أوّلاً : الولادة
يوجد إختلاف بين المحدّثين الشيعة في تحديد اليوم والشهر والسنة التي ولد فيها الإمام الرضا عليه السلام : فقيل إن مولده كان بالمدينة سنة ١٤٨ هـ (۱) وروى الصَّدوق أنّه ولد بالمدينة يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة ١٥٣ هـ بعد وفاة أبي عبد الله عليه السلام بخمس سنين (۲). أمّا المحقّق الأربلي فيساند هذا الرأي ، ولكن يذكر أنّه ولد في الحادي عشر من ذي الحجّة (۳). وأشار الشيخ الطبرسي إلى القولين ولكن لم يرجح أحدهما (٤).
وذكر الذهبي : أنّه ولد بالمدينة في سنة ١٤٨ هـ عام وفاة جدّه الإمام الصادق عليه السلام (٥) ، وهو الموافق للقول الأوّل.
من جانب آخر وردت روايات عن جدّه الإمام الصادق عليه السلام مفعمة بشحنة عاطفيّة كبيرة ، تبشر بولادته المباركة وتكشف عن المكانة المرموقة التي سيحتلها في العالم الإسلامي ، فعن يزيد بن سليط ، قال : لقينا أبا عبد الله عليه السلام في طريق مكّة ونحن جماعة ، فقلت له : بأبي أنت وأمّي أنتم الأئمّة المطهّرون والموت لايعرى منه أحد ، فاحدث إليّ شيئاً القيه إلى من يخلفني ، فقال لي : « نعم هؤلاء ولدي ، وهذا سيّدهم » وأشار إلى ابنه موسى عليه السلام « … يخرج الله تعالى منه غوث هذه الأمّة وغياثها وعلمها ونورها وفهمها وحكمها ، خير مولود وخير ناشئ يحقن الله به الدماء ويصلح به ذات البين ويلمّ به الشعث (٦) ويشعب به الصدع (۷) ويكسو به العاري ويشبع به الجائع ويؤمن به الخائف وينزل به القطر ويأتمر له العباد ، خير كهل وخير ناشئ ، يبشر به عشيرته قبل أوان حلمه ، قوله حكم وصمته علم ، يبين للناس ما يختلفون فيه .. » (۸).
ثانياً : النشأة
نشأ الإمام الرضا عليه السلام بين أحضان بيت أذهب الله تعالى عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، فهو ابن الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام الذي كان « أعبد أهل زمانه وأفقههم وأسخاهم كفّاً ، وأكرمهم نفساً … وكان الناس بالمدينة يُسمّونه زين المتهجِّدين ، ويعرف بالعبد الصالح » (۹).
ولما كانت الفروع تتبع الأصول ، والأصل الطيب يعطي ثمراً طيّباً فمن الطبيعي والحال هذه أن يتحلّى الابن بتلك الصفات الطيّبة والخصال الحميدة ، يقول الشيخ المفيد : « كان ـ أيّ الرضا عليه السلام ـ أفضل ولد أبي الحسن موسى : وأنبهَهُم وأعظمهُم قدراً وأعلمهم وأجمعهم فضلاً » (۱۰).
أمّا أمّه فعلى الرغم من وجود الإختلاف في اسمها وكنيتها ، فهناك اتّفاق على كونها من أفضل نساء زمانها من حيث العقل والدين.
