لا بُدَّ لمن يريد أن يتجنب الإسراف الذي نهى الله عَزَّ و جَلَّ عنه أن يعرف حد الاسراف حتى لا يتجاوزه.
الاسراف هو تجاوز الحد في الانفاق و الصرف و عدم مراعاة الاقتصاد، ذلك لأن الحد المسموح به في الصرف و الانفاق هو ما ترتفع به الحاجة، فيكون الزائد إسرافاً و حراماً، بل و تجاوزاً على حقوق الآخرين.
المال مال الله
من الواضح أن أموالنا التي هي بحوزتنا إنما هي في الحقيقة أمانة بأيدينا و هي مال الله الذي أباح لنا التصرف فيها لرفع حاجاتنا فحسب، فلا بد أن نتقيد في صرف أموالنا بالحدود الشرعية التي حددها الله تعالى لنا.
رَوَى الْعَيَّاشِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، عَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ أنَّهُ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ 1 عليه السَّلام: “أَ تَرَى اللَّهَ أَعْطَى مَنْ أَعْطَى مِنْ كَرَامَتِهِ عَلَيْهِ وَ مَنَعَ مَنْ مَنَعَ مِنْ هَوَانٍ بِهِ عَلَيْهِ! كَلَّا، وَ لَكِنَّ الْمَالَ مَالُ اللَّهِ يَضَعُهُ عِنْدَ الرَّجُلِ وَدَائِعَ، وَ جَوَّزَ لَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا قَصْداً، وَ يَشْرَبُوا قَصْداً، وَ يَلْبَسُوا قَصْداً، وَ يَنْكِحُوا قَصْداً، يَرْكَبُوا قَصْداً، وَ يَعُودُوا بِمَا سِوَى ذَلِكَ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، وَ يَرْمُوا بِهِ شَعَثَهُمْ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ مَا يَأْكُلُ حَلَالًا، وَ يَشْرَبُ حَلَالًا، وَ يَرْكَبُ حَلَالًا، وَ يَنْكِحُ حَلَالًا، وَ مَنْ عَدَا ذَلِكَ كَانَ عَلَيْهِ حَرَاماً.
ـ ثُمَّ قَالَ ـ ﴿ … وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ 2 ، أَ تَرَى اللَّهَ ائْتَمَنَ رَجُلًا عَلَى مَالٍ، يَقُولُ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ فَرَساً بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَ تُجْزِيهِ فَرَسٌ بِعِشْرِينَ دِرْهَماً، وَ يَشْتَرِيَ جَارِيَةً بِأَلْفٍ، وَ تُجْزِيهِ جَارِيَةٌ بِعِشْرِينَ دِينَاراً.
ـ ثُمَّ قَالَ ـ ﴿ … وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ 2” 3.
علامة المسرف
المسرف هو الإنسان الذي لا يقنع بالاستفادة من الأموال التي أعطاها الله عَزَّ و جَلَّ إياه و جعلها أمانة بيده بقدر ما ترتفع به حاجته بل يتعدى هذا المقدار فيشكل زيادة صرفه ضرراً على غيره ممن جعل الله لهم حقوقاً في أمواله التي بيديه.
قال الامام أمير المؤمنين عليه السلام: “إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَرَضَ فِي أَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ أَقْوَاتَ الْفُقَرَاءِ، فَمَا جَاعَ فَقِيرٌ إِلَّا بِمَا مُتِّعَ بِهِ غَنِيٌّ، وَ اللَّهُ تَعَالَى سَائِلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ” 4.
و رَوَى الْأَصْبَغُ بْنُ نُبَاتَةَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السَّلام أَنَّهُ قَالَ: “لِلْمُسْرِفِ ثَلَاثُ عَلَامَاتٍ: يَأْكُلُ مَا لَيْسَ لَهُ، وَ يَشْتَرِي مَا لَيْسَ لَهُ، وَ يَلْبَسُ مَا لَيْسَ لَهُ” 5.
حد الاسراف
ذكرت الاحاديث الشريفة أن حد الاسراف هو الصرف الزائد عن الحاجة، أو الصرف الخاطئ المؤدي إلى إتلاف أو تعطيل الاستفادة الصحيحة من شيء يمكن الانتفاع به.
فعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صَالِحٍ، قَالَ قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ 6 عليه السَّلام: أَدْنَى مَا يَجِيءُ مِنْ حَدِّ الْإِسْرَافِ؟
فَقَالَ: “ابْتِذَالُكَ ثَوْبَ صَوْنِكَ 7، وَ إِهْرَاقُكَ 8 فَضْلَ إِنَائِكَ، وَ أَكْلُكَ التَّمْرَ وَ رَمْيَكَ النَّوَى هَاهُنَا وَ هَاهُنَا” 9.
اعادة تدوير النفايات و تجنب الاسراف
الإسلام يدعو من خلال الآيات القرآنية الكريمة و الاحاديث الشريفة إلى ترسيخ ثقافة تجنُّب الاسراف و الابتعاد عن التبذير على كافة الأصعدة و المستويات سواءً في ذلك المستوى الفردي و الاجتماعي، ذلك لأن الموارد الطبيعية التي أنعم الله بها على الناس هي لجميع الأجيال و يجب الحفاظ عليها من خلال إتخاذ الاجراءات الدقيقة و المدروسة و إدارة أمور صرفها بحكمة اقتصادية حتى يعود نفعها على الجميع و تدوم هذه الموارد إلى أمد بعيد.
و لعل أفضل مثال في العصر الحاضر على لزوم و أهمية تجنب الاسراف و التبذير و الفوائد المترتبة عليه هو عدم إلقاء ما يزيد و يفضل عن حاجتنا في سلة القمامة، و ذلك لإمكانية تدوير النفايات و إعادة تصنيع الاشياء بشكل عصري و واسع الأمر الذي له فوائد كبيرة منها الحفاظ على سلامة البيئة و حماية الموارد الطبيعية من النفاد، و معالجة مشكلة النفايات، و إيجاد فرص عمل جديدة، و غيرها.
ملاحظة هامة
لا بُدَّ و أن نعرف بأن الاسراف إنما نُهي عنه لأن فيه تضييع للمال و لأن الصرف الزائد عن الحاجة هو من مصاديق الباطل الذي يكرهه الله، أما اذا كان صرف المال في وجوه الخير و فيما أمر الله به و فيما يرتضيه فهو من المعروف فلا يُعدُّ إسرافاً.
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه و آله) أنَّهُ قَالَ: “لَا خَيْرَ فِي السَّرَفِ، وَ لَا سَرَفَ فِي الْخَيْرِ” 10.
- 1. أي الإمام جعفر بن محمد الصَّادق (عليه السَّلام)، سادس أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
- 2. a. b. القران الكريم: سورة الأنعام (6)، الآية: 141، الصفحة: 146.
- 3. وسائل الشيعة (تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة) : 11 / 500 ، للشيخ محمد بن الحسن بن علي، المعروف بالحُر العاملي، المولود سنة: 1033 هجرية بجبل عامل لبنان، و المتوفى سنة: 1104 هجرية بمشهد الإمام الرضا (عليه السَّلام) و المدفون بها، طبعة: مؤسسة آل البيت، سنة: 1409 هجرية، قم / إيران.
- 4. نهج البلاغة: 533، طبعة صبحي الصالح.
- 5. من لا يحضره الفقيه : 3 / 167 ، للشيخ أبي جعفر محمد بن علي بن حسين بن بابويه القمي المعروف بالشيخ الصدوق ، المولود سنة : 305 هجرية بقم ، و المتوفى سنة : 381 هجرية ، طبعة انتشارات إسلامي التابعة لجماعة المدرسين ، الطبعة الثالثة ، سنة : 1413 هجرية ، قم / إيران .
- 6. أي الإمام جعفر بن محمد الصَّادق (عليه السَّلام) ، سادس أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
- 7. ثوب الصون: هو الثوب الذي يُرتدى في المناسبات و المجالس، و بلبسها يصون الإنسان عرضه، و أما ثوب البذلة: فهو الثوب الذي يُرتدى في الحالات العادية كحال القيام بالأعمال و الخدمات، حيث قد يتلوث ثوب الإنسان جراء قيامه بتلك الأعمال مما قد يؤدي إلى تلف الثوب.
- 8. إهراق الماء: صب الماء و سكبه على الأرض و عدم الانتفاع به.
- 9. الكافي: 4 / 56 ، للشيخ أبي جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الكُليني، المُلَقَّب بثقة الإسلام، المتوفى سنة: 329 هجرية، طبعة دار الكتب الإسلامية، سنة: 1365 هجرية / شمسية ، طهران / إيران.
- 10. مستدرك وسائل الشيعة: 15 / 264 ، للشيخ المحدث النوري، المولود سنة: 1254 هجرية، و المتوفى سنة: 1320 هجرية، طبعة: مؤسسة آل البيت، سنة: 1408 هجرية، قم / إيران.