ميزة الحياة الإنسانية أنّها تنشأ عن إرادة واختيار من دون ضغط أو إجبار وإكراه، وتلك الميزة هي التي كانت تدفع بالشعوب غالباً إلى الثورة على الأوضاع المنحرفة التي كانت تمارسها الأنظمة الديكتاتورية التي كانت تصادر من خلال قدراتها حريّات الأفراد وتحدّد لهم اختياراتهم بحدود المصالح المتطابقة مع حجم الحكم الديكتاتوري المستبدّ وساحة أهدافه المنحصرة غالباً بالتربّع على قمة السلطة دون النظر إلى المصالح العامّة للمجتمع إلاّ بمقدار ما تؤدّي إلى تقوية السلطة وتدعيم وتركيز قوّة الحاكم الظالم.
من هذا المسار المنحرف الذي كان يلغي في الإنسان إنسانيته على أساس أنّ الحرية مفهوم يحدّده الحاكم بالطريقة التي تناسب طموحاته، هو الذي كان يدفع بالفلاسفة من جهة، وبالمصلحين الإجتماعيين من جهةٍ أخرى إلى الثورة على ذلك الواقع الفاسد من خلال تبيان مساوئ ذلك المسار ومفاسده وبالتالي لمنافاته لما فُطر عليه الإنسان من النزوح نحو الحرية وامتلاك الإرادة المستقلّة في الإختيار، وتارةً من خلال الثورة المسلّحة عندما كانت قضية الإستبداد تصل إلى الحد الذي تُسحق فيه إرادة الشعوب وحقّها في اختيار الأنسب والأصلح لها، وهذا ما نلحظه بوضوحٍ عند مطالعتنا لسيرة الشعوب وتاريخها الطويل المليء بالمشاهد المأساوية المعبّرة عن الثمن الكبير الذي دفعته البشرية في سبيل امتلاك حريتها وإرادتها.
ولهذا نرى أنّ قضية الحرية ما زالت مسار خلاف حتّى الآن بدءاً من تحديد مفهومها ومعناها ووصولاً إلى مستوى التطبيق والتنفيذ العملي لها، بحيث أنّ أصحاب كلّ عقيدة أو فكرٍ ما يفسّرون الحرية بالطريقة التي يرونها متناسبة مع الأهداف والغايات التي يسعى إليها واضعوه، سواء كان ذلك الفكر إلهي المصدر أو وضعي المصدر كذلك.
إلاّ أنّه يمكننا القول بشكلٍ حازم إنّ الحرية المنطلقة من الفكر الوضعي عموماً لا تلحظ قيمة الإنسان عند وضعها لتشريعات الحرية بنحوٍ شامل، وإنّما تلحظه بما هو حر حسب نظرتها إلى الإنسان ودوره في تحقيق الأهداف المرادة لها، ومن هنا يمكننا فهم عملية التجاذب بين العقائد المتعدّدة المنطلقة من المصادر الوضعية، التي تأخذ بعين الإعتبار الإنسان المقيّد بقيودها وحدودها، أمّا في الإسلام، الدين الإلهي المصدر والتشريعات والأهداف، نلحظ أنّ التشريعات الراجعة إلى قضية الحرية ناظرة أولاً وبالذات إلى القيمة المعنوية والأخلاقية والسلوكية التي تمثلها الإنسانية، من دون الأخذ بعين الإعتبار للون معيّن أو جنس معيّن أو أبناء لغة محدّدة، ولهذا كان مفهوم الحرية في الإسلام واضحاً ومحدّداً لا غموض فيه ولا إبهام، إن كان على مستوى المفهوم أو على مستوى التطبيق العملي والواقعي.
إلاّ أنّ النقطة الأبرز في قضية الحرية هي: (هل أنّ الحرية مطلقة غير مقيّدة بأيّ قيدٍ أبداً، أو أنّها حرية مسؤولة تقف عند حدود معيّنة بحيث إذا تجاوزتها أصبحت فوضى وتحلّلاً وانفلاتاً؟).