قيل : تسمّى الخيزران ، وقيل : أروى ، وتلقب بشقراء النوبية. وقيل أمّه أم ولد يقال لها أمّ البنين وقيل : اسمها تكتم ، وقد يرجَّح ان الأخير هو اسمها ، وما سبقه ألقاب لها ، ويستدلّ لهذا بقول بعض مادحي الإمام :
ألا إن خير الناس نفساً ووالدا | ورهطاً وأجداداً علي المعظم | |
أتتنا به للعلم والحلم ثامناً | إماماً يؤدّي حجة الله « تكتم » (۱۱) |
والشيخ الصدوق يشير إلى القول الأخير برواية عن محمّد بن يحيى الصولي ويقول : إن أمّه هي أمّ ولد تسمّى تكتم. ثمّ يروي عن عون بن محمّد الكندي ، قال : سمعت أبا الحسن علي بن ميثم يقول : ما رأيت أحداً قطّ أعرف بأمور الأئمّة عليهم السلام وأخبارهم ومناكحهم منه ، قال : اشترت حميدة المصفاة وهي أمّ أبي الحسن موسى بن جعفر ـ وكانت من أشراف العجم ـ جارية مولدة (۱۲) واسمها تكتم ، وكانت من أفضل النساء في عقلها ودينها وإعظامها لمولاتها حميدة المصفاة ، حتّى انّها ما جلست بين يديها منذ ملكتها إجلالاً لها ، فقالت لابنها موسى عليه السلام : يا بنيّ ان تكتم جارية ما رأيت جارية قط أفضل منها ، ولست أشكّ أنّ الله تعالى سيظهر نسلها ان كان لها نسل ، وقد وهبتها لك فاستوصِ خيراً بها ، فلما ولدت له الرضا عليه السلام سمّاها الطاهرة (۱۳).
ولقد تناهت شخصيّة الإمام الرضا عليه السلام في السمو والجلال حتّى تطرزت بألقاب لامعة ، تعكس جوانب مختلفة من أخلاقه وآدابه ، منها : الصابر والرضي ، والوفي ، والزكي ، والولي ، ونور الهدى ، وسراج الله ، والفاضل ، وقرّة عين المؤمنين ، ومكيد الملحدين ، وأشهر ألقابه عليه السلام هو الرّضا (۱٤).
قيل : إن المأمون العبّاسي هو الذي أطلق عليه لقب « الرّضا » حين عهد إليه ولاية العهد ، ولكن الإمام أبا جعفر الجواد عليه السلام قد نفى ذلك بشدّة ، فعن البزنطي ، قال : قلت لأبي جعفر عليه السلام ان قوماً من مخالفيكم يزعمون أن أباك انّما سمّاه المأمون الرّضا لما رضيه لولاية عهده ، فقال : « كذبوا والله وفجروا بل الله تبارك وتعالى سمّاه الرضا لأنّه كان رضيّ الله عزّوجلّ ورضي رسوله والأئمّة بعده في أرضه ». قال : فقلت له : ألم يكن كل واحد من آبائك الماضين رضيّ الله عزّوجلّ ورسوله والأئمّة بعده ؟ فقال : « بلى » ، فقلت : فلم سمّي أبوك عليه السلام من بينهم الرضا ؟ قال : « لأنّه رضي به المخالفون من أعدائه كما رضي به الموافقون من أوليائه ، ولم يكن ذلك لأحد من آبائه عليهم السلام فلذلك سمّي من بينهم الرضا » (۱٥).
كان يكنى بأبي الحسن ، وورد على لسان بعض الرواة أبو الحسن الثاني ، قال علي بن يقطين : كنت عند العبد الصالح ـ يعني الإمام الكاظم عليه السلام ـ فقال : « يا علي بن يقطين ، هذا علي سيّد ولدي ، أما أنّه قد نحلته كنيتي » (۱٦).
معاصرته لمدرسة جدّه
قد تقدّم أن الإمام الرضا عليه السلام قد ولد في نفس السنة التي توفي فيها جدّه الامام الصادق عليه السلام ـ أي في سنة ١٤٨ هـ ـ على قول جمع كبير من العلماء والمؤرّخين مثل الشيخ المفيد في الإرشاد (۱۷) ، والكليني في الكافي (۱۸) ، والطبرسي في أعلام الورى (۱۹) .. وغير هؤلاء كثير.
وهناك من يذهب أبعد من ذلك ، فيرى أنه ولد بعد وفاة جدّه بخمسة أعوام (۲۰). وعليه يصحّ القول بأنّه لم يعاصر مدرسة جدّه ، وقد أشرنا إلى أن الإمام الصادق عليه السلام كان يتمنّى أن يدرك حفيده الرضا عليه السلام ، مع ذلك فانّنا لا نتجاوز الحقيقة إذا ما ادّعينا بأن الإمام الرضا عليه السلام قد عاصر مدرسة جدّه من الناحية العلميّة ، فإذا تأمّلنا الحقبة الزمنيّة التي تأسّست فيها مدرسة الإمام الصادق عليه السلام في مطلع القرن الثاني الهجري ، تلك المدرسة الكبرى التي امتدّت اشعاعاتها إلى عصور ما بعد التأسيس ، وانتشر شذاها إلى جميع البلدان.
يقول الشيخ المفيد : نقل الناس عن الإمام الصادق عليه السلام من العلوم ما سارت به الرُّكبان ، وانتشر ذكره في البلدان ، ولم ينقل عن أحد من أهل بيته ما نُقل عنه ، ولا لقي أحدٌ منهم من أهل الآثار ونقلة الأخبار ، ولا نقلوا عنهم كما نقلوا عن أبي عبد الله عليه السلام فإن أصحاب الحديث قد جمعوا أسماء الرُّواة عنه من الثِّقات ، على إختلافهم في الآراء والمقالات ، فكانوا أربعةَ آلاف رجلٍ (۲۱).
لقد اغتنم الإمام الصادق عليه السلام فترة الصراع الدائر بين الأمويين والعباسيين ، فشمّر عن ساعد الجدّ ، وقام بجهد علمي كبير من أجل التعريف بعلوم أهل البيت عليهم السلام ، وغدا مظلّة رحبة يأوى إليها طلاب العلم والمعرفة الحقّة.
ولما قوي ساعد العباسيين وخلا لهم الجو بعد انتصارهم على الأمويين ، استشعروا الخطر المحدق بهم من العلويين هذه المرّة ، فأخذوا يضيقون الخناق عليهم ، ولم يقتصر التضييق على الأرزاق ، وحريّة التعبير ، بل سدّوا عليهم المنافذ والمجالات من جهاتها ، ومن هذه المنافذ نافذة العلم والتدريس ، فبينما كان الطريق العلمي يكاد يكون مفتوحاً على مصراعيه أمام الإمام الصادق عليه السلام حتّى وصلت مدرسته إلى أوج مجدها العلمي ، وجد نفسه أمام عاصفة التحوّل السياسي التي أطاحت بالحكم الأموي وجاءت بالحكم العبّاسي ، الذي وقف بعنف تجاه كل التيارات التي يشمّ من ورائها رائحة السياسة ، وفي مقدّمتها التيار العلوي الذي كان بعض رجاله يقودون حركات تمرّد على السلطة العباسيّة هنا أو هناك ..
وجاء دور أبي جعفر المنصور ، ثاني خلفاء بني العبّاس ، فلم يستطع تحمّل ما يراه من امتداد مجد الإمام جعفر الصادق عليه السلام فمنذ تولّي السلطة « لم يهدأ خاطره ، فلم يزل يقلب وجوه الرأي ، ويديّر الحيل للتخلّص من الإمام الصادق عليه السلام لأن مدرسته قد اكتسبت شهرة علميّة بعيدة المدى فلم ترق له هذه الشهرة الواسعة » (۲۲).
ومن الشواهد على ذلك ما رواه نقلة الآثار من خبره مع المنصور لما أمر الرَّبيع بإحضار أبي عبد الله عليه السلام فأحضره ، فلمّا بصر به المنصور ، قال له : قتلني الله إن لم أقتلك ، أتلحدُ في سلطاني وتبغيني الغوائل ؟! فقال له أبو عبد الله عليه السلام : « والله ما فعلتُ ولا أردتُ ، فإن كان بلغك فمن كاذب .. » (۲۳). فاتّجه إلى التضييق على الإمام الصادق عليه السلام مدّة حياته.
المدرسة السرية
نهل الإمام موسى الكاظم عليه السلام من فيض غدير هذه المدرسة المباركة مدّة عقدين من الزمن ، فقد ولد سنة ١٢٨ هـ أو ١٢٩ هـ ـ على إختلاف الروايتين ـ وتُوفّي أبوه الصادق عليه السلام عام ١٤٨ هـ ، فكان من الطبيعي ـ بعد إنتقال الإمامة إليه ـ أن يشغل كرسي الاستاذية مكان أبيه ، « .. واجتمع جمهور شيعة أبيه على القول بإمامته والتّعظيم لحقِّه والتسليم لأمره ، ورووا عن أبيه عليه السلام نصوصاً عليه بالإمامة ، وإشارات إليه بالخلافة ، وأخذوا عنه معالم دينهم ، ورووا عنه من الآيات والمعجزات ما يُقطع به على حجّته وصواب القول بإمامته » (۲٤).
من أجل ذلك كان الاُستاذ الأكبر بعد أبيه في هذه المدرسة الكبرى « فقد روى عنه العلماء في فنون العلم من علم الدين وغيره ما ملأ بطون الدفاتر وألّفوا في ذلك المؤلّفات الكثيرة المرويّة عنه بالأسانيد المتّصلة ، وكان يُعرف بين الرواة بالعالم » (۲٥).
قال الشيخ المفيد : وقد روى الناس عن أبي الحسن موسى عليه السلام فأكثروا ، وكان أفقه أهل زمانه وأحفظهم لكتاب الله .. (۲٦).
كان هذا في أجواءٍ قد تعرّض عليه السلام فيها لضغط متزايد من حكّام عصره العباسيين ، ولكنه وعى المتغيّرات السياسيّة جيّداً ، فأخذ يبثّ علومه ومعارفه بصورة سرية ، ويتصرّف في حدود الهامش الضيق المتاح له ، وقد أشرنا لرواية هشام بن سالم التي ذكر فيها أن الإمام الكاظم عليه السلام دعاه إلى التمسّك بالسرية التامّة ، فإذا أذاع فهو الذبح ! وأشار بيده إلى حلقه.
وقد وصل الأمر في زمانه إلى حدّ « أن الراوي إذا روى الحديث عنه لا يسنده إليه بصريح اسمه ، بل بكناه : مرّة بأبي إبراهيم ، وأبي الحسن ، وبألقابه الأخرى ؛ العبد الصالح ، والعالم وأمثالهما ، وبالإشارة إليه تارة كقوله عن رجل ، إذ قلّما تجد اسمه الشريف صريحاً في حديث ، لشدّة التقيّة في أيّامه ولكثرة التضييق عليه ممّن عاصره من العباسيين كالمنصور والمهدي والهادي ، وبقي سلام الله عليه يحمل إلى السجن مرّة ويطلق منه أخرى أربعة عشر سنة ، وهي مدّة أيّامه مع الرشيد » (۲۷) إلى أن انتهت رحلة العذاب التي قطعها بوفاته مسجوناً مسموماً.
المدرسة السّيارة
مع كلّ ذلك واصلت مدرسة أهل البيت عليهم السلام عطاءها العلمي ولكن في الخفاء والتستر ، وقد قيض الله تعالى لها رائداً جديداً ، وعلماً خفاقاً ، ذاع صيته في جميع الآفاق ، ألا وهو الإمام الرضا عليه السلام.
صحيح أن إمامنا الرضا عليه السلام لم يعاصر جدّه تاريخيّاً ، ولكن الصحيح أيضاً أنه عاصره علميّاً ، وذلك لأن والده الكاظم عليه السلام كان قد عاش مع أبيه الصادق عليه السلام مدّة عقدين من الزمن ، والإمام الرضا عليه السلام ـ بدوره ـ قد عاصر أباه ثلاثة عقود من الزمن.
وقد استغلّ إمامنا فترة الصراع بين الأخوة ـ الأعداء « الأمين والمأمون » فرفع راية الهدى واستخدم أسلوباً جديداً لتفعيل مدرسة أهل البيت عليهم السلام يمكن أن نطلق عليه أسلوب « المدرسة السّيارة » بعد أن وجد أن مدرسة أهل البيت عليهم السلام قد حوصرت في المدينة المنوّرة. هذا الإستنتاج لا نذهب إليه جزافاً ، فهناك أقوال وروايات تشهد على أن الإمام الرضا عليه السلام ـ عميد هذه المدرسة ـ كانت له جهود قيّمة في عدّةٍ من بلدان العالم الإسلامي ومدنه الهامّة وترك فيها آثاراً جليلة ، ولعلّ من أهمّها :
أوّلاً : المدينة المنوّرة
كان الإمام الرضا عليه السلام يقوم بحركة علميّة نشطة ، حتّى أن بعض الشيعة ـ كما أسلفنا ـ قد حذره من سيف هارون الذي يقطر دماً ـ حسب تعبيرهم ـ ودعوه إلى مراعاة التقيّة والتبليغ بسرية.
وممّا يعكس مدى نشاطه العلمي في المدينة ، ما ورد من أقوال أبرز علماء التراجم والرجال بحقّه ، أكّد « الواقدي » على أن الإمام الرضا عليه السلام كان يفتي بمسجد رسول الله رغم حداثة سنّه ، قال : « سمع عليٌ الحديث من أبيه وعمومته وغيرهم ، وكان ثقة ، يفتي بمسجد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وهو ابن نيف وعشرين سنة ، وهو من الطبقة الثامنة من التابعين من أهل المدينة » (۲۸).
أمّا الحافظ الذهبي فقد أشاد بمكانة الرضا عليه السلام العلميّة ومنزلته الدينيّة معاً ، عندما قال : « كان من العلم والدِّين والسُّودد بمكان يقال : أفتى وهو شابٌ في أيّام مالك » (۲۹).
ثانياً : البصرة
جاء في بعض الروايات أن الإمام الرضا عليه السلام سافر إلى البصرة بعد وفاة أبيه الإمام الكاظم عليه السلام للتدليل على إمامته ، وإبطال شبهة المنحرفين عن الحقّ ، وقد نزل ضيفاً في دار الحسن بن محمّد العلوي ، وعقد في داره مؤتمراً عاماً ضمّ جمعاً من المسلمين كان من بينهم عمرو بن هداب ، وهو من المنحرفين عن آل البيت عليهم السلام والمعادين لهم ، كما دعا فيه جاثليق النصارى ، ورأس الجالوت ، والتفت إليهم الإمام فقال لهم :
« إنّي انّما جمعتكم لتسألوني عمّا شئتم من آثار النبوّة وعلامات الإمامة التي لا تجدونها إلّا عندنا أهل البيت ، فهلموا .. » وتقدم كلّ واحد منهم أمام الإمام فسأله عن مسألة فأجاب عليه السلام عنها بلغته ، فبهر القوم وعجبوا .. (۳۰) والرواية طويلة اقتصرنا منها على موضع الحاجة.
ثالثاً : الكوفة
وقصد الإمام الرضا عليه السلام الكوفة ، وهناك استقبل استقبالاً حافلاً يليق بشأنه ، ونزل ضيفاً في دار حفص بن عمير اليشكري ، وقد احتفّ به العلماء والمتكلّمون وهم يسألونه عن مختلف المسائل ، وهو يجيبهم عنها ، كان بمثابة « مؤتمر عام » حضره بعض علماء النصارى واليهود وجرت بينه وبينهم مناظرات عرض فيها حججاً مجلجلة تقرع آذانهم وتفحم ألسنتهم (۳۱).
رابعاً : نيسابور
وفي مروره بنيسابور قاصداً مرو انساب صوته الهادئ يلف أرجاء هذه المدينة ليلامس الاسماع برفق ، ويلج القلوب المتعطشة إلى المعرفة الحقّة ، فقد عمت الفرحة والبهجة أرجاء المدينة حين قدومه إليها ، وقد استقبل استقبالاً شعبياً منقطع النظير ، فلم تشاهد نيسابور في جميع تاريخها مثل ذلك الإستقبال ، وكان في طليعة المستقبلين كبار العلماء والفضلاء ورجال الحديث ، وعرض له أشهر حفاظ الحديث من أهل السنّة في ذلك الزمان كأبي زرعة الرازي (۳۲) ، ومحمّد بن أسلم الطوسي (۳۳) ومعهما خلائق لا يحصون من طلبة العلم مع أقطاب كلّ فن فالتمسوا منه أن يتحفهم بحديث سمعه من آبائه عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فأتحفهم بحديثه الذي عرف اسناده بسلسلة الذهب (۳٤) ، وفي ذلك يقول عبد السلام بن صالح أبو الصلت الهروي : كنت مع علي بن موسى الرضا عليه السلام حين رحل من نيسابور وهو راكب بغلة شهباء فإذا محمّد بن رافع (۳٥) وأحمد بن الحرث (۳٦) ويحيى بن يحيى (۳۷) وإسحاق بن راهويه (۳۸) وعدّة من أهل العلم قد تعلقوا بلجام بغلته في المربعة ، فقالوا : بحقّ آبائك الطاهرين حدّثنا بحديث سمعته من أبيك فاخرج رأسه من العمارية وعليه مطرف خزّ ذو وجهين ، وقال : « سمعت أبي العبد الصالح موسى بن جعفر ـ وعدد سلسلة آبائه ـ ثمّ قال : سمعت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول : سمعت جبرئيل يقول : قال الله جل جلاله : انّي أنا الله لا إله إلّا أنا فاعبدوني ، من جاء منكم بشهادة أن لا إله إلّا الله بالاخلاص دخل في حصني ومن دخل في حصني أمن من عذابي » (۳۹).
وعن إسحاق بن راهويه ، أنّه قال : فلمّا مرّت الراحلة نادانا « بشروطها وأنا من شروطها » (٤۰).
وحدّث أبو الصلت الهروي أن الإمام الرضا عليه السلام قال في نيسابور بعد أن ذكر الإسناد المتقدّم عن آبائه عليهم السلام أن علي بن أبي طالب عليه السلام ، قال : « سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول : الإيمان معرفة بالقلب ، وإقرار باللسان ، وعمل بالأركان » ، قال : وقال أحمد بن حنبل : لو قرأت هذه الإسناد على مجنون لبرأ من جنونه (٤۱).
خامساً : مرو
تحرك الإمام من نيسابور ليتابع رحلته إلى مرو حيث المأمون يستعد لاستقباله والحفاوة به ، ولما دخلها أنزله منزلاً كريماً محاطاً بكلّ مظاهر التقدير والاحترام. وهناك حيث استقرّ الإمام الرضا عليه السلام صرف معظم وقته لبثّ العلوم ، وعقد العديد من المجالس العلميّة الكبيرة التي كان يحضرها جلّ علماء المصر ، فعاش حياته القصيرة في مرو معلّماً ناشراً للعلوم ، حيث سنرى لاحقاً أنه قد انصرف عن دوره السياسي كولي للعهد ومارس دوره العلمي من موقعه الديني الرفيع.
وهناك حظي العديد من أهل العلم ورواة الحديث بلقائه والنقل عنه والإستماع إلى أحاديثه ، فعرفه من لم يكن يعرفه ، وذاع صيته أكثر فأكثر في أصقاع البلاد ، كأبرز رجال العلم وأوسعهم معرفة وأكثرهم جلالة وشرفاً ..
قال أبو الصلت عبد السلام الهروي ، وهو من أعلام عصره : ما رأيت أعلم من علي بن موسى الرضا عليه السلام ولا رآه عالم إلّا شهد له بمثل شهادتي ، ولقد جمع المأمون في مجلس له عدداً من علماء الأديان وفقهاء الشريعة والمتكلّمين فغلبهم عن آخرهم ، حتّى ما بقي منهم أحد إلّا أقرّ له بالفضل وأقرَّ على نفسه بالقصور .. (٤۲). فقد قام هؤلاء العلماء بالتفتيش عن أعقد المسائل وأكثرها صعوبة وعمقاً في جميع أنواع العلوم ، وعرضوها على الإمام فأجاب عنها جواب العالم الخبير المتمرِّس فيها ، يقول الرواة : أنّه سئل عن أكثر من عشرين ألف مسألة في نوب مختلفة عاد فيها بلاط المأمون إلى مركز علمي ، وخرجت الوفود العلميّة وهي مليئة بالاعجاب والاكبار بمواهب الإمام وعبقريّته ، وأخذت تذيع على الناس ما يملكه الإمام من طاقات هائلة من العلم والفضل ، كما ذهب معظمهم إلى القول بإمامته (٤۳).
هذه الجولة العلميّة وما رافقها من جهد علمي كبير تثبت ـ بما لا يدع مجالاً للشكّ ـ بأن إمامنا قد اتبع أسلوباً جديداً ومبتكراً في بثّ علوم آل البيت عليهم السلام وهو ما أطلقنا عليه تعبير « المدرسة السّيارة » ، ويبدو أن الظروف السياسيّة هي التي حملته على اتباع هذا الأسلوب.
روى الصدوق بسنده عن الريّان بن الصلت وكان من رجال الحسن ابن سهل : أن مسير الإمام الرضا عليه السلام كان عن طريق البصرة والأهواز وفارس ، قال : .. فكتب إليه المأمون لا تأخذه على طريق الكوفة وقم ، فحمل على طريق البصرة والأهواز وفارس حتّى وافى مرو (٤٤). ومنذ أن غادر الإمام الرضا عليه السلام بيت الله الحرام متوجّهاً إلى خراسان قوبل بمنتهى الحفاوة والتكريم والاجلال في كلّ بلد أو حيّ يمرّ به ، وكان الناس يسألونه عن أحكام دينهم وهو يجيب عنها.
لقد أراد المأمون أن يكون سفر الإمام عليه السلام غامضاً عبر الطريق الصحراوي القاحل ، ولكن إمامنا استغلّ هذه الفرصة المناسبة لنشر علوم مدرسة أهل البيت عليهم السلام ، وادامة عطائها العلمي والمعرفي.
الهوامش
۱. انظر : الإرشاد ٢ : ٢٤٧ ، والكافي ١ : ٤٨٦ / ١١.
۲. عيون أخبار الرضا عليه السلام ١ : ٢٨ ، ح ١ ، باب ٣.
۳. كشف الغمّة ٣ : ٥٣.
٤. اعلام الورى ٢ : ٤١.
٥. سير أعلام النبلاء ٩ : ٣٨٨ ، ترجمة ١٢٥.
٦. أيّ يسدّ به الخلل.
۷. أيّ يجمع به الشقّ والفرقة.
۸. اعلام الورى ٢ : ٤٨ ، وعيون أخبار الرضا عليه السلام ١ : ٣٣ ، ح ٩٦ ، باب ٤.
۹. انظر : الارشاد ٢ : ٢٣١ ، ٢٣٥.
۱۰. الارشاد ٢ : ٢٤٤.
۱۱. راجع : الارشاد ٢ : ٢٤٧ ، اعلام الورى ٢ : ٤١ ، دلائل الإمامة : ٣٤٨.
۱۲. المولدة : هي التي ولدت بين العرب ، ونشأت مع أولادهم.
۱۳. اعلام الورى / الطبرسي ٢ : ٤٠ ، ح ٢ ، عيون أخبار الرضا عليه السلام ١ : ٢٤ ، باب ٢ ، كشف الغمة ٣ : ٩٠.
۱٤. دلائل الإمامة : ٣٥٩ ، الإمام الرضا عليه السلام ، لقبه.
۱٥. عيون أخبار الرضا عليه السلام ١ : ٢٢ ، ح١ ، باب ١.
۱٦. روضة الواعظين / الفتال النيسابوري ١ : ٢٢٢.
۱۷. الإرشاد ٢ : ٢٤٧.
۱۸. أصول الكافي ١ : ٤٠٦.
۱۹. اعلام الورى ٢ : ٤٠.
۲۰. أعيان الشيعة ٢ : ١٢.
۲۱. الإرشاد ج ٢ : ١٧٩.
۲۲. الإمام الصادق / د. حسين الحاج : ٨.
۲۳. الإرشاد ٢ : ١٨٢.
۲٤. الإرشاد ٢ : ٢١٤.
۲٥. الإرشاد ٤ : ٨٤.
۲٦. الإرشاد ٢ : ٢٣٥.
۲۷. جهاد الشيعة : ٣٠٠.
۲۸. تذكرة الخواص / سبط ابن الجوزي : ٣٥١ ـ ٣٥٢.
۲۹. سير أعلام النبلاء ٩ : ٣٨٨ ، ترجمة ١٢٥.
۳۰. الخرائج والجرائح / قطب الدين الراوندي ١ : ٣٤٢ ـ ٣٤٣ ، ح ٦ ، باب ٩.
۳۱. اُنظر : الخرائج والجرائح ١ : ٢٠٤ ـ ٢٠٦.
۳۲. أبو زرعة الرازي ، يطلق على ثلاثة ، والظاهر أن المراد هنا أبو زرعة الكبير الإمام الحافظ عبيد الله بن عبد الكريم ، لكن قيل في ولادته أنّها كانت بعد نيف ومائتين ، وذكر ابن أبي حاتم أن أبا زرعة هذا سمع من عبد الله بن صالح العجلي ، والحسن بن عطية بن نجيح وهما ممّن توفي سنة ٢١١ هـ ، وبذلك تثبت معاصرته للإمام الرضا عليه السلام. راجع : سير اعلام النبلاء ١٣ : ٦٥ / ٤٨ و ١٧ : ٥١ / ٢٠.
۳۳. محمّد بن أسلم الطوسي : هو ابن سالم بن يزيد ، الإمام الحافظ الرباني ، شيخ الإسلام أبو الحسن الكندي مولاهم الخراساني الطوسي. مولده حدود ١٨٠ وتوفّي سنة ٢٤٢ هـ بنيسابور. سير أعلام النبلاء : ١٢ : ١٩٥ / ٧٠.
۳٤. اُنظر : الفصول المهمة / ابن الصباغ المالكي : ٢٥٠.
۳٥. محمّد بن رافع ، ابن أبي زيد ، واسمه سابور ، الإمام الحافظ الحجّة القدوة ، بغية الاعلام ، أبو عبد الله القشيري مولاهم النيسابورين ولد سنة نيِّف وسبعين ومئة في أيام الإمام مالك ، ورحل سنة نيف وتسعين. سير أعلام النبلاء : ١٢ : ٢١٤ / ٧٤.
۳٦. كذا في عيون أخبار الرضا عليه السلام ، ولعلّه أحمد بن حرب بن فيروز ، شيخ نيسابور ، أبو عبد الله النيسابوري ، كان من كبار الفقهاء والعباد ، توفي سنة ٢٣٤ هـ وقد قارب الستّين. راجع : سير أعلام النبلاء ١١ : ٣٢ / ١٤.
۳۷. هو يحيى بن يحيى بن بكر ، شيخ الإسلام ، وعالم خراسان ، أبو زكريّا المنقري النيسابوري الحافظ المتوفي سنة ٢٢٦ هـ. سير أعلام النبلاء ١٠ : ٥١٢ / ١٦٧.
۳۸. هو الإمام الكبير ، شيخ المشرق ، سيّد الحفّاظ ، أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الحنظلي المروزي ، نزيل نيسابور ، مولده ١٦١ هـ ، توفّي سنة ٢٣٨ هـ. سير أعلام النبلاء ١١ : ٣٥٨ / ٧٩.
۳۹. عيون أخبار الرضا عليه السلام : ١٤٣ ، ح ١ ، باب ٣٧.
٤۰. عيون أخبار الرضا عليه السلام ٢ : ١٤٥ ، ح ٤ ، باب ٣٧.
٤۱. اُنظر : كشف الغمة ٣ : ١٠٠.
٤۲. اعلام الورى ٢ : ٦٤ ، الفصل الرابع.
٤۳. حياة الإمام علي الرضا عليه السلام / القرشي : ١٠٢.
٤٤. عيون أخبار الرضا عليه السلام ٢ : ١٦١ ح ٢١ ، باب ٤٠.
مقتبس من كتاب : [ الإمام الرضا عليه السلام سيرة وتاريخ ] / الصفحة : ۲۳ ـ ۳۸