ولم تهتدِ المسيحية لابتعادها عن الحق في تشخيص مقام مريم وابنها المسيح، فتطرّفت في ذلك حتى جعلت المسيح ثالث ثلاثة، وألّهت المسيح وأمّه، وقد عالج الاسلام هذه المشكلة الفكرية التي وقعت بها المسيحية لابتعادها عن حقيقة تعاليمها السماوية، وأبطل أول الأمر الألوهية لهذين العبدين القانتين لله تعالى، وأكّد خضوع المسيح وعبوديته لله سبحانه ﴿ … وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾ 1 اذ حدد مهمة عيسى أولاً وهي العبودية المحضة والطاعة الخالصة لله الواحد الأحد، ودون ذلك شرك وظلم يستحق معتقده النار، ثم أشار الى بشرية مريم وأمّه وأكد أنهما بشرين وأنهما نالا مقام الحجية لله تعالى بطاعتهما وعبادتهما له، فأشار لاحدهما بالرسالة وللآخر بالحجّية بقوله ﴿ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ ﴾ 2، فالاسلام أكد حدود بشريتهما أولاً ثم أشار الى حجيتهما ثانياً بطاعتهما وعبوديتهما لله تعالى، ومع ذلك كلّه لم يجد الكافرون غير التكذيب والأفك امّا معاداة أو علواً ومن ثم على الله تعالى بادعائهم ألوهيتهما، لذا فانّ القرآن يصرّح بكل شدة الى كفر من قال انّ المسيح هو الله، ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ … ﴾ 1 ولم يكتفوا هؤلاء بغيّهم وكفرهم حتى جعلوا الله ثالث ثلاثة وأشار الى كفرهم ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا إِلَٰهٌ وَاحِدٌ … ﴾ 3 فقد دأب القرآن الكريم الى كشف هذه الاعتقادات المزيّفة وفضحها لغرض تقنين المعتقد وعدم تسيّب الفكر بسبب الدوافع العاطفية والتي تؤول الى فوضى فكرية حقيقية، فحدد القرآن معالم هذا المعتقد وأطّره ضمن مبادىء ومسلّمات عقائدية والخروج عن هذه الدائرة الفكرية سيؤول الى الغلو والضلال ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴾ 4.
فالقرآن كما استنكر على النصارى غلوهم في المسيح وأمّه، كذلك استنكر على اليهود تقصيرهم في الاقرار بمقامهما والعداء لهما والخصومة، فهو كما ينفي الغلو ينفي التقصير في التسليم لهما في الحجية، فلا حجيتهما تستدعي الالوهية ولا بشريتهما تستدعي عدم الحجية وهذا ما يركز عليه القرآن الكريم في كثير من الانبياء والرسل كما في قوله تعالى تعليماً لنبيّه(صلى الله عليه وآله) ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ … ﴾ 5 فالوحي لا ينفي البشرية ولا البشرية تنفي تميزه واختصاصه بالوحي، وقوله تعالى حكاية عن ابراهيم ﴿ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا ﴾ 6. وكذا بقية الانبياء حسبما يذكره القرآن الكريم مع أقوامهم فانهم في الغالب يقعون في أحد الطرفين اما التقصير وظن أن البشرية تنفي الحجية والارتباط بالغيب، أو الغلو وأن الارتباط بالغيب ينفي البشرية، كما حصل لليهود في عزيز، فالطريقة الوسطى والمحجة الواضحة هو نفي كل منهما، والتسليم بالحجية وأنهم بشر ينفي الافراط والتفريط، كما ينفي المعاداة لأولياء الله، فالوظيفة اتجاه حجج الله أن لا يكون الفرد من الغالين المفوضين، ولا من الناصبين المعاديين ولا من المقصرين المرتابين، كما ورد في الزيارة الجامعة الكبيرة: “فالراغب عنكم مارق واللازم لكم لاحق والمقصّر في حقّكم زاهق”.
فبعد أن حدد ماهية المسيح البشرية وأشار الى رسالته، نهى الخروج عن دائرة هذا التشخيص والقول بخلاف هذه الحدود البشرية لرسول الله المسيح وأمّه الصديقة.
أما ما يشهد للتشريك بالحجية، فضلاً عن اشتراكهما في ذكر النعم والمنن عليهما من قبل الله تعالى فلقوله تعالى﴿ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ … ﴾ 7 والآية هي الحجة كما هو معلوم عن أبي عبدالله(عليه السلام) في قول الله عزّوجل: ﴿ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ … ﴾ 7 قال: “أي حجة”8، فاقترانهما في ذكر كونهما آية دليل على تقارب حجيتهما واشتراكهما كذلك 9.
- 1. a. b. القران الكريم: سورة المائدة (5)، الآية: 72، الصفحة: 120.
- 2. القران الكريم: سورة المائدة (5)، الآية: 75، الصفحة: 120.
- 3. القران الكريم: سورة المائدة (5)، الآية: 73، الصفحة: 120.
- 4. القران الكريم: سورة النساء (4)، الآية: 171، الصفحة: 105.
- 5. القران الكريم: سورة الكهف (18)، الآية: 110، الصفحة: 304.
- 6. القران الكريم: سورة مريم (19)، الآية: 43، الصفحة: 308.
- 7. a. b. القران الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 50، الصفحة: 56.
- 8. البرهان: 3:113.
- 9. المصدر: كتاب مقامات فاطمة الزهراء تحرير سماحة السيد محمد علي الحلو رحمه الله.