضبه وحقده ، لكن لم يفت الإمام اقتناص الفرصة السانحة لكي يبثّ من خلال التعريف ، بشخصه وهويّته ، التنويه بشخصيّته وبقضيّته وبهمومه ، ولو بالكناية التي كانت ـ حقّاً ـ أبلغ من التصريح.
فلذلك لم يتعرّض الإمام عليه السلام لذكر مساوئ الاُمويّين ، ولم يذكر شيئاً من فضائحهم ، بالرغم من « توقّع يزيد » نفسه لذلك.
وبذلك نجا من شرّ يزيد ، وبقي ليداوم اتّباع الهدف الذي من أجله قتل الشهداء بالأمس ، وأصبح ـ هو ـ يقود مسيرة الأحياء ، اليوم ، وغداً …
وموقف آخر : في وسط ذلك الجوّ الخانق ، وفي عاصمة الحاكم المنتصر ، وفي حالة الأسر ، يرفع الإمام صوته ، ليسمع الأذان التي أصمّها الضوضاء والصخب ، في ما رواه المنهال بن عمرو ، قال : دخلت على علي بن الحسين ، فقلت : كيف أصبحت ، أصلحك الله ؟!
فقال : ما كنت أرى شيخاً من أهل المصر ـ مثلك ـ لا يدري : كيف أصبحنا !؟
قال : فأمّا إذا لم تدر ـ أو تعلم ـ فأنا أخبرك :
أصبحنا ـ في قومنا ـ بمنزلة بني أسرائيل في آل فرعون ، إذ كانوا « يذبّحون أبناءهم ويستحيون نساءهم ».
وأصبحنا : شيخنا وسيّدنا يتقرّب إلى عدوّنا بشتمه ، وبسبّه ، على المنابر.
وأصبحت قريش تعدّ (۷) : أن لها الفضل على العرب ، لأن محمّداً منها ، لا يعدّ لها فضل إلّا به ، وأصبحت العرب مقرّة (۸) لهم بذلك.
وأصبحت العرب تعدّ (۹) أن لها الفضل على العجم ، لأن محمّداً منها ، لا يعدّ لها فضل إلّا به ، وأصبحت العجم مقرّة (۱۰).
فإن كانت العرب صدقت أنّ لها الفضل على العجم ، وصدقت قريش أنّ لها الفضل على العرب لأنّ محمّداً منها : إن لنا ـ أهل البيت ـ الفضل على قريش ، لأنّ محمّداً منّا.
فأضحوا يأخذون بحقّنا ، ولا يعرفون لنا حقّاً.
فهكذا أصبحنا ، إن لم يعلم : كيف أصبحنا ؟!
قال المنهال : فظننت أنّه أراد أن يسمع من في البيت ! (۱۱)
ويصرّح في موقف مماثل يسأل فيه عن الركب الذي هو فيه ، فيقول :
« إنا من أهل البيت ، الذين افترض الله مودّتهم على كلّ مسلم ، فقال تبارك وتعالى لنبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم : ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا ) [ سورة الشورى ٤۲ الآية ۲۳ ] فاقتراف الحسنة مودّتنا أهل البيت » (۱۲).
إلى غير ذلك من المواقف التي كان لها أثر حاسم في تغيير سياسة يزيد تجاه هذا الركب المأسور ، حتّى أرجعه إلى المدينة !
إنّ هذه المواقف لم تكن تصدر من قلب مليء بالرعب ، أو شخص يفضّل السلامة ، أو يميل إلى الهدوء والراحة ، أو المسالمة مع العدوّ أو الركون إلى الظالمين !
إنّما صاحب هذه المواقف ذو روح متطلّعة وثابة هادفة ، إذا لم يتح له ـ بعد كربلاء ـ أن يأخذ بقائمة السيف ، فسنان المنطق لا يزال في قدرته ، يهتك به ظلام التعتيم الإعلامي المضلّل !
وقد اتّبع الإمام السجّاد عليه السلام هذه الخطّة بحكمة وتدبير عن علم بالأمر ، وعمد له ، وكشف عن أنّه انتهجه سياسة مدبّرة مدروسة.
فلمّا سئل عن : « الكلام ، والسكوت » أيّهما أفضل ؟ لم يدلّ بما يعتبره الحكماء من : أن الكلام إذا كان من فضّة فالسكوت من ذهب ، وإنمّا قال :
« لكلّ واحد منهما آفات ، وإذا سلما من الآفات فالكلام أفضل من السكوت ».
ولمّا سئل عن سبب ذلك مع مخالفته لإعتبار الحكماء المستقر في أذهان الناس من فضل السكوت ؟
قال :
« لأنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ ما بعث الأنبياء والأوصياء بالسكوت ، وإنّما بعثهم بالكلام.
ولا استحقت الجنّة بالسكوت.
ولا استوجبت ولاية الله بالسكوت.
ولا توقّيت النار بالسكوت.
ولا يجنّب سخط الله بالسكوت.
إنّما كلّه بالكلام ! وما كنت لأعدل القمر بالشمس !
إنّك تصف فضل السكوت بالكلام ، ولست تصف فضل الكلام بالسكوت ! (۱۳)
وهكذا طبق الإمام عليه السلام هذه الحكمة البالغة ، وأدّى رسالته الإلهيّة من خلال خطبه وكلماته ومواعظه وأحاديثه ، في جميع المواقف العظيمة التي وقفها ، وهو في الأسر.
وإذا كان الظالمون يعتدون على المصلحين والأحرار بالقتل والسجن ، فإنّما ذلك ليخنقوا كلّ صوت في الحناجر ، ولئلّا يسمع الناس حديثهم وكلامهم (۱٤).
وإذا ذبح الحسين عليه السلام وقتل في كربلاء ، فإنّ نداءاته ظلّت تدوّي من حنجرة الإمام السجّاد عليه السلام في مسيرة الأسرى ، وفي قلب مجالس الحكّام.
وليس من الإنصاف ، في القاموس السياسي ، أن يوصف من يؤدي هذا الدور ، بالانعزال عن السياسة ، أو الإبتعاد عن الحركة والنضال !
بل ، إذا كانت حركة الإمام الحسين عليه السلام سياسيّة ، كما هي كذلك بلا ريب فكما قال القرشي : إن الإمام زين العابدين عليه السلام من أقوى العوامل في تخليد الثورة الحسينيّة ، وتفاعلها مع عواطف المجتمع وأحاسيسه ، وذلك بمواقفه الرائعة التي لم يعرف لها التاريخ مثيلاً في دنيا الشجاعة والبطولات ! أمّا خطابه في بلاط يزيد فإنّه من أروع الوثائق السياسيّة في الإسلام (۱٥).
وبرز الإمام زين العابدين عليه السلام على مسرح الحياة الإسلاميّة كألمع سياسي إسلامي عرفه التاريخ ، فقد استطاع بمهارة فائقة ـ وهو في قيد المرض والأسر ـ أن ينشر أهداف الثورة العظمى التي فجّرها أبوه الإمام الحسين القائد الملهم للمسيرة الإسلاميّة الظافرة ، فأبرز قيمها الأصليّة بأسلوب مشرق كان في منتهى التقنين ، والأصالة ، والإبداع (۱٦).
الهوامش
۱. حياة الإمام زين العابدين ، للقرشي « ۱ : ۸ ».
۲. حياة الإمام زين العابدين ، للقرشي « ۱ : ۷ ».
۳. الروض النضير « ٥ / ۱۳ » وانظر الكنى للدولابي « ۱ / ۷۸ ».
٤. بلاغة علي بن الحسين عليه السلام « ص ۹٥ » عن المنتخب للطريحي.
٥. مقتل الحسين عليه السلام ، للخوارزمي « ۲ / ۷۱ ».
٦. في نقل « كامل البهائي » : « من حمل الركن » وفسّر بالحجر الأسود الذي محلّه الركن ، ولذلك ذكر في سيرة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل البعثة.
۷. ما بين القوسين عن « الكامل للبهائي ».
۸. مقتل الحسين « ۲ / ٦۹ ـ ۷۱ » ونقل عن كتاب « كامل البهائيّ » بنصّ متقارب نقله الحائري في بلاغة علي بن الحسين عليه السلام « ص ۱۰٦ ـ ۱۰۹ » ونقل بعده نصّا آخر للخطبة عن أبي مخنف فليلاحظ.
۹. كذا الصواب وكان في المختصر : « بعد ».
۱۰. كذا الصواب وكان في المختصر : « معيرة ».
۱۱. كذا الصواب وكان في المختصر : « بعد ».
۱۲. كذا الصواب وكان في المختصر : « معيرة ».
۱۳. تاريخ دمشق « الحديث ۱۲۰ » مختصر ابن منظور « ۱۷ : ۲٤٥ » ورواه الحافظ محمد بن سليمان في مناقب أمير المؤمنين عليه السلام « ج ۲ ص ۱۰۸ » رقم « ٥۹۸ » ولاحظ طبقات ابن سعد « ٥ / ۲۱۹ ».
ورواه السيد الموفق بالله في الإعتبار وسلوة العارفين « ص ۱۸٦ ».
۱٤. المستدرك على الصحيحين ، للحاكم « ۳ : ۱۷۲ ».
۱٥. الإحتجاج للطبرسي « ص ۳۱٥ ».
۱٦. لاحظ أن الحجّاج ختم على مجموعة من الصحابة كي لا يسمعهم الناس ، في اسد الغابة « ۲ : ٤۷۱ » ترجمة سهل الساعدي.
مقتبس من كتاب : [ جهاد الإمام السجاد عليه السلام ] / الصفحة : ٤۸ ـ ٥۸