هذه النقطة بالذات هي التي ينبغي التوقّف عندها للبحث عنها لإعطاء الإجابة التي تتمكّن من الردّ على الكثير من التساؤلات والشبهات التي تُثار حول قضية الحرية، وانطلاقاً من الشريعة الإسلامية يتبيّن أنّ الحرية ليست مطلقة إلى حدّ الإنفلات والتحلّل، وإنّما هي الحرية المسؤولة ضمن دائرة التشريع الإلهي المنضبط والمحدّد ضمن أطر التكليف العادل الذي يسمح للإنسان بإبراز كامل طاقاته وقدراته ومؤهّلاته، لكن على أن تتجاوز الإستفادة من كلّ ذلك الحدود التي حدّدها الله سبحانه وتعالى لعباده الذين ما ترك شيئاً يقرّبهم إليه إلاّ وشجعهم إليه، وما ترك شيئاً يبعدهم عنه إلاّ ونهاهم عنه، أمّا فيما عدا ذلك فالإنسان حرّ مختار مريد، لا يحقّ لأيّ فردٍ أو لأيّة جهةٍ أن تفرض عليه أو تملي عليه شيئاً يحدّ من حريّته واستقلالية اختياره وقراره.
ولم يكتف الإسلام بوضع التشريعات لقضية الحرية، بل جعل السلطة الحاكمة ملزمة بالحفاظ على حريات الأفراد وبالسهر على مصالحهم وعلى رعاية الحقوق المتعلّقة بهم إلى حدّ القداسة، بحيث أنّ أيّ اعتداءٍ على حقّ من الحقوق الراجعة إلى أيّ فردٍ في المجتمع من دون وجود المبرّر الشرعي والقانوني يعتبر جريمة في نظر الشريعة ومرتكب هذا العمل مستحقّ للعقاب لأنّه انتهاك وامتهان لحقّ الإنسانية بشكلٍ عام في مثل تلك الصورة.
والحرية بهذا المعنى، هي التي تشكّل الدافع والمحرّك للأفراد نحو الحركة والإنتاج والإبداع، لأنّ الإنسان حينها لن يعيش الخوف على المصير، وهذا ما يؤدّي به إلى استعمال الحد الأقصى من طاقته، لكن ضمن الحدود المسؤولة للحرية بالنحو الذي ذكرناه، وفي نفس الوقت تكون القيادة هي العين الساهرة من خلال الأجهزة المخوّلة بالسهر على ذلك.
وهذا المعنى من الحرية هو الذي كان يُشعر الإنسان المسلم بقيمته وأنّه ليس مجرّد كم عددي يُراد منه أن يكون ألعوبة بأيدي الفئات المتنافسة التي يحاول كلّ منها استرضاء الناس وإبراز أنّه المحامي والمدافع عن قضاياهم، في الوقت الذي يُراد منهم حقيقة أن يؤيّدوا المشروع الذي تحمله كلّ فئة من الفئات الطامحة إلى الحكم والسلطة كما هو واقع الحال في الأنظمة التي تدّعى أنّها الأنظمة الديمقراطية القائمة على أساس احترام حرية الفرد وحقوقه.
فحرية الحاكم في الإسلام لا تعني استغلال السلطة من جانبه لتقوية مركزه على حساب الآخرين، بل لا يحقّ له ذلك، وعلى الأمّة حينها أن تسقط ذلك الحاكم الذي ائتمنه على حقوقها، لأنّ وظيفة الحاكم هي الحفاظ على التوجّهات السليمة للأمّة، مُضافاً إلى رعاية المصالح الراجعة إليها كذلك، بحيث لا يعطيه المنصب الذي هو فيه الحق بأن يتجاوز تلك الحدود.
فالحرية للحاكم لا تعني التسلّط، ولا محاباة فئة على فئة أخرى، ولا ترمز إلى كمّ الأفواه الناقدة لبعض التصرّفات الصادرة ممّا لا تؤدّي الأهداف المطلوبة منها، ولا تعني ضرب المعارضين وما إلى هنالك من الأساليب التي يتّبعها الحكّام المنحرفون عندما لا يتمكنون من الحفاظ على امتيازاتهم في السلطة إلاّ عبر هذا السبيل الخاطئ والبعيد عن احترام حقوق الإنسان في التعبير عن آرائه وقناعاته، خاصة عندما تكون السلطة الحاكمة غير مبالية بحقوقه وآرائه.
لهذا، فإنّ حرية الحاكم في الإسلام، أُريد لها أن تكون معبراً وجسراً لحرية الأمّة، لكن من موقع المساواة بين الحاكم والمحكوم، فليس القانون قابلاً للتطبيق على المحكوم دون الحاكم، لأنّ الناس من هذه الجهة متساوون كما في الحديث المعروف: (الناس سواسية كأسنان المشط).
من هنا، فإنّ الإسلام لم يجعل من منصب قيادة الأمّة وهو المنصب الحسّاس المطلوب منه حماية توجّهات الأمّة ورعاية مصالحها، مطمعاً لكلّ إنسان وطالب، بل جعله مقيّداً بقيود مشدّدة تمنع الحاكم من الإستبداد والتفرّد بالسلطة، كما هو الحال عند أولئك المتحمسين للديموقراطية الذين تسمح ديموقراطيتهم بوصول الإنتهازيين مهما كانت مواصفاتهم إلى قمّة السلطة عبر استمالتهم للأكثرية من الرأي العام إلى جانبهم من خلال أساليب الدعاية والإعلام الذي لا ضابطة أخلاقية له عندهم.
ولهذا نجد في تاريخنا الإسلامي بدءاً من رسول الله خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وآله الذي لم تمنعه نبوّته من أن يقف أمام المسلمين خطيباً ليقول لهم بأن من كان لديه حقّ عندي فليأتِ لأخذه في هذه الدنيا، لأنّ ذلك أهون عنده من أخذ ذلك الحق يوم القيامة، وكذلك أمير المؤمنين عليه السلام عندما يقف أمام القاضي عندما ادّعى على أحدهم ملكية شيء كان قد أضاعه، إلاّ أنّه نتيجةً لعدم وجود بيِّنة لديه لم يحكم له القاضي، مع أنّ الإمام عليه السلام هو من كان قد عيّنه لذلك المنصب.
وفي زمننا الحاضر، رأينا كيف كان الإمام الخميني قدس سره عندما امتلك زمام الأمور في الجمهورية الإسلامية، كيف حكم، وكيف تعامل مع موقع قيادة الأمّة، حيث رأينا نموذجاً راقياً من صنع الإسلام وطريقة أهل البيت(عليهم السلام)، التي تعني أن يكون الحاكم أباً عطوفاً وخادماً مُطيعاً لله مُحترماً لأمّته يسعى لراحتها وهنائها من خلال سهره الدائم على مصالحها وحريّاتها العامّة، لتبقى الأمّة حاضرة للتضحية والعمل والجهاد، لأنّ الحاكم عندما يكون ملتزماً نهج الله وخائفاً من نفسه أمام الله، فإنّه لن يبيع الأمّة ولن يتهاون في حقوقها، كما أنّه لن يرهقها ويظلمها في سبيل مصالحه، لأنّ مصالح الأمّة عندئذٍ هي مصالحه التي عليه أن يرعاها ويحفظها.
وفي ظلّ القيادة الحكيمة لآية الله السيد علي الخامنئي ولي أمر المسلمين لا نجد اختلافاً في هذا المسار الواحد، باعتبار أنّ التبدّل في الأشخاص مع وحدة المبدأ والعقيدة التي ينتمي إليها أولئك لا تعني تغيراً على مستوى الشعار أو الهدف أو السلوك.
والحمد لله ربّ العالمين1.
- 1. نقلا عن الموقع الرسمي لسماحة الشيخ محمد توفيق المقداد حفظه الله